خطاب ياسر عرفات
أمام المجلس التشريعي الفلسطيني
رام الله، 15 أيار/ مايو 2002
(انا للننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) صدق الله العظيم
الأخ أحمد قريع أبو علاء رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني المحترم، الأخوات والأخوة أعضاء المجلس التشريعي المحترمين، السيدات والسادة الحضور،
إنه ليسعدني ويشرفني أن أتحدث إليكم اليوم وأنتم تعقدون هذه الجلسة الهامة لمجلسنا التشريعي الفلسطيني المنتخب والذي حمل ويحمل إلى جانب المجلس الوطني الفلسطيني الأعباء الجسام والمسؤوليات التاريخية الملقاة على كاهلهم، وشعبنا الفلسطيني الصامد الصابر المرابط يجتاز بعناد وصلابة، هذه المرحلة الانتقالية والتي طال أمدها بين الاحتلال وبين الاستقلال وبين العبودية والحرية، وكان قدرنا جميعاً وقدر جيلنا وقدر شعبنا أن نعاني كل هذه المعاناة، لأن مطلبنا وهدفنا وحلمنا هو الحرية الحقيقية والاستقلال الكامل في دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
واسمحوا لي، أيها الأعزاء أعضاء المجلس التشريعي، أن نذكر أنفسنا بهذا اليوم الخامس عشر من أيار ذكرى نكبة شعبنا وما عاناه ولا زال يعانيه شعبنا من آلام وهو صامد أمام كل هذه الظروف الصعبة والتحديات التاريخية لشطبه من الخريطة السياسية والجغرافية في منطقة الشرق الأوسط وهذا الشعب شعب الجباري يدافع عن أرضه المقدسة ومقدساته المسيحية والإسلامية ويكتب هذه الملحمة البطولية التي خاضها ويخوضها شعبنا الفلسطيني البطل وكل قواه المناضلة من أجل أن يظفر بالحرية والاستقلال، ومن أجل أن يعيش أبناؤنا وأجيالنا في أمن وسلام في وطن حر مستقل بعيداً عن الاحتلال والاستيطان والقمع والاضطهاد والاغتيال والاعتقال على نحو لم يسبق له مثل في المجتمع الدولي المعاصر حيث شعبنا هو الشعب الوحيد الآن في العالم الذي يعيش تحت الاحتلال.
إن السلام كان وسيبقى خيارنا الاستراتيجي ولن نتخلى عن خيار السلام بيننا وبين الإسرائيليين، لأن في السلام مصلحة مشتركة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، ولأن كافة الخيرات التي لجأت إليها الحكومة الإسرائيلية للقضاء على خيار السلام، سلام الشجعان الذي وقعته مع شريكي الراحل رابين الذي اغتالته هذه القوى المتطرفة فقد ثبت فشلها وبطلانها، ها هو الحل العسكري الإسرائيلي رغم ما ارتكبته قوات الاحتلال من قتل ونسف وتشريد وتدمير للبنية التحتية لمؤسساتنا الرسمية والتعليمية والصحية والاجتماعية وغيرها، لا ولم ولن يغير شيئاً في تصميمنا على إحراز الاستقلال والسيادة والحرية وعلى إقرار سلام الشجعان الذي تم في مؤتمر مدريد والاتفاقيات التي وقعت للسلام العادل والشامل والدائم وخاصة بعد إقرار المبادرة السعودية لولي العهد الأمير عبد الله في مؤتمر القمة العربي في بيروت مؤخراً، والاجتماع الأخير في شرم الشيخ بين الرئيس مبارك وسمو ولي العهد الأمير عبد الله آل سعود والرئيس بشار الأسد.
لقد مددنا ولا زلنا نمد يدنا إلى السلام العادل، سلام الشجعان ، السلام الذي يحقق الأمن والعدل للفلسطينيين والإسرائيليين وللمنطقة العربية والشرق الأوسط وللعالم أجمع – ليكن هذا معروفاً – والسلام لهذه الأرض، الأرض المقدسة للجميع وبكل أمانة ومسؤولية أؤكد لكم اليوم أن المحادثات التي أجريناها في كامب ديفيد كانت في منتهى الصعوبة والدقة والحساسية وشملت جميع القضايا الهامة والأساسية ورغم الجهود الخيرة والمضنية التي بذلها الرئيس كلينتون وفريقه إلا أننا لم نصل إلى اتفاق لهذه القضايا الأساسية وتابعنا كما تعرفون في شرم الشيخ التي رعاها فخامة الرئيس مبارك وباريس التي حضر جلستها الأخيرة الرئيس شيراك، وقد جاء التقدم في مفاوضات طابا – ولنعد للمؤتمر الصحافي الذي عقد مع أبو علاء وشلومو بن عام – وكان المفروض أن نتابع تنفيذها بعد الانتخابات الإسرائيلية وكلكم عشتم وعانيتم مع شعبكم وسلطتكم من جراء ما حدث بعد ذلك وما قبلها وخاصة أمام تحرك الجيش الإسرائيلي مع خططه المعدة والمرسومة كحقل الأشواك الإسرائيلية ضد شعبنا الأعزل والتي كانت شرارتها التفجيرية بعد اقتحام الحرم القدسي الشريف في عمل استفزازي سافر للمصلين في المسجد الأقصى المبارك، وما جره هذا الاقتحام الاستفزازي من إطلاق النار على المصلين وسقوط الضحايا من الشهداء والجرحى من أبناء شعبنا.
الأخ رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني الأخوات والأخوة الأعضاء،
وفي مواجهة هذه الحرب العدوانية الظالمة على شعبنا من حقل الأشواك إلى معركة المئة يوم إلى جهنم إلى المتدحرجة والمتلونة إلى السور الواقي وجماهيرنا في كل مدينة ومخيم وقرية وفي كل بلدة صامدة في وجه الاحتلال والحصار والمجازر والعدوان.
وقدمت جماهيرنا وسلطتنا الوطنية التضحيات الجسام على مدى عامين وحتى لم تسلم مدينة أو مخيم أو قرية أو بيت أو كوخ من الاستهداف العسكري الإسرائيلي بالدبابات والطائرات، والحصار الخانق، للمدن والقرى وانتشرت الحواجز الاحتلالية في كل مكان وأصابت القنابل أطفال المدارس والأمهات ودمرت البيوت على رؤوس ساكنيها ويشهد التاريخ على ما حدث في مخيم جنين وفي جنين، وستظل الجريمة الإسرائيلية ضد أهلنا في هذا المخيم البطل وفي بلاطة وعسكر ونور شمس وعايدة والفوار والدهيشة والأمعري وقدورة وبقية المخيمات، وفي نابلس ونابلس القديمة وتدمير أحد أقدم الكنائس والمساجد فيها، وفي رام الله وفي بيت لحم وكنيسة المهد المقدسة مسيحياً وإسلامياً، وفي غزة وجباليا وخان يونس ودير البلح ورفح ومخيمها وعبسان وبيت حانون وطولكرم وقلقيلية والخليل، والمقرات الرئاسية في مختلف المناطق والمحافظات والتخريب الكامل لمطار غزة الدولي وتدمير الطائرات والميناء والوزارات والإذاعة والتلفزيون وتقسيم قطاع غزة إلى كانتونات منفصلة ومقسمة. إن طريق الحرية والاستقلال والكرامة، أيتها الأخوات أيها الأخوة لم يكن يوماً مفروشاً بالورود والرياحين بل بالصمود والرباط وبالصبر والمثابرة وبالقدرة على مواجهة العدوان والمعتدين، وإن المؤامرة على شعبكم ووطنكم ولحرماننا من حريتنا واستقلالنا ودولتنا لم تتوقف وفصولها تتلاحق فصلاً بعد فصل، ومنذ ليلة 29 آذار الماضي ونحن نتعرض لعدوان إسرائيلي شامل بكافة أنواع الأسلحة من دبابات وطائرات وصواريخ، بما فيها الأسلحة المحرمة دولياً ولكن لن يكن أمامنا غير الصبر والصمود في ظل هذا الحصار العسكري لمدننا ومخيماتنا ولمقر الرئاسة في رام الله ولكنيسة المهد المقدسة ولجامع عمر في بيت لحم، ورغم رفع الحصار على مقر الرئاسة وعن كنيسة المهد في ظل أقصى الظروف، أحب أن أذكركم بأن الاتفاق مع المندوبين الأميركي والأوروبي بأن تبدأ قوات الاحتلال برفع الحصار أولاً عن كنيسة المهد إلاّ إن الحكومة الإسرائيلية تواصل توغلها واعتداءاتها اليومية في كافة المناطق غير عابئة بالاستنكار الدولي المتزايد لاعتداءاتها وجرائمها، بل وصل بها الأمر لمنع وصول لجنة التحقيق الدولية لإجراء التحقيق في جريمة جيش الاحتلال ضد أهلنا في مخيم جنين وكذلك وضع شروط تعجيزية إسرائيلية للمؤتمر الدولي الذي دعا لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة الذي حضرناه سوياً وهو أول رئيس أميركي يعلن عن هذا.
أعرف، أيتها الأخوات أيها الأخوة، أن هنالك بعض الملاحظات حول ما تم الاتفاق عليه بالنسبة للأخوة في رام الله وبيت لحم، لرفع الحصار وسحب قوات الاحتلال، إن أنني أتحمل كامل المسؤولية حول كل ما جرى خاصة وأن ما تم كان اقتراحات وضمانات دولية أميركية وأوروبية وروسية والأمم المتحدة أمام هذه الظروف الحرجة والصعبة التي تعرفونها ولا أريد الخوض كثيراً فيها قياساً للوضع والظروف التي تعرفونها جميعاً، وأترك لكم تقييم هذه التطورات بكل صدق وأمانة وانفتاح وليس هناك مسيرة وليس فيها أخطاء، بعيداً عن العواطف والمؤثرات لنتوخى الأمانة في مواجهة ما يتعرض له شعبنا وقضيتنا على مختلف الصعد.
الأخ رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني الأخوات والأخوة الأعضاء،
إن العدوان الإسرائيلي على شعبنا قائم ومستمر ومتصاعد ما دام الاحتلال والاستيطان جاثمين على أرضنا وشعبنا وفي هذه الصلابة والمرابطة الدامية (يكفي أن نرى فارس عودة وهذه الزهرة واقفين بالحجر أمام الدبابة الإسرائيلية) والمستمرة لجماهيرنا فإننا أحوج ما نكون لمراجعة خططنا وسياساتنا ولتصويب وتصحيح مسيرتنا نحو الاستقلال الوطني بكل أمانة وصدق وإيمان وصلابة (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)، وفي هذا المجال أعلنا قبل فترة ونعلن اليوم رفضنا للعمليات التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين وكذلك ما يتعرض له المدنيون الفلسطينيون مثل ما خدث في جنين في ستالينغراد وإن الرأي العام الفلسطيني والعربي قد وصل إلى هذه القناعة بأن هذه العمليات لا تخدم أهدافنا بل تؤلب علينا أجزاء كبيرة وكثيرة من المجتمع الدولي الذي خلق إسرائيل وزودها بالمال والسلاح والحماية التي تثير جدلاً وإني أدعو مجلسكم الموقر إلى التوقف عند هذه القضية الخطيرة التي تثير جدلاً، في ساحتنا الفلسطينية والعربية وأن نتذكر صلح الحديبية انطلاقاً من الحرص على المصلحة الوطنية، والقومية لشعبنا وأمتنا وعلى تعزيز التضامن العالمي مع شعبكم وقضيتكم، كما أدعو مجلسكم أن يتولى رعاية حوار وطني شامل ومعمق حول كافة قضايانا السياسية التي تحتل مكان الصدارة في الاهتمامات الوطنية والقومية والدولية والتي مركزها ترسيخ وتمحور نضالنا الوطني بكافة أشكاله لتحقيق حلم شعبنا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، في أرضنا المحتلة عام 67 كما قرر مجلسنا الوطني الفلسطيني لحظة إعلان الاستقلال وقيام الدولة المستقلة في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في عام 88.
الأخ رئيس المجلس التشريعي الأخوات والإخوة الأعضاء،
إن وضعنا الداخلي ونظامنا السياسي بعد هذا العدوان الإسرائيلي يحتاج منا إلى مراجعة شاملة تطال كافة مناحي حياتنا الوطنية، وأنتم تعلمون أننا أقمنا نظامنا السياسي على قاعدة الديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة التي أشرف عليها قادة من العالم أجمع، وأقمنا الأجهزة الأمنية وقوات الأمن الوطني والشرطة في إطار تصور مسبق بأن الفترة الانتقالية التي وردت في أوسلو ستنتهي في عام 99، وبعدها نعيد النظر في البناء السياسي والإداري والأمني لدولتنا ، إلاّ أن الأمور سارت في اتجاه مغاير تماماً بعد أن رفضت حكومة إسرايل احترام وتنفيذ الاتفاقات وشنت منذ ذلك الوقت هذه الحرب الظالمة علينا وعلى أرضنا وشعبنا ومقدساتنا المسيحية والإسلامية.
واسمحوا لي، أيتها الأخوات وأيها الأخوة، أن أطرح أمامكم بكل إخلاص وبكل مسؤولية الإعداد السريع للانتخابات وتنفيذ ما يمكن منها على كافة المستويات الرسمية والشعبية واعتماد الانتخابات الحرة الوسيلة الأساسية لاختيار القيادات سواء في هيئات المجتمع الوطني أو في التنظيمات والاتحادات والنقابات والمؤسسات الشعبية كأدوات أساسية في بناء المجتمع المدني. والتقيد بمبدأ الفصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، والمحافظة على الوحدة الوطنية وحقوق الإنسان، كما أنني ومن واقع التجربة في بناء الإدارة والسلطة أدعو إلى إعادة النظر في كافة تشكيلاتنا الإدارية والوزارية والأجهزة الأمنية بعد أن ظهرت جوانب قصور هنا وهناك لا يمكن إخفاؤها عن الرأي العام الذي يكتوي بنار الاحتلال الإسرائيلي وقد بذلنا جميعنا الجهود في البناء والعمل وقد نكون قد أخطأنا أو أصبنا في هذا الجانب أو ذاك أو في هذه المسؤولية أو تلك إلا إننا حافظنا على الأمانة وعلى الأهداف الوطنية في مقدمتها الاستقلال والحرية والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة)، عندما أقول هذا الكلام فإننا نعني جميع الأراضي العربية المحتلة حسب قاعدة مؤتمر مدريد.
المصدر: "الأيام"، 16 أيار/ مايو 2002.