كلمة حيدر عبد الشافي، رئيس الوفد الفلسطيني
مؤتمر مدريد
مدريد، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1991
بسم الله الرحمن الرحيم
في مدريد نلتقي، في المدينة التي تزخر بنسيج التاريخ، لننسج، معاً، ما يجمع بين ماضينا ومستقبلنا.
نلتقي لنؤكد، من جديد، تلك الرؤية الشمولية التي أعادت، يوماً، ميلاد الحضارة، وقدمت نظاماً جديداً، مبنياً على التناسق والانسجام، ضمن التعددية والاختلاف. ومرة أخرى يواجه الإنسان المسلم، والمسيحي، واليهودي، تحدياً بأن يحمل البُشرى بعهد جديد، متوّج بقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية، والعدالة، والأمان.
ومن مدريد، ننطلق في سعينا من أجل السلام، ومن أجل أن تكون قدسية الحياة البشرية أعلى سلم أولويات هذا العالم، ومن أجل توجيه طاقتنا، ومواردنا، نحو الازدهار، والتقدم، والسعادة للجميع، بدلاً من توجيهها نحو الدمار المتبادل.
وها نحن/ شعب فلسطين/ نقف أمامكم، نمتلىء ألماً وكرامة، بقدر ما نمتلىء بالتوقع والأمل، بعد أن طال توقنا إلى السلام، وطال حلمنا بالعدالة والحرية. وقد عانينا، طويلاً، من عدم إصغاء الآخرين إلى صوتنا، ومن محاولة إسكات هذا الصوت بل وحتى إنكاره. لقد تم إنكار هويتنا الوطنية، بسبب اعتبارات المصالح السياسية النفعية، وشُوِّه نضالنا العادل ضد الظلم. كما تم إخضاع وجودنا الحاضر ليلبي اعتبارات خلقتها مأساة حلّت في الماضي بشعب آخر.
أصحاب السعادة، أيها السيدات والسادة: وعلى مدار هذا القرن وقع شعبنا ضحية لأسطورة تقول: "هناك أرض بلا شعب"، ووُصفنا، بكل صلافة، أننا "الفلسطينيون غير المرئيين". ولكننا، وقبل هذا العمى المتعمد، رفضنا أن نختفي، ورفضنا تشويه هويتنا وجاءت الانتفاضة شهادة على صمودنا وتصميمنا.
لقد آن الأوان لكي نروي قصتنا، وأن نقف مرافعين عن الحقيقة، التي دُفنت منذ زمان في وعي هذا العالم وضميره. نحن لا نقف أمامكم متسولين، بل نقف حاملين للشعلة، مدريكن أنه، وفي عالم اليوم، لم يعد هناك أبداً من عذر للجهل بالحقيقة. نحن لا نسعى إلى اعتراف من أحد بالذنب، ولا نسعى للانتقام بسبب إجحاف لحق بنا، إنما يصدر سعينا هذا عن إرادة صادقة، يمكن لها أن تجعل من السلام حقيقة واقعة.
أيها السيدات والسادة: إننا نرفع صوتنا، عالياً، انطلاقاً من الإيمان الكامل بعدالة قضيتنا، وصدق تاريخنا، وعمق انتمائنا. وهنا، بالذات، مَكْمن قوتنا، بعد أن تجاوز شعبنا الفلسطيني جدران الخوف والصمت. نريد أن نرفع صوتنا عالياً، بكل الشجاعة والكرامة التي تستحقها روايتنا، ويستحقها تاريخنا.
لقد قامت الدولتان الراعيتان لهذا المؤتمر بدعوتنا، اليوم، لنعرض قضيتنا ونصل إلى "الآخر" الذي نواجه فيه، معاً، واقع رفض الواحد منا للآخر على أرض فلسطين. ولكن، وحتى في هذه الدعوة التي تلقيناها لحضور مؤتمر السلام هذا، تم تشويه روايتنا، ولم يتم الاعتراف بحقيقتنا إلا اعترافاً جزئياً. إن الشعب الفلسطيني شعب واحد صَهَرَه العيش قروناً من التاريخ على أرض فلسطين، وتشدّه، معاً، ذاكرة جماعية من الأحزان والأفراح المشتركة، وتجمعه وحدة الهدف والرؤية. إن أغانينا، ومواويلنا، وحكاياتنا الشعبية، وقصص أطفالنا، وعبارات نكاتنا، والصور التي ترسمها قصائد شعرنا، وتلك المسحة من الحزن التي تلون حتى أسعد لحظات حياتنا، كلها جميعاً، مهمة لنا أهمية روابط الدم التي تربط بين عائلاتنا وعشائرنا.
ومع كل هذا، فإن الدعوة التي وجهت إلينا للبحث عن السلام، ذلك السلام الذي ننشده جميعاً، نحتاجه، قد أتت إلى جزء فقط من شعبنا، متجاهلة وحدتنا الوطنية، والتاريخية، والعضوية. لقد جئنا إلى هنا بعد أن تم فصلنا، قسراً، عن إخوتنا وأخواتنا في المنفى والشتات، لنقف أمامكم نحن الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال إلا أننا نؤكد أن كل واحد منا يمثّل حقوق ومصالح كل شعبنا. وبالرغم من حرماننا من حقنا في الإعلان عن ولائنا لقيادتنا ونظام حكومتنا، على أن الولاء والانتماء لا يمكن لرقابة الرقيب أن تشطبه أو تقطع أواصره. إن قيادتنا المعترف بها هي أكثر من كونها القيادة التي اختارها ديمقراطياً كل شعبنا؛ إنها رمز هويتنا ووحدتنا الوطنية؛ إنها الوصية على ماضينا وحامية حاضرنا وأمل مستقبلنا. لقد اختار شعبنا أن يأتمنها على تاريخه والحفاظ على تراثه. وقد اعترف المجتمع الدولي بهذه القيادة، بكل وضوح ودونما أي لبس، ولم يشذّ عن هذا سوى عدد قليل، اختار، لسنوات طويلة، أن يتمسك بالظل بدلاً من الجوهر.
وبغض النظر عن طبيعة وظروف الاضطهاد، الذي نتعرض له، سواء من خلال الحرمان والتشريد في المنفى والشتات، أو من خلال وحشية وقمع الاحتلال، فإن الشعب الفلسطيني لا يمكن تمزيق وحدته. سنبقى موحدين، كشعب، حيثما نكون، أو يُفرض علينا أن نكون.
والقدس/أيها السيدات والسادة/ هذه المدينة التي لا تمثّل روح فلسطين فحسب، بل هي مهد ديانات العالم الثلاث. إن غيابها المزعوم ملموس وسطنا في هذه المرحلة. إن استثناءها، ظاهرياً، من هذا المؤتمر ـ رغم أنه استثناء مصطنع إلاّ إنه إنكار لحقها في السعي من أجل السلام، ومن أجل الانعتاق من أسرها، بعد أن عانت، هي الأخرى، من الحرب ومن الاحتلال. لقد مُنعَت القدس، مدينة السلام، من حضور مؤتمر السلام! حُرمَتْ من إيصال رسالتها. القدس الفلسطينية؛ عاصمة وطننا ودولتنا المستقبلية، والتي تحدد الوجود الفلسطيني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، حُرمَتْ من صوتها وهويتها. القدس تتحدى التفرد في تملكها أو التعلق بها. ويظل ضم إسرائيل للقدس، في نظر المجتمع الدولي، ضماً غير شرعي، بل ويشكل إهانة للسلام الذي تستحقه هذه المدينة.
جئنا إليكم من وطن معذب وشعب أسير، لكنه مكابر. ومطلوب، الآن، منا أن نتفاوض مع محتلينا، بعد أن تركنا وراءنا أطفال الحجارة، وشعباً تحت الاحتلال، وتحت نظام منع التجول وائتمنا بألا ننسى أو نتنازل. وفي الوقت الذي نخاطبكم لا يزال الآلاف من إخوتنا وأخواتنا يقبعون في سجون ومعسكرات الاعتقال الإسرائيلية. ويُحتجز معظمهم بدون دليل، أو لائحة اتهام، أو محاكمة. وقد تم التنكيل بالكثيرين، وعُذّبوا أثناء التحقيق، لا لذنب اقترفوه، سوى تطلعهم إلى الحرية، وتجرُّئهم على تحدي الاحتلال. نتحدث باسمهم ونقول: أطلقوا سراحهم.
وفي الوقت الذي نخاطبكم فيه، يئن من الألم عشرات الألوف من الجرحى والمعاقين؛ فليشف السلام جراحهم. وفي الوقت الذي نخاطبكم فيه تلازمنا، وتلاحقنا، عيون الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948، ومن المشردين منذ عام 1967، ومن المبعدين؛ فليس أقسى من مصير الإبعاد والنفي. أعيدوهم إلى الوطن؛ فحق العودة حق لهم. وفي الوقت الذي نتحدث فيه إليكم، فإن صمت البيوت المهدومة يتردد صداه عبر أرجاء القاعات، وفي أذهاننا. فلنُعِد بناء بيوتنا في دولتنا الحرة.
ماذا نقول لأحباء الشهداء الذين صرعهم رصاص جيش الاحتلال؟ وبماذا نجيب على تلك التساؤلات، وذلك الخوف في عيون أطفالنا؟ وأي لحن وداع نعزفه للأشجار التي اقتلعتها جرافات الجيش المحتل؟ وفوق كل ذلك مَنْ يفسر رسالة السلام لأولئك الذين صودرت أراضيهم؟ أزيلوا الأسلاك الشائكة، وأعيدوا المياه التي تمنحنا الحياة.
يجب وقف الاستيطان الآن. فمن المستحيل إطلاق عملية السلام في ذات الوقت الذي تتم فيه مصادرة الأرض الفلسطينية بوسائل وأساليب لا حصر لها، وفي الوقت الذي تحدد فيه، يومياً، جرافات الاحتلال الإسرائيلي والأسلاك الشائكة وضع ومصير الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذا ليس عبارة عن موقف، بل هو حقيقة لا يمكن نفيها. وإن مبدأ الأرض مقابل السلام يصبح مهزلة عندما يكون الاستيلاء غير القانوني على الأراضي هو السياسة الرسمية الإسرائيلية، قولاً وممارسة.
باسم الشعب الفلسطيني نود مخاطبة الشعب الإسرائيلي، الذي عانينا وإياه دهراً من الألم. نحن على استعداد لأن نعيش جنباً إلى جنب نقتسم الأرض والوعد بالمستقبل، غير أن التقاسم يستدعي أن يكون الشريكان على استعداد للاقتسام كأنداد، فالتبادلية والمعاملة بالمثل ينبغي أن تحل محل السيطرة والعداء، وذلك من أجل المصالحة الحقة والتعايش في ظل الشرعية الدولية. إن أمنكم وأمننا يعتمد كل منهما على الآخر ويرتبطان، معاً، كارتباط مخاوف وكوابيس أطفالنا.
لقد خَبَرْنا البعض منكم، في السراء والضراء. فالمحتل لا يستطيع إخفاء أسرار عن من يحتلهم، ونحن شهود على الثمن الباهظ الذي انتزعه الاحتلال منكم ومنا. لقد رأيناكم وأنتم مهمومون لتحوّل أبنائكم وبناتكم إلى مجرد أدوات للاحتلال الأعمى والعنيف، ونحن على ثقة بأنه لم يخطر ببالكم، ولم تتصوروا أبداً مثل هذا الدور لأطفالكم، الذين اعتقدتم بأنهم سيشكلون معالم مستقبلكم. لقد رأيناكم تستعيدون، بأسى عميق، مأساة ماضيكم، فننظر، برعب، إلى التشويه الذي صيّر الضحية جلاداً، ليس من أجل هذا ترعرت آمالكم، وأحلامكم، وأولادكم.
ولهذا السبب، بالذات، نتوجه بالتقدير الصادق للذين قدموا العزاء لثكلانا منكم، والذين آزروا من هُدِمَتْ منازلهم من أبناء شعبنا، والذين منحوا التشجيع، وقدموا النصح القانوني للمعتقلين خلف الأسلاك الشائكة والقضبان الحديدية.
وقد خرجنا في مسيرات معاً، وأصابنا الغاز المسيل للدموع بالاختناق؛ الغاز الذي لا يعرف التمييز، كما صرخنا ألماً من الهراوات التي انهالت على أجساد الفلسطينيين والإسرائيليين سواء بسواء، فالألم لا يعرف الحدود القومية، وليس بمقدور أحد أن يدّعي احتكار المعاناة.
لقد شكلنا، ذات يوم، سلسلة بشرية حول مدينة القدس، حيث تشابكت أيدينا وأنشدنا للسلام، دعونا نشكّل، اليوم، سلسلة معنوية حول مدريد، ونواصل سعينا النبيل من أجل تحقيق السلام ووعد الحرية لأبنائنا وبناتكم. فلتخترقوا حواجز التشكك والخوف. لننظر إلى الأمام بسعة أفق وأمل. وإلى أخواتنا وإخوتنا العرب، والذين يُمثَّل أغلبهم في هذه المناسبة التاريخية، نعبّر عن انتمائنا كما نعبر عن عرفاننا لدعمكم المتواصل وتضامنكم معنا. نحن الآن، هنا، من أجل سلام عادل ودائم، تكون فيه الحرية لفلسطين، والعدالة للفلسطينيين، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي الفلسطينية والعربية، بمثابة حجر الأساس. وعندها، فقط، سنتمكن من جني ثمار السلام: ازدهاراً، وأماناً، وكرامة، وحرية للإنسان.
كما نتوجه، بشكل خاص، إلى زملائنا الأردنيين في وفدنا المشترك، إن كلاًّ من التاريخ والجغرافيا يربطان ما بين شعبينا برباط خاص. معاً سنكافح من أجل تحقيق السلام. وسنواصل كفاحنا من أجل حقنا في السيادة، في ذات الوقت الذي نمضي بحرية وملء الإرادة لإرساء أسس الكونفدرالية ما بين دولتينا: فلسطين والأردن. وهذه الكونفدرالية ستكون حجر الأساس نحو الأماني والازدهار.
ومن صميم نضالنا الجماعي من أجل السلام، نتوجه بالتحية للمجتمع الدولي على كوكبه المضطرب، ونتوجه إلى الشعوب الأفريقية، وشعوب العالم الإسلامي، ونتوجه، بشكل خاص، إلى شعوب أوروبا، الذي ينعقد هذا المؤتمر على أرض جيراننا على شاطئها الجنوبي؛ ونقول لكم: نقدر لكم دعمكم لنا. لقد اعترفتم بحقوقنا، وحكومتنا، وقدّمتم لنا دعماً وحماية حقيقيين. لقد تمكنتم من اختراق ضباب التشويه الذي تولده العنصرية والأفكار المسبقة والجهل، عندما تجرأتم على رؤية "غير المرئيين"، وأصغيتم لصوت من أريد لصوتهم أن يسكت. إن الفلسطينيين، سواء الرازحين منهم تحت الاحتلال، أو الموجودين في المنفى والشتات، أصبحوا، في نظركم، واقعاً وحقيقة، وبفضل شجاعتكم، وتصميمكم، أكدتم صدق روايتنا. لقد تبنّيتم قضيتنا فدخلتم قلوبنا. نشكر لكم اهتمامكم وجرأتكم في سبيل الوصول إلى الحقيقة؛ الحقيقة التي ستجعلنا جميعاً أحراراً.
وفي هذه المناسبة المليئة بالرهبة، وبالتحدي، وأمام الدولتين الراعيتين للمؤتمر، نؤكد التزامنا بمبدأ العدالة والسلام والمصالحة القائمة على أساس الشرعية الدولية، ووحدة المعايير. طوال سعينا نحو السلام سنواصل طرح جوهر وتصميم شعبنا الذي، وإنْ كان قد وقع ضحية في أغلب الأحيان، إلا إنه أبداً لم ينهزم. كما سنواصل العمل من أجل حصول شعبنا على حقه في تقرير المصير، وحقه في أن ينعم بالحرية، ويتمتع بدفء الشمس كشعب بين بقية الشعوب سواء بسواء.
لقد حانت لحظة الحقيقة، وعليكم أن تمتلكوا شجاعة على الاعتراف بها، وتمتلكوا الإرادة على تطبيقها، فما عاد هناك أي مجال لإخفاء حقيقتنا في زوايا الإهمال المظلمة. إن شعب فلسطين يوجه أنظاره نحوكم، مباشرة، وبعيون محدقة في عيونكم، سبيلاً لملامسة قلوبكم، بعد أن امتلكتم شجاعة إثارة الأمل فينا، ذلك الأمل الذي لا يمكن التخلي عنه، لا مجال أمامكم أن تخذلونا طالما أننا نرقى إلى المبادىء والمثل التي تناصرون، وطالما أننا مخلصون لقضيتنا.
لقد قام شعبنا الفلسطيني بقفزة نوعية في المجلس الوطني الفلسطيني، الذي انعقد في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1988، والذي أطلقت منه منظمة التحرير الفلسطينية مبادرتها للسلام المبنية على قراري مجلس الأمن رقم 242 و338، كما أعلنت "إعلان الاستقلال" على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 181، وهو القرار الذي منح شهادة الولادة لدولتين: إسرائيل وفلسطين. كما أن الخطاب، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر كانون الأول/ ديسمبر سنة 1988 في جنيف، كان من نتائجه المباشرة بدء الحوار الفلسطيني ـ الأميركي. ومنذ ذلك، تجاوب شعبنا بكل إيجابية وجدية مع كل مبادرة سلام، وبذل كل ما في وسعه لضمان نجاح هذه المسيرة. هذا في الوقت الذي وُضِعَت فيه كل العراقيل والحواجز في طريق السلام وإفقاد هذه المسيرة كل مصداقيتها. وإن سياسة الاستيطان الجنوني واللاشرعي لهي أسطع دليل على موقف الرفض الذي تتبناه. وما آخر مستوطنة تم إنشاؤها قبل يومين إلا المثال الأخير على ذلك.
إن تلك القرارات التاريخية للمجلس الوطني قد غيرت مجرى التاريخ من المواجهة والصراع الحتميين إلى اتجاه السلام والاعتراف المتبادل. وبأيدينا، وملء إرادتنا، أعدنا صياغة مستقبل شعبنا. لقد قام برلماننا بالتعبير عن رسالة شعبنا الذي اختار بشجاعة أن يقول: "نعم" لتحدي التاريخ، تماماً كما أعطى المجلس المرجعية للمضي قدماً إلى هذا المؤتمر التاريخي، وذلك من خلال القرارات التي أصدرها في دورته في الشهر الماضي في الجزائر، والقرارات التي اتخذها المجلس المركزي هذا الشهر في تونس. ليس من حق أحد أن يحملنا مسؤولية كلمة "لا" تصدر عن شعب آخر. يجب أن نحصل على مقابل ما قدمنا. يجب أن نحصل على السلام.
أيها السيدات أيها السادة:
ليس هناك في الشرق الأوسط شعب زائد خارج حدود الزمان والمكان، بل هناك دولة أخطأها الزمان والمكان، ألا وهي دولة فلسطين. لا بد لدولة فلسطين أن تولد على أرض فلسطين تكفيراً عن الظلم الناشىء عن تدمير حقيقتها التاريخية، ولتحرير شعب فلسطين من أغلال معاناته كضحية لم يتوقف الوطن أبداً عن تواجده داخل عقولنا وقلوبنا، ولكن الوطن لا بد أن يتواجد دولة فوق كل الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف، بتميّزها ومكانتها التي لا تقبل التفرّد.
دولتنا هذه، وهي في مرحلة المخاض، قد طال انتظارها. لا بد لدولتنا أن تقوم، الآن وليس غداً؛ ومع ذلك فإننا على استعداد لقبول المرحلة الانتقالية، شريطة ألا تتحول هذه المرحلة الانتقالية إلى حل دائم. كما لا بد من اختصار السقف الزمني لهذه المرحلة الانتقالية، نظراً للحاجة الملحة لشعبنا المشرد إلى مأوى، وحق شعبنا تحت الاحتلال للخلاص من القمع، وتحرير إرادته الأصيلة. فخلال هذه المرحلة الانتقالية هناك حاجة ماسة لتوفير الحماية الدولية لشعبنا، ولتطبيق اتفاقيات جنيف الرابعة. ولا يجوز لهذه المرحلة الانتقالية أن تؤثر، مسبقاً، على الحل النهائي، بل يجب أن توفر حوافز وزخماً من داخلها، يؤدي تلقائياً، إلى السيادة. كما أن المفاوضات النهائية حول انسحاب القوات الإسرائيلية، وتفكيك الإدارة الإسرائيلية، وتحويل السلطة للشعب الفلسطيني، لا يمكن لها أن تتم تحت القمع والتهديد الإسرائيليين، في ظل عدم توازن القوى ما بين شعب محتل وجيش احتلال. على إسرائيل أن تُعْرب عن نيتها التفاوض بنية صادقة، وذلك بالوقف الفوري لكل النشاطات الاستيطانية ومصادرة الأراضي، وتطبيق إجراءات حقيقية وذات معنى لبناء الثقة. وبدون تقدّم صادق وإحداث تغييرات ملموسة، واتفاقات منصفة عادلة خلال المفاوضات الثنائية، فإن المفاوضات المتعددة الأطراف تفقد كل معنى. إن استقرار المنطقة، وأمنها، وتطورها، هي المحصلة المنطقية لحل متكافىء وعادل للقضية الفلسطينية. فالقضية الفلسطينية تبقى مفتاح حل الصراعات والمواجهات في إطارها الأشمل.
وطوال صراع الإرادة ما بين شرعية الشعب المقاوم ولاشرعية المحتل، ظلت رسالة الانتفاضة متواصلة ومستمرة: "تجسيد الدولة الفلسطينية، وبناء المؤسسات والبنى التحتية". نطالبكم بالاعتراف بهذا النبض المبدع الخلاق، والذي يحمل في ثناياه ميلاد دولة. لقد دفعنا الثمن غالياً لتأكيد أصالتنا وممارسة ديمقراطيتنا الشعبية رغم كل وحشية الاحتلال. إن حضورنا هنا إنما يصدر عن إرادة صلبة، وهي نفس الإرادة التي عزّزت نفسها بالانتفاضة كصرخة من أجل الحرية والمقاومة اللاعنفية والمشاركة الجماهيرية. إن الانتفاضة طريقنا نحو بناء الدولة والتحول الاجتماعي. إننا موجودون، اليوم، هنا بدعم من شعبنا، الذي أعطى نفسه حق الأمل، وحق الوقوف مع السلام. ولكن علينا أن نقر أمامكم أن جزءاً من شعبنا تساوره مخاوف وشكوك حول هذه المسيرة. ولقد استطاعت مؤسساتنا الديمقراطية، السياسية منها والاجتماعية، أن تطور احترامنا للتعددية واختلاف الآراء. سنصون للمعارضة حقها على أساس من الاحترام المتبادل والحفاظ على الوحدة الوطنية.
إن المسيرة التي تنطلق، هنا، يجب أن تقودنا إلى النور في نهاية النفق. وهو نور الوعد بفلسطين جديدة: فلسطين حُرة، ديمقراطية، تحترم حقوق الإنسان.
إن حق تقرير المصير /أيها السيدات والسادة/ لا يمكن لأحد أن يمنحه أو يحجبه بدافع من مصالح ذاتية لآخرين؛ ذلك أن حق تقرير المصير يتوج كل المواثيق الدولية والقوانين الإنسانية. نطالب بحقنا في تقرير المصير. ونؤكد حقنا هذا بكل قوة أمامكم وأمام عيون كل العالم، لأنه حق مقدّس ولا يمكن انتهاكه. وسنواصل الكفاح، بلا هوادة، من أجل نيله، وممارسته بكل التفاني والثقة بالنفس؛ وبكل الكرامة والكبرياء.
دعونا نضع حداً لهذه المواجهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية المميتة المجسدة حالياً بالاحتلال، الذي أودى بحياة الكثيرين. فلا يمكن لأي حلم بالمجد والتوسع أن يبرِّر فقد حياة إنسان واحد. أطلقوا سراحنا كي نتعامل كجيران متساوين متكافئين فوق هذه الأرض المقدسة.
وأما شعبنا في المنفى، والرازح تحت الاحتلال، والذي أرسلنا بهذه المهمة محمَّلين بثقته وحبّه وطموحاته، فله نقول: إن عبء المسؤولية ثقيل، وإن المهمة عظيمة، لكننا سنكون عند حسن ظنكم بنا. وكما عبرت عنها كلمات شاعرنا الوطني محمود درويش "إيه يا جرحي المكابر وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر" ولشعبنا الشجاع المعذب نقول: سنعود، وسنبقى، وسننتصر، لأن قضيتنا عادلة. سنرتدي أثوابنا المطرزة وكوفياتنا أمام كل أبصار العالم، ونحتفل معاً بيوم التحرير.
إن مخيمات اللاجئين لا يمكن أن تكون المأوى اللائق لشعب ترعرع على أرض فلسطين، وتحت دفء الشمس والحرية. لا يمكن لسيل القنابل الإسرائيلية التي تنهال يومياً على شعبنا الأعزل في مخيمات اللاجئين في لبنان، أن يكون بديلاً عن انهمار أمطار الحياة على أرض الوطن. ومع أن الإرادة الدولية قد أكدت حقهم في العودة من خلال قرار الأمم المتحدة رقم 194، إلاّ إن هذا الواقع يتم تجاهله، وتعطيله، عمداً.
وعلى نحو مماثل، فإن كافة القرارات الأخرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية، بدءاً من القرار 181، مروراً بالقرارين 242 و338، وانتهاء بقرار مجلس الأمن رقم 681، قد تحولت إلى ممارسة في العلاقات العامة بدلاً من التطبيق الحقيقي. إن هذه القرارات، ومن ضمنها بنود القانون الدولي ذات الصلة، تشكّل الإطار الشرعي الواسع الذي على أساسه يمكن لأي تسوية أن تقوم، فإذا أُريد للشرعية الدولية وسيادة القانون أن تسود، وتحكُم العلاقات بين الشعوب، فلا بد من احترامها وتطبيقها، بدون تحيّز أو تمييز. لسنا نريد /نحن الفلسطينيين/ ما هو أقل من العدالة.
وللفلسطينيين، في كافة أماكن تواجدهم، نقول: بأيدينا نحمل الهدية الثمينة من حبّكم ومن آلامكم. وسنضعها، بكل رفق، هنا أمام أنظار كل العالم. ونقول: يوجد لنا حق هنا لا بد من الاعتراف به، ألا وهو حق تقرير المصير وإقامة الدولة. نحن أقوياء وها هي رائحة البخور المقدس تملأ الهواء. وها هي القدس، قلب وطننا، ومهد أرواحنا، تتلألأ عبر حواجز الاحتلال، والخداع. وإن الانتهاك المتعمد لحرمتها وقدسيتها ما هو إلا انتهاك للذاكرة الجماعية الإنسانية والحضارية والروحية، بقدر ما هو عدوان صارخ على الرموز الثابتة للتسامح والشهامة واحترام الأصالة الحضارية والدينية. فحرام أن تردد الشوارع المبلطة في القدس العتيقة ذلك الصدى النشاز لخطوات بساطير جيش الاحتلال الإسرائيلي. لا بد أن نعيد لتلك الشوارع ضحكات الأطفال، وصوت المؤذن للصلاة، ورنين أجراس الكنائس، وصلوات كل المؤمنين الداعية إلى السلام في مدينة السلام.
ومن مدريد، دعونا نُشعل شمعة السلام، وندعو ونبتهل من أجل السلام، ولتزهر أغصان الزيتون، ولنردد، معاً، ابتهالات العدالة ونفرح بلحن الحقيقة. فجلال هذه اللحظة وهيبتها إنما هو وعد بمستقبل علينا جميعاً الوفاء به: لا بد أن يحصل الفلسطينيون على حريتهم، كي يقفوا منتصبي القامة جنباً إلى جنب بين كافة الشعوب، بكل الكرامة والإباء اللذين هما حق من حقوق كل الشعوب وها هو شعبنا تحت الاحتلال يلوح عالياً بغصن الزيتون. وكما قال الرئيس ياسر عرفات في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974: "لا تدعوا غصن الزيتون يسقط من أيدينا" لا تدعوا غصن الزيتون يسقط من أيدي الشعب الفلسطيني.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991.