إضاءة على –

لجنة كينغ- كرين لسنة 1919

إضاءة على –
لجنة كينغ- كرين لسنة 1919
تأسيس لنمط مبادرات ’سلام’ عقيمة

عرض جدول الأحداث

لجنة كينغ- كرين

أعضاء لجنة كينغ- كرين في دمشق. الجالسون إلى الطاولة (من اليسار إلى اليمين) هم المفوّضون تشارلز ر. كرين، وهنري تشرشل كينغ، وألبرت هاو ليبير؛ أما الجالس في أقصى اليمين فهو جورج آر.مونتغمري. ويقف سامي حداد (بالبدلة البيضاء) خلف كرين.

1919
Source: 
Oberlin College Archives

شَكّلت لجنة كينغ- كرين سنة 1919 حلقةً أولى فيما سيصبح مسلسلاً طويلاً جداً من لجان التحقيق التي أُرسلت إلى فلسطين للاستقصاء عن الصراع العنيف مع الصهيونية/ إسرائيل ولإيجاد مسارٍ نحو السلام. ولجنة كينغ- كرين، التي أرسلها رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون في أثناء انعقاد مؤتمر باريس للسلام الذي سيقوم باقتسام الشرق الأوسط ما بعد العثماني بين القوى الأوروبية، كان يقودها رجل الأعمال تشارلز ر. كرين ( Charles R. Crane ) وأستاذ التاريخ والقسّ المُرسَّم هنري تشرتشل كينغ ( Henry Churchill King ). وقام ويلسون بإرسالهما مع سبعة رجال آخرين إلى فلسطين والمنطقة لتقييم "وضع الرأي العام هناك بشأن [الشرق الأوسط ما بعد العهد العثماني] والأوضاع الاجتماعية والعرقية والاقتصادية"، بما يساعد في إرشاد مؤتمر السلام بشأن تخصيص الانتدابات. وكان الهدف، كما ورد في تقرير اللجنة، التأكّد من "تمكُّن الرئيس ويلسون والشعب الأميركي من التصرّف على أرضية معرفةٍ تامةٍ بالوقائع في أي سياسة يمكن الدعوة لتبنّيها بعد ذلك فيما يتعلّق بقضايا الشرق الأدنى- سواء في مؤتمر السلام أو في عصبة الأمم".

وقد أثارت لجنة كينغ-كرين اهتماماً كبيراً لدى شعب فلسطين، فقد تابعت الصحافة العربية تطوّر تعيينات اللجنة وتنقّلاتها باهتمامٍ ومثابرة. وكانت التصريحات العلنية للرئيس الأميركي محفّزةً لهذا الاهتمام، ففي خطابه ذي "النقاط الأربع عشرة"، الذي ألقاه أمام جلسة مشتركة للكونغرس في 8 كانون الثاني/ يناير 1918، وعد ويلسون بأن تكون "مصالح السكّان المعنيين" مرشداً لتسوية ما بعد الحرب، وأكد ضرورة "أن يُضمَن للقوميات الأُخرى التي تخضع للحكم التركي أمنُ حياةٍ لا شك فيه وفرصةُ تطوّرٍ مستقلّ بلا أي إعاقة بالمطلق". وعاد الرئيس ويلسون وأكد في 11 شباط/ فبراير، في خطاب آخر أمام الكونغرس، أن "تقرير المصير ليس مجرد ألفاظ" وإنما هو "مبدأٌ إلزاميٌ للعمل".

وتطلّع العرب في سوريا، بما في ذلك سكان "سوريا الجنوبية"، أي فلسطين، بأملٍ ظاهرٍ لتحقيق استقلالهم، إذ دعا المؤتمر السوري العام، الذي عقد في دمشق في حزيران/ يونيو-تموز/ يوليو 1919 خلال وجود لجنة كينغ-كرين بمشاركة عدد من المندوبين الفلسطينيين، إلى استقلال سوريا وصيانة وحدتها و"عدم فصل القسم الجنوبي من سوريا، المعروف بفلسطين، والمنطقة الساحلية التي من جملتها لبنان عن القطر السوري". وناقش الناس كيفية تقديم مطالبهم السياسية للأميركيين في العديد من المقالات والتعليقات في الصحف. وكان هناك من عبّروا عن شكوكهم تجاه اللجنة في الصحافة الإقليمية، طارحين علامات استفهامٍ بشأن صدقية الوعود الأميركية. لكن المناخ العام كان مناخ توقّعٍ مُفعمٍ بالأمل. واعتبرت الصحف أن اللجنة تحمل "مهمةً تاريخيةً كبيرة" ينتظرها عربُ الشرق الأوسط بـ"فارغ الصبر".

وكان من المخطّط له في البدء أن تضمَّ اللجنة ممثّلين عن بريطانيا وفرنسا، لكن هاتين الحكومتين لم تكونا متحمّستين لهذا الاستقصاء، إذ لم يكن لديهما شغفٌ كبيرٌ لمعرفة الآراء السلبية التي يحملها العرب تجاه أطماعِهما الإمبراطورية. وكان هناك بعض الدلائل بأن موظفين بريطانيين سعَوا لترتيب استقبال اللجنة في فلسطين بحيث يتمّ التأثير فيمن وإلى ماذا تستمع إليه اللجنة. ووفق ما ذكره ويليام ييل ( William Yale )، الذي كان "مستشاراً تقنياً" للمحقّقين، فإن الحاكم العسكري البريطاني في القدس، رونالد ستورز ( Ronald Storrs )، تبجّح بأنه يستطيع وضع اللجنة "في جيبه عندما تصل إلى فلسطين". وسجّل ييل بفخرٍ في أوراقه أنه وجّه اللجنة للنزول في يافا من دون إبلاغ العسكريين البريطانيين مسبقاً، لضمان تمكين المحقّقين من الاتصال بمن يرغبون في رؤيته بكل حرية. وفي بيروت، حاول المسؤولون الفرنسيون حصر اختيار الممثّلين العرب بأولئك الذين سيبلغون اللجنة بآرائهم الموالية لفرنسا. لكن طوال إقاماتهم استمعَ المحقّقون إلى طيفٍ واسع من الناس الذين يحملون وجهات نظرٍ متنوعة، من الوجهاء السياسيين، إلى العمال، والنساء، والعاملين بالتجارة. وما سمعوه من معظم الناس في فلسطين كان مطالبةً بالاستقلال السياسي.

وفهم الفلسطينيون – كما آخرون- عبارات ويلسون بأنها تعني أنهم هم أيضاً سيتمتّعون بالاستقلال السياسي، بعيداً عن القهر الإمبراطوري أو الاستعماري الاستيطاني. وكان خيار الناس واضحاً: نيل الاعتراف بالوحدة والاستقلال العربيين. وكان أولئك الذين مثّلوا سوريا الجنوبية - وهو التعبير الذي أصبح مرادفاً لفلسطين - أمام اللجنة يؤمنون بأنه من العدل أن تبقى فلسطين "جزءاً طبيعياً" من سوريا الكبرى، طالما أنه، من وجهة نظرهم، هي جزءٌ لا يتجزّأ من وطنٍ تجمعُه روابطُ دينيةٌ ولغويةٌ وأخلاقيةٌ واقتصاديةٌ وجغرافية. وكانوا مقتنعين بأن التسامح الديني والآليات الديمقراطية لحكم الذات تشكّل الروافع المُثلى لتنظيم الحياة الدولية للجميع، وبأنهم يتشاطرون الالتزام بالديمقراطية التمثيلية مع الغربيين، الذين كانوا يقرّرون مصير الشعوب في الإمبراطوريات المهزومة. ومن خلال التزامها المعلن بالاستماع إلى رأي الناس، وبدعم حكمٍ قائمٍ على التمثيل الشعبي، وباحترام الوقائع، أشاعت لجنة كينغ- كرين التفاؤل بأن الإمبريالية في الشرق الأوسط وصلت إلى نهايتها.

وأمضت اللجنة، التي بدأت جولتَها من يافا، عشرةَ أيامٍ من رحلتِها ذات الـ42 يوماً في فلسطين. واستمعت إلى إفادات الوفود وجمعت العرائض من جماعاتٍ متعددة. ووفق تصنيف اللجنة للوفود، كان هناك بين من التقت بهم زعماءٌ دينيون، وتجارٌ، ورؤساء بلديات، ووجهاءٌ، وشيوخٌ، وأعضاء مجالس إدارية، وممثلون عن القبائل، ومزارعون، وبعض المجموعات النسائية. واشتملت أغلبيةٌ من الـ260 عريضةً التي جمعتها اللجنة في فلسطين- وكل واحدة منها حملت تواقيع أو أختام العشرات من المطالبين - على دعواتٍ مناهضة للمشروع الصهيوني، وعلى رفضٍ لفكرة كون اليهود شعباً متميّزاً مؤهّلاً لحقوقٍ سياسيةٍ متفرّدة. وتنبّأ الممثّلون السياسيون العرب من فلسطين أمام الدبلوماسيين الأميركيين في اللجنة بدمارهم: "إذا جاء اليهود إلى بلادنا، فهم لا يأتون للتعايش والتشارك معنا في البلاد، وإنما بِنيّة إلغائِنا، وبناء أمّتهم على أنقاض أمّتنا". وسجّل أكرم زعيتر، الوطني الفلسطيني ومؤرّخ الأحداث المعاصر، أن اللجنة أقرّت بالشعور الوطني الناضج للعرب، وتشكّلت لديه قناعةٌ بأن الأسلوب الموحّد الذي عبّر الناس من خلاله عن مطالبهم السياسية ترك أثراً قوياً لدى اللجنة. وأشار إلى أن التهاني انهمرت من أنحاء البلد على شعب فلسطين لـ"نجاحه الكبير، ووطنيته المُقْنِعة، وتوافقِه المتين".

ومع أن الممثّلين العرب أمام اللجنة أوصلوا رغباتِهم السياسية بحججٍ منطقيةٍ مقدّمين وجهات نظرهم بخطابٍ عقلانيٍ ومُظهرين التزامهم بالسياسات الديمقراطية، إلاّ إن بعض الأميركيين، الذين لم يرَوا فيما سمعوه سوى عواطف غير ملائمة، استمروا في تشكّكهم. فعروض العرب المنتظمة لم تترك تأثيراً قوياً لدى ييل، الذي لم يقتنع بأن ولاءً قومياً كافياً يجمعهم. وفي سياق جهود الممثّلين العرب المكثّفة لتأكيد أن المطالب التي قدموها للجنة تعبّر فعلاً عن مطالب شعبهم، قدّموا عرائضَ تدعو إلى دولةٍ غير فئوية توفّر حمايةً ديمقراطية لحقوق الأقلّيات. لكن ييل اشتمّ تعصباً دينياً ونبراتٍ مُقلقةً من النزعة القومية العربية الجامعة والنزعة الإسلامية الجامعة كذلك. واعتبر أن الاعتراضات العربية على الوصاية الغربية نبعت من "شعورٍ عميقٍ بالعداء للغرب"، أكثر منه شعوراً بالانتماء القومي.

ومما أضفى على اللجنة طابعاً متميّزاً كونها سجّلت، بأمانةٍ إلى حدٍّ كبير، تطلّعات العرب في المنطقة، إذ طالبت أغلبيةٌ منهم بإقامة مملكةٍ دستوريةٍ ديمقراطية في سوريا الكبرى موحّدة، مع التأكيد بأنه سيتمّ ضمان مكانةٍ متساوية للأقلّيات الدينية في دولةٍ مستقلةٍ كهذه. واستمعت اللجنة إلى تطميناتٍ من العديد من الناس في فلسطين بأنه، في دولتهم المستقبلية، سيتمّ اعتبار اليهود والمسيحيين الذين نشأوا في البلد مواطنين بحقوقٍ وواجباتٍ متساوية، في تمييزٍ بين الصهيونيين المستعمِرين والسكّان اليهود المحليين المقيمين بفلسطين. مع ذلك، أوصت لجنة كينغ- كرين بأن يُطوّر البرنامج الصهيوني وطناً قومياً يهودياً محدوداً في فلسطين، وهو ما يجعل التقرير ذا أهميةٍ في تاريخ الصراع العربي- الصهيوني. كما أوصى تقرير اللجنة بأن تتصرّف الولايات المتحدة كقوةٍ منتدبة للدولة السورية الجديدة، التي تشمل فلسطين ولبنان.

لقد كانت مطالب الفلسطينيين بالاستقلال الوطني في إطار وحدة سوريا الكبرى مقنعةً بالنسبة إلى العديد من أعضاء لجنة كينغ- كرين، لكنها لم تتمكّن من تغيير رأي الغربيين الذين قرّروا مصير فلسطين وعرب آخرين بعد الحرب العالمية الأولى. وهم لم ينجحوا في إقناع القوى الغربية بمنحهم الاستقلال كدولةٍ قوميةٍ عربية. وجرى إعطاء فلسطين كوطنٍ قوميٍ للصهيونيين بحمايةٍ بريطانية، كما تمّ تسليم بقية سوريا الكبرى للقوى الغربية في إطار المخطّط الانتدابي لعصبة الأمم. ومن الممكن أن الرئيس الأميركي ويلسون لم يتسنَ له رؤية نسخةٍ عن التقرير، الذي لم يتم تداولُه علناً قبل سنة 1922، حين قامت مجلة "المحرّر والناشر" (Editor and Publisher) بنشره أخيراً، في حين نُشرت ملخّصات وترجمات له في الصحف العربية.

وعلى الرغم من أن تقرير كينغ- كرين لم يكن له تأثيرٌ في حينه - كان بعض أعضاء اللجنة على قناعةٍ بأن وزارة الخارجية الأميركية والصهيونيين مسؤولون عن حجب التقرير-، فإنه يبقى شهادة ودليل إثباتٍ على القيم السياسية والمبادئ القانونية الدولية التي كانت تسود في المنطقة في ذلك الزمن: الديمقراطية، والحكم التمثيلي، والمواطنة المتساوية، وحماية الإقليات. ولو احتُرمت هذه القيم ومُنح العرب الاستقلال الذين كانوا يطالبون به، فربما كان بالإمكان تفادي قرنٍ لاحقٍ من الصراع وإراقة الدماء.

 

قراءات مختارة: 

دروزة، محمد عزت. "حول الحركة العربية الحديثة. المجلد الأول". بيروت-صيدا: منشورات المكتبة العصرية، 1949.

فرومكين، دافيد: سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط، 1914-1922 (ترجمة أسعد كامل الياس). لندن: شركة رياض الريس للكتب والنشر، 1992.

"وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918-1939: من أوراق أكرم زعيتر". أعدتها للنشر بيان نويهض الحوت. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984.

Allen, Lori. A History of False Hope: Investigative Commissions in Palestine. Stanford, CA: Stanford University Press, 2020.

Allen, Lori. “Determining Emotions and the Burden of Proof in Investigative Commissions to Palestine.” Comparative Studies in Society and History, vol. 59, no.2 (2-17), pp. 385-414.

Arsan, Andrew. “Versailles: Arab Desires, Arab Futures.” Public Books, January 26, 2021. https://www.publicbooks.org/versailles-arab-desires-arab-futures/

Crane, Charles K. and Henry Churchill King. “Report of the American Section of the International Commission on Mandates in Turkey.” Papers Relating to the Foreign Relations of the United States, The Paris Peace Conference, 1919, Volume XII. Washington, DC: US Government Printing Office, 1947.

Makdisi, Ussama. Faith Misplaced: The Broken Promise of U.S.-Arab Relations: 1820-2001.  New York: Public Affairs/ Perseus Books, 2010.

Patrick, Andrew. America’s Forgotten Middle East Initiative: The King-Crane Commission of 1919. London:  I. B. Tauris, 2015.

t