إضاءة على –

وعد بلفور

إضاءة على –
وعد بلفور
وعد فلسطين للغير

عرض جدول الأحداث

آرثر جيمس بلفور

وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر جيمس بلفور.

Source: 
George Grantham Bain Collection, Library of Congress

يعدّ وعد بلفور ، الذي التزمت فيه بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى بتأييد إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، من دون أدنى شك أحدَ أكثر الوثائق السياسية تأثيراً في القرن الماضي، فإدراج هذا الوعد ضمن صك انتداب بريطانيا من عصبة الأمم على فلسطين، يعني بشكل أو بآخر أنّ القانون الدولي يضمنه، وبالتالي أصبح وعد بلفور المبدأ التوجيهي للحكم البريطاني للبلاد خلال السنوات الثلاثين التالية، ليتمّ تنفيذه النهائي مع قيام إسرائيل في سنة 1948، ما غيّر  وجه الشرق الأوسط وتاريخه.

كان الوعد على شكل رسالة قصيرة بتاريخ 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 موجّهة من وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر جيمس بلفور إلى رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد ، بعد موافقة مجلس الوزراء البريطاني على الوعد، الذي أتى نصّه على النحو التالي:

"إنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل أقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنّه لن يُؤتى بأيّ عمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".

كان وعد بلفور ثمرة جهود مناصري الصهيونية داخل الحكومة البريطانية (بمن فيهم بلفور، ورئيس الوزراء ديفيد لويد جورج ، وعضو مجلس اللوردات هربرت صموئيل ) وخارجها. وقد لعب حاييم وايزمن ، رئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني منذ شباط/ فبراير 1917 والمتحدث الصهيوني الحيوي والمقنع جداً، دوراً بالغ الأهمية في تلك الجهود، إذ كان على علاقة وثيقة وطويلة الأمد مع كلّ من بلفور ولويد جورج وونستون تشرتشل والشخصيات النافذة الأخرى من النخبة السياسية.

من منظور استراتيجي، أمل المسؤولون البريطانيون أن يؤدي "النظر بعين العطف" إلى مسألة إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين إلى كسبهم تأييد يهود الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا جهودَهم الحربية، كما هدفوا أيضاً إلى ترسيخ مطالبتهم بفلسطين بعد الحرب، التي تدعم سيطرتهم على مصر وقناة السويس .

تمّ إعداد الوعد وصياغته في خضمّ الحرب العالمية الأولى، عندما كانت بريطانيا العظمى وفرنسا تفكّران في الاستيلاء على المقاطعات العربية التابعة لـ الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب، متوقّعتيْن انتصار الحلفاء على دول المحور بقيادة ألمانيا. وكان سبق لهاتَين القوتَين الغربيتَين أن تفاوضتا بموافقة الإمبراطورية العثمانية ، على توزيع المقاطعات العربية بين مجالَي النفوذ الفرنسي والبريطاني، ليكون كلّ من لبنان وسوريا تحت السيطرة الفرنسية وكلّ من العراق و شرق الأردن وجزء من فلسطين (منطقة حيفا -عكا ، والمنطقة الممتدة من غزة إلى البحر الميت بما فيها النقب ) تحت السيطرة البريطانية. أما باقي فلسطين، فيكون تحت إدارة دولية. ووقّع البلدان على المعاهدة السرية (المعروفة باسم اتفاقية سايكس-بيكو ) في شهر أيار/ مايو 1916، ولكن لم يتمّ الإعلان عنها على الملأ إلا في تشرين الثاني 1917 بعد الثورة البلشفيّة . غير أنه في الفترة ذاتها، كان المندوب السامي البريطاني في مصر السير هنري مكماهون ، قد وعد سراً الشريف حسين ، شريف مكة ، بأنّ بريطانيا ستدعم الاستقلال العربي بعد الحرب، وبناءً على هذه الضمانات أَطلقت قوةٌ عسكرية عربية تحت قيادة الأمير فيصل ابن الشريف حسين، ثورةً ضدّ العثمانيين في حزيران/ يونيو 1916.

تناقض وعد بلفور بشكل مباشر مع وعود بريطانيا للعرب، فبعد وقت قصير من صدوره دخلت القوات البريطانية فلسطين واستولت على القدس في كانون الأول/ ديسمبر 1917، ثم لتكمل احتلال البلد مع حلول تشرين الأول/ أكتوبر 1918.وتمّ فرض حكومة عسكرية في فلسطين، الأمر الذي سمح ببدء تكريس دعائم الوطن القومي اليهودي على الأرض وفق وعد بلفور حتى قبل انتداب بريطانيا على فلسطين رسمياً: ففي تموز/ يوليو 1920، أصبح صهيوني معروف هو السير هربرت صموئيل، أوّل مندوب سامٍ في فلسطين، وفي آب/ أغسطس وافقت الإدارة المدنية الجديدة على أوّل مرسوم هجرة يهودية، فشرَّعت بذلك أبواب فلسطين أمام الهجرات اللاحقة.

في هذه الأثناء، أسس مؤتمر باريس للسلام عام 1919 عصبة الأمم، وأدخل إلى القانون الدولي مفهوم "الوصاية" المعروف باسم نظام الانتداب. وتوضح المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، أنّ أراضي الدول المهزومة ستخضع "لوصاية الدول المتقدمة" بالنيابة عن العصبة إلى حين تتمكّن من حكم نفسها بنفسها. وعلى وجه التحديد، اعترفت المادة 22 بأنّ المقاطعات العربية التي كانت تابعة للسلطة العثمانية هي "دول مستقلة" خاضعة للمساعدة الإدارية لقوة منتدَبة. وعلى رغم أنّ ميثاق عصبة الأمم نصّ على أنّه يجب أن تكون لرغبات المجتمعات "المقام الأول في اختيار الدولة المنتدَبة"، تمّ منح الانتداب على فلسطين (كما شرق الأردن والعراق) إلى بريطانيا في مؤتمر سان ريمو في نيسان/ أبريل 1920.

اشتمل صكّ الانتداب على فلسطين، الذي وافق عليه مجلس عصبة الأمم في 24 تموز 1922، على ديباجة و28 مادةً:

أكّدت الديباجة التزام بريطانيا المشروع الصهيوني بالعبارات عينها المبيّنة في وعد بلفور، وبررت ذلك بحجة لم ترد في وعد وزير الخارجية البريطاني  وهي اعترافها "بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين". أما بخصوص الإشارة إلى غالبية سكان فلسطين (حوالى 90 في المئة وفقاً للتعداد البريطاني سنة 1922، وكانت من العرب المسلمين والمسيحيين)، فقد كررت الديباجة عبارة "الطوائف غير اليهودية في فلسطين"، ومبدأ عدم الانتقاص من "الحقوق المدنية والدينية" لهذه الطوائف، وأغفلت هي أيضاً ذكر حقوق العرب السياسية أو الوطنية.

مقابل تقييد الحقوق العربية والإشارة إليها باقتضاب في الديباجة، كانت مواد صكّ الانتداب محشوة بالنصوص التي تفصل مسؤوليات بريطانيا المختلفة لرعاية المشروع الصهيوني في فلسطين: فالمادة الثانية جعلت بريطانيا مسؤولة "عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي"، والمادة الرابعة اعترفت بـ المنظمة الصهيونية (تحت اسم الوكالة اليهودية ) باعتبارها الجهة المسؤولة عن "إسداء المشورة والتعاون مع بريطانيا" بشأن المسائل كافة التي "قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين"، في حين لم يتمّ الاعتراف بهيئة مماثلة للغالبية العربية. أما المادة السادسة، فضمنت التزام بريطانيا "تسهيل هجرة اليهود وتشجيع استيطانهم الوثيق على الأرض، بما فيها الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية". وشدّدت المادة السابعة على أنّ يتضمّن قانون الجنسية الجديد "نصوصاً تسهّل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود"، ومنحت المادة 22 اللغة العبرية مكانةً معادلة للغة العربية كلغة رسمية في فلسطين... وهلم جرّا.

دخل الانتداب على فلسطين حيز التنفيذ رسمياً في 29 أيلول/ سبتمبر 1923، وأبدى السكان العرب منذ البداية معارضتهم لسياسة بلفور بطرق عديدة، بما في ذلك التظاهرات والاشتباكات العنيفة في نيسان 1920 وأيار 1921. وقد هيمنت معارضة وعد بلفور على جداول أعمال اجتماعات المؤتمر العربي الفلسطيني (الذي عقد في كانون الثاني/ يناير وفي شباط 1919، وفي أيار 1920، وفي كانون الأول 1920، وفي حزيران 1921، وفي آب 1922، وفي حزيران 1923 وحزيران 1928) والوفود التي أرسلها إلى لندن (من آب 1921 إلى تموز 1922، وتموز 1923، ونيسان 1930). وكانت المعارضة الفلسطينية المستمرّة الدافع وراء الكتاب الأبيض الذي أصدره وزير المستعمرات ونستون تشرشل سنة 1922، الذي سعى فيه إلى توضيح أنّ نيّة بريطانيا كانت إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وليس تحويل مجمل فلسطين إلى وطنٍ لليهود، لكنّ هذا التوضيح لم ينفع بشيء في تهدئة الأغلبية العربية من سكّان البلاد، فقد ووجهت لجان التحقيق المتعاقبة (لجنة كينغ - كرين الأميركية سنة 1919، لجنة بالين للتحقيق البريطانية سنة 1920، لجنة هايكرافت سنة 1921 واللجان البريطانية المتعاقبة كافة حتى نهاية الانتداب) بمعارضة عربية هائلة لسياسة بلفور وتبعاتها.

وفي إطار الرد على التحركات العربية، شلّت الحكومة البريطانية جميع جهود السكان العرب الفلسطينيين الهادفة إلى تحقيق الاستقلال، حيث كانت في الواقع تعتبر أيّ تحرك للحصول على أي تمثيل داخل الإدارة -ولو كان نسبياً- أو امتيازات ربما تعكس شيئاً من إرادة الأغلبية، تنصلاً من التزامها بمشروع بناء وطن قومي لليهود في فلسطين.

وبقي التوتر الناتج عن التلكؤ البريطاني في المساعدة على "تقرير المصير" الذي وعدت به عصبة الأمم، والتفضيل الذي يبديه الانتداب للتطلعات القومية الخاصة بأقلية غريبة إلى حدّ كبير، مصدراً دائماً للصراع وعدم الرضا طوال فترة الانتداب، تماماً كما التحوّل الذي أحدثه تدفّق المهاجرين اليهود وتطوير المؤسسات الصهيونية. وبينما تلقت المناطق الأخرى الخاضعة للانتداب البريطاني استقلالاً اسميّاً (العراق في سنة 1932 والأردن في سنة 1946)، وضع الانتداب في فلسطين بنًى أتاحت للحركة الصهيونية الهيمنة على السكان الأصليين، ما جعلهم في عام 1948 يذوقون التشرد والطرد بدلاً من الاستقلال.

إذا كان للعرب واليهود أن يتفقوا يوماً على شيءٍ، فعلى الأهمية الحاسمة لوعد بلفور بالنسبة إلى كليهما، ففي حين يستعيد العرب في جميع أنحاء فلسطين منذ سنة 1918، يوم 2 تشرين الثاني (يوم "وعد بلفور") كيوم حداد، ويسيِّرون فيه التظاهرات وينظمون الإضرابات العامة ويفجّرون الثورات (وضع القمع البريطاني لثورة 1936 حداً لها)، يعتبر المجتمع اليهودي في فلسطين هذا اليوم عيداً وطنياً، ويحتفلون به منذ سنة 1918 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية .

ونظراً إلى ما كان يكتنف المشروع الصهيوني في سنة 1917 من احتمالات تعثر، وإلى الوقائع على الأرض، لسنا نبالغ لو قلنا إنه لولا وعد بلفور لما وُجِدَت إسرائيل.

قراءات مختارة: 

إبراهيم، جميل عطية وصلاح عيسى. "صك المؤامرة: وعد بلفور 1917/11/2". القاهرة: دار الفتى العربي، 1991.

الخالدي، وليد. "فلسطين والدراسات الفلسطينية بعد قرن من الحرب العالمية الأولى ووعد بلفور". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 99، صيف 2014.

الخالدي، وليد. "قبل الشتات: التاريخ المصوَّر للشعب الفلسطيني، 1876 – 1948"، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1987.

الهنيدي، سحر. "التأسيس البريطاني للوطن القومي اليهودي، فترة هربرت صامويل، 1920-1925". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003.

Jeffries, J. M. N. The Palestine Deception, 1915–1923: The McMahon-Hussein Correspondence, the Balfour Declaration, and the Jewish National Home, ed. William M. Mathew. Washington, DC: Institute for Palestine Studies, 2014.

t