بيان اللجنة العربية العليا لفلسطين
رداً على الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة البريطانية في 17 أيار/مايو 1939
(كتاب ماكدونالد الأبيض)
القدس، 30 أيار/ مايو 1939
أرسلت اللجنة العربية العليا وفدها الذي يمثل الشعب العربي الفلسطيني، إلى لندن بناء على دعوة الحكومة البريطانية، للمفاوضة في قضية فلسطين. وكانت تأمل أن تجد في الحكومة البريطانية هذه المرة رغبة صادقة في الرجوع إلى سبيل العدل والإنصاف الذي لا بد منه لإعادة الأمن والسلام الدائم إلى البلاد المقدسة.
وقد سافر الوفد يومئذ مشبعاً بروح التساهل، ضمن دائرة المبادئ الأساسية التي تقوم عليها حقوق الشعب العربي في فلسطين، شديد الرغبة في الوصول إلى اتفاق ينهي هذه الحالة السيئة السائدة في البلاد.
وقد دارت المفاوضات في لندن بمنتهى الحرية والصراحة، واشتركت فيها وفود الدول العربية. وتمكن الوفد العربي أن ينال من الجانب البريطاني الاعتراف مبدئياً بأساس حقه، ولكنه لم يستطع أن يحمله على التسليم العملي بذلك الحق، تسليماً ينتهي الى اتفاق.
ذلك أن الحكومة البريطانية وضعت مقترحات وتمسكت بها. وكانت هذه المقترحات غير كافلة لحقوق الشعب العربي الأساسية. وبناء على ذلك تضامنت وفود الدول العربية مع وفد فلسطين في رفض المقترحات البريطانية بالإجماع.
ولما عادت الوفود استؤنف الاتصال بين وفود الحكومات العربية والحكومة البريطانية في مدينة القاهرة. وقدمت الحكومات العربية في النهاية تعديلات اقترحت ادخالها على مقترحات الحكومة البريطانية. ولكن هذه لم توافق على تلك التعديلات، ووضعت منفردة خطتها السياسية التي تنوي السير عليها في فلسطين. وقد قر رأيها "على التمسك بصورة عامة بالمقترحات التي عرضت نهائياً على وفود العرب واليهود". وأصدرت كتاباً أبيض يتضمن هذه الخطة السياسية، نشر في فلسطين في يوم 17 أيار [مايو] 1939، بشكل بلاغ رسمي رقم 2-39.
ولما اطلعت اللجنة العربية العليا على الكتاب الأبيض أصدرت فوراً بياناً مجملاً نشر يوم 18 أيار [مايو]، أعلنت فيه باسم الشعب العربي رفض هذه الخطة السياسية، لأنها لم تحقق مطالب العرب ، ولأنها لا تختلف عن المقترحات التي عرضت في مؤتمر لندن ورفضها الوفد الفلسطيني ووفود الحكومات العربية بل قد تنقص عنها في بعض النقاط.
وكذلك قررت الحكومات العربية التي اشتركت في مؤتمر لندن، فور اطلاعها على الكتاب الأبيض، أنها لا تستطيع أن تنصح الشعب العربي في فلسطين بالتعاون على أساسه.
واللجنة العربية العليا تعود اليوم لنشر بيانها التفصيلي رداً على هذا الكتاب الأبيض:
1- أساس السياسة الجديدة
جاء في البند 18 من الكتاب الأبيض ما يلي:
"لقد بذلت حكومة جلالته لدى وضعها هذه المقترحات جهدها بإخلاص للتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بموجب صك الانتداب".
إن اللجنة العربية العليا تأسف لهذا التصريح. لأن أساس ما يشكو العرب منه هو هذا الصك وما فيه من التزامات مجحفة بحقوق العرب وكيانهم. وتعتقد أن هذا هو ما جعل الخطة السياسية الجديدة مخيبة آمال العرب، وداعية لعدم اطمئنانهم، وغير كافلة حقوقهم.
2- الدستور
الاستقلال
تصرح الحكومة البريطانية، في البند العاشر من الكتاب الأبيض: " أن الهدف الذي ترمي إليه حكومة جلالته هو أن تشكل خلال عشر سنوات، حكومة فلسطينية مستقلة، ترتبط مع المملكة المتحدة بمعاهدة".
إن اللجنة العربية العليا تعرب عن تقديرها لهذا التصريح ولكنها تأسف إذ تجده في مجموعه، لا يكفل تحقيق الاستقلال بالفعل.
ذلك لأن الاستقلال سيكون معلقاً على اشتراك اليهود ومساهمتهم في الدولة المستقلة. تنص الفقرة (2) من البند العاشر من التصريح البريطاني: "أن الدولة المستقلة يجب أن تكون دولة يساهم العرب واليهود في حكومتها على وجه يضمن صيانة المصالح الأساسية لكل من الفريقين".
وجاء في نهاية البند الثامن من الكتاب الأبيض: "وينبغي أن تكون تلك الدولة، دولة يساهم فيها الشعبان المقيمان في فلسطين، العرب واليهود، بممارسة سلطة الحكم على وجه يكفل ضمان المصالح الرئيسية لكل من الفريقين".
وجاء في البند التاسع منه: "إن تشكيل دولة مستقلة في فلسطين، والتخلي التام عن رقابة الانتداب فيها يتطلبان نشوء علاقات ما بين العرب واليهود من شأنها أن تجعل حكم البلاد حكماً صالحاً في حيز الإمكان".
وقد وضح منذ الآن أن اليهود سيتعمدون الامتناع عن المساهمة في أي دولة لا تكون يهودية، ليحولوا دون الاستقلال.
وسيكون هذا الاستقلال مسبوقاً بفترة انتقال عين لها مبدئياً مدة عشر سنوات. وهذه المدة بالرغم من طولها ليست نهائية. "فإذا ظهر لحكومة جلالته لدى انقضاء عشر سنوات أن الظروف تتطلب إرجاء تشكيل الدولة المستقلة خلافاً لما تأمله، فإنها تتشاور مع ممثلي أهالي فلسطين، ومجلس عصبة الأمم والدول العربية المجاورة قبل اتخاذ قرار بشأن هذا الإرجاء". وهي تحتفظ بالقرار النهائي في الموضوع. إن كلمة "الظروف" مبهمة ومن السهل دائماً للسلطة المتحكمة، وخصوصاً في مثل ظروف فلسطين، أن تقول إن "الظروف" لا تساعد على تحقيق الاستقلال الآن. وما دامت فترة الانتقال غير محددة تحديداً قطعياً فسيكون ذلك سلاحاً آخر بيد اليهود يستعملونه للمعاكسة الدائمة في تحقيق الاستقلال.
ومن قبل كان ميثاق جمعية الأمم نفسه يعترف لفلسطين بالاستقلال. وكان الانتداب نفسه عبارة عن "فترة انتقال". ومع هذا فقد ظلت بريطانيا تعارض في استقلال فلسطين حتى اليوم.
والاستقلال أقدس حق وأعز غاية للشعوب. وهو المطلب الأول للشعب العربي في فلسطين. وإن إرادته فيه جازمة. وقد احتمل في سبيله ما لم يحتمله شعب. وهو يريد أن يطمئن إلى تحقيقه بالفعل.
السلطة التنفيذية خلال فترة الانتقال
يقضي التصريح البريطاني بقيام فترة انتقال قبل تشكيل الدولة المستقلة تحتفظ الحكومة البريطانية خلالها بمسؤولية حكم البلاد.
وجاء في البند التاسع من الكتاب الأبيض :"إن نمو مؤسسات الحكم الذاتي في فلسطين لا بد له أن يسير على قاعدة النشوء والارتقاء شأنه في البلاد الأخرى". والذي رأيناه في البلاد الأخرى المجاورة، هو أن فترة الانتقال ابتدأت بتأليف حكومات وطنية نيابية تسلمت فوراً أكثر الصلاحيات والسلطات الإدارية والتشريعية. ولم تحتفظ حكومة الانتداب خلالها بمسؤولية الحكم.
أما هنا فالأمر على غير هذا. فلا حكومة وطنية، ولا اضطلاع بمسؤوليات الحكم. والأمر لا يعدو تعيين بعض موظفين فلسطينيين، في نفس جهاز الحكم والإدارة الحالي خاضعين لنفس الشروط والقواعد التي يخضع لها الآن سائر الموظفين، وتابعين في كل شيء للمندوب السامي ووزارة المستعمرات.
وسيكون هؤلاء الموظفون من العرب واليهود بنسبة عدد السكان. وفي اليهود عدد كبير لا يزالون يحتفظون بجنسياتهم الأجنبية. فما شأن هؤلاء الأجانب حتى يدخلوا في العدد بصفتهم من السكان، ليزيدوا نصيب اليهود في وظائف البلاد؟ ثم إن ازدياد عدد الذين يتولون زمام هذه الدوائر من الفلسطينيين سيكون خاضعاً "لسماح الظروف". وفي هذا إبهام من شأنه أن يعرقل سير التوسع التدريجي.
وأخيراً "ينظر في أمر تحويل المجلس التنفيذي إلى مجلس وزراء". ولكن بدون أن يضطلع هذا المجلس بالمسؤوليات، وبدون قطع من الآن بإجراء هذا التحويل بالفعل.
وإذا ألفت وزارة بالفعل، فسيكون نصيب البلاد من الحكم الوطني الحقيقي، حتى في آخر مراحل فترة الانتقال، أقل مما بدأت به مثل هذه الفترة في البلاد الأخرى. ولا نستطيع أن نعلل أنفسنا يومئذ تعليلاً صادقاً بقرب انتهاء الفترة والتمتع بالاستقلال، لأن هذا الاستقلال معلق على الظروف، ومنوط بقرار الحكومة البريطانية.
السلطة التشريعية خلال فترة الانتقال
جاء في الفقرة 5 من البند العاشر من التصريح: "إن حكومة جلالته لا تتقدم في هذه المرحلة بأية مقترحات حول تشكيل هيئة تشريعية منتخبة ... وإذا أعرب الرأي العام في فلسطين فيما بعد عن تحبيذه لمثل هذا التطور تكون مستعدة لتشكيل الأداة اللازمة بشرط أن تسمح الأحوال المحلية بذلك".
وفي تعليق هذا الموضوع الحيوي على "سماح الأحوال المحلية" و "تقدير الرأي العام" وعدم الإفصاح عن "الأداة اللازمة" ومدى صلاحياتها، إبهام مقصود من شأنه أن يعرقل قيام النظام النيابي، أو أن يخرجه مبتوراً لا يحقق إرادة البلاد.
يقول البند الثامن من الكتاب الأبيض: "إن حكومة جلالته ملزمة بصفتها الدولة المنتدبة (أن تضمن ترقية مؤسسات الحكم الذاتي) في فلسطين. وهي، عدا هذا الالتزام المعين، تعتبر أن إبقاء سكان فلسطين تحت تدريب الدولة المنتدبة إلى الأبد يخالف روح نظام الانتداب من أساسه. فمن الصواب أن يتمتع أهل البلاد بما أمكن من السرعة بحقوق الحكم الذاتي التي يمارسها أهالي البلاد المجاورة".
لقد لبثت الحكومة البريطانية أكثر من عشرين عاماً تحكم البلاد حكماً مباشراً، وتنكر عليها كل حق في الاستقلال وفي الحكم الذاتي. وهي الآن تعترف بخطأ الماضي، ولكنها لا تعمل في الواقع شيئاً حقيقياً لإصلاحه. وتذكر البلاد المجاورة، ولكنها لا تعطي فلسطين مثل ما تمتع به أهالي تلك البلاد .
إن الشعب العربي يصر على إنشاء حكومة وطنية فوراً خلال فترة انتقال معقولة تضطلع بمسؤوليات الحكم وتضع دستورها جمعية تأسيسية منتخبة، وتتولى عقد المعاهدة التي ينتهي بها الانتداب على أن تكون المساهمة فيها بنسبة عدد الفلسطينيين من السكان.
سن الدستور
تقضي الفقرة (6) من البند العاشر من التصريح بأن "تشكل لدى انقضاء خمس سنوات على توطيد الأمن والنظام هيئة ملائمة من ممثلي أهل فلسطين وحكومة جلالته للنظر في كيفية سير الترتيبات الدستورية خلال فترة الانتقال، وللبحث في وضع دستور لدولة فلسطينية مستقلة، وتقديم التواصي بذلك الشأن".
يفهم من هذا أن البلاد لن يكون لها دستور شعبي خلال فترة الانتقال. بل إن الدستور الذي تتقدم التواصي بشأنه هو للدولة المستقلة التي ستكون بعد انقضاء تلك الفترة. وعدا ذلك فإن الأصول المتبعة في وضع الدساتير للبلاد المستقلة تقضي بأن يوضع الدستور للبلد المستقل من قبل جمعية تأسيسية أو جمعية وطنية تنتخب من أبناء البلاد فقط، كما جرى في العراق ومصر وسوريا. وليس هنالك من مبرر لاشتراك ممثلين عن الحكومة البريطانية في وضع الدستور. ثم إن صلاحية "الهيئة الملائمة" إنما تنحصر في تقديم التواصي، ويفهم من هذا أن التواصي تقدم للحكومة البريطانية. وفي كل ذلك إبهام وخروج عن تلك الأصول المتبعة.
إن الشعب العربي يصر على أن يكون حكم البلاد خلال فترة الانتقال مستمداً من دستور تضعه جمعية تأسيسية منتخبة فور تشكيل الحكومة الوطنية كما جاء في البند السابع.
تثبيت الوطن القومي اليهودي
ويفرض التصريح البريطاني على البلاد تثبيت الوطن القومي اليهودي. فقد جاء في الفقرة (7) من البند العاشر منه ما يأتي : "وستطلب حكومة جلالته أن تقتنع بأن المعاهدة المنظور عقدها في الفقرة (1) أو الدستور المنظور وضعه في الفقرة (6) أعلاه قد ضمن النصوص الوافية ... لحماية مختلف الطوائف في فلسطين وفقاً للالتزامات المترتبة على حكومة جلالته نحو العرب ونحو اليهود وفيما يتعلق بالوضع الخاص الذي للوطن القومي اليهودي في فلسطين" .
إن الشعب العربي لا يعترف بالوطن القومي اليهودي، ويعتبره عدواناً صريحاً على أقدس حقوقه الطبيعية يستند إلى القوة. وقد ثبت على هذا من أول يوم سمع فيه بالوطن القومي إلى اليوم. وكان الوطن القومي دائماً علة العلل والسبب الأساسي في كل ما عانته فلسطين طيلة عشرين عاما ً من كوارث، وثورات، ودماء، وخراب عام . لن توجد في فلسطين يد عربية ترضى أن تسجل، في صلب الدستور أو المعاهدة، قيام وطن قومي لليهود فيها.
إن إصرار الحكومة البريطانية على تثبيت الوطن القومي اليهودي وإعطائه وضعاً خاصاً، ليس له نتيجة إلا إبقاء أسباب ما عانته فلسطين من هذه الكوارث، وهو إصرار لا مبرر له ما دامت تطلب أن توضع في المعاهدة أو الدستور ضمانات وافية لحماية الطوائف التي سيكون اليهود إحداها.
عهد مكماهون
يشير الكتاب الأبيض في البند السابع إلى رسائل مكماهون. ثم يقول: "إن حكومة جلالته تأسف لسوء الفهم الذي نشأ حول بعض العبارات المستعملة في تلك المراسلات. وهي من جهتها، استناداً إلى الأسباب التي بسطها مندوبوها في التقرير، لا يسعها إلا أن تتمسك بالرأي القائل إن جميع فلسطين الواقعة غربي الأردن كانت قديماً استثنيت من العهد الذي قطعه السر هنري مكماهون".
إن عروبة فلسطين وحقها في الاستقلال، يستندان قبل مراسلات مكماهون إلى حق طبيعي لا ينقض. وهو كونها عربية بالفعل، بسكانها، ولغتها، وثقافتها، وعاداتها، وتقاليدها، وتاريخها، منذ ألف وثلاثمائة سنة، على الأقل إلى اليوم. وإنها يوم دخلتها بريطانيا كان ثلاثة وتسعون في المائة من سكانها عرباَ. وإن الشعب العربي لا يزال فيها إلى اليوم صاحب الأكثرية العظمى، بما يعد من نفوس، وما يملك من أرض .
على أن العرب يصرون على أن فلسطين كانت داخلة ضمن البلاد العربية التي حددتها مراسلات الحسين – مكماهون، وأن بريطانيا، فيما تحاول اليوم من إخراج فلسطين من مجموعة البلاد العربية، إنما تنكث بعهد قطعته لهم، وأنها قد خدعتهم، زيادة على كونها تحاول أمراً مخالفاً للحق الطبيعي الثابت.
ونود هنا أن ننقل عن تقرير لجنة مراسلات مكماهون – الصفحة 45 من النسخة الإنكليزية الرسمية – فقرة من مذكرة لرئيس اللجنة اللورد تشانسلور "قاضي القضاة البريطاني" جواباً على مذكرة للمندوبين العرب في اللجنة: "لقد تأثر لورد تشانسلور من بعض البراهين التي قدمت بشأن الجملة المتعلقة باستثناء الأقسام الواقعة غربي مقاطعات دمشق وحمص وحماه وحلب من سورية. وهو يعتبر أن وجهة النظر العربية فيما يختص بهذه المسألة قد تبين أن لها قوة أكبر مما كان يظهر سابقاً".
وكذلك ننقل فقرة أخرى وردت في التقرير نفسه صفحة 11: "إنه يتراءى للجنة جلياً من هذه البيانات أن حكومة جلالته لم تكن حرة في التصرف في فلسطين دون احترام رغبات أهلها ومصالحهم، وأنه يجب أخذ هذه البيانات بعين الاهتمام في أي محاولة لتقدير المسؤوليات المترتبة على حكومة جلالته نحو هؤلاء كنتيجة لأي تفسير لهذه المراسلات".
3- الهجرة:
ينتهي الكتاب الأبيض في موضوع الهجرة، إلى أنه حان الوقت للأخذ بالسياسة القائلة: "إن على حكومة جلالته أن تسمح بزيادة توسع الوطن القومي اليهودي عن طريق الهجرة إذا كان العرب على استعداد للقبول بتلك الهجرة، ولكن ليس بدون ذلك". ثم ينص على وقف الهجرة نهائياً بعد خمس سنوات "فلا يسمح بهجرة يهودية أخرى إلا إذا كان عرب فلسطين على استعداد للقبول بها".
إن الشعب العربي يعلن ارتياحه لاحترام إرادته في موضوع الهجرة اليهودية، وتقرير وضع حد لها. غير أنه لما كان قد أظهر إرادته دائماً ضد هذه الهجرة بكل شدة فلا يوجد أي مبرر لعدم إقفال الباب بالمرة، وترك مجال لفتحه عن طريق قبول العرب. إن هذا يدعو إلى كثير من الريبة وعدم الاطمئنان. فليس من البعيد عن التصور أن يعمل شيء في ظرف من الظروف لادعاء قبول العرب، دون أن يكون هناك قبول في الواقع. وما دامت السلطة في يد غير أبناء البلاد فلا توجد ضمانة لمنع الالتجاء إلى مثل هذه الأساليب التي لا يعف الاستعمار عنها.
استمرار الهجرة
على أنه بالرغم من تقرير هذه القاعدة، تقرر الحكومة البريطانية استمرار المهاجرة، وإدخال عدد كبير آخر من المهاجرين اليهود، في حين أن العرب ليسوا على استعداد للقبول بذلك.
ويحاول التصريح أن يبرر هذا الخروج السريع عن القاعدة الجديدة، بمعاذير ثلاثة: أولها أن وقف الهجرة في الحال من شأنه أن يلحق الضرر بنظام فلسطين المالي والاقتصادي وبمصالح العرب واليهود.
ولكن الواقع أن استمرار المهاجرة هو الذي يضر باقتصاديات بلاد صغيرة، أتخمت بالمهاجرين، وتفشت فيها البطالة، وأصبح قسم كبير من أبنائها بدون عمل. وساد فيها فوق ذلك عهد طويل من الثورة والاضطراب. والشعب العربي يعلن في هذه المناسبة، أن وقف الهجرة لا يؤثر تأثيراً سيئاً في مصالحه، بل هو بالعكس يؤثر فيها أحسن الأثر وأنفعه...
العذر الثاني، أنه ليس من الإنصاف للوطن القومي وقف الهجرة وقفاً فجائياً. إن الوطن القومي في نفسه عمل يقوم على الظلم والإجحاف. ولا ندري كيف ينبغي إنصاف الظلم؟! قبل إنصاف الوطن القومي يجب إنصاف أهل البلاد وإنصاف الحق!
والعذر الثالث، المساهمة في حل مشكلة اليهود العالمية. وإذا كانت الحكومة البريطانية تلم بالمحنة التي يعانيها الآن اللاجئون اليهود، فما شأننا في هذا وما شأن بلادنا؟ تلك مشكلة نشأت في قارة غير قارتنا، ولم تكن لنا يد في تعقيدها. فلماذا نطالب بحلها؟ لقد أرغمت بلادنا حتى الآن على المساهمة بنصيب أكبر في هذا الشأن، وإن حياتنا وسلامة وطننا تحتم علينا أن نمانع بإصرار في أي استمرار في هذا الأمر.
نسبة الثلث
بعد هذا، نجد في الفقرة (1) من البند (14) من الكتاب الأبيض، أن الحكومة البريطانية تريد أن تحتفظ لليهود بنسبة تقرب من الثلث في مجموع سكان البلاد. وعلى هذا الأساس عينت رقم ( 75,000) للمهاجرين الذين يسمح بإدخالهم.
فعلى أي أساس تعين لليهود هذه النسبة؟ وهي تقول في البند السادس من الكتاب الأبيض نفسه: "إن عدد سكان الوطن القومي – أي اليهود – قد ارتفع حتى بلغ (450,000) نسمة، أو ما يقرب من ثلث سكان البلاد برمتهم". وإذن فقد استوفوا النسبة التي يراد فرضها فما بالها تريد أن تدخل 75,000 آخرين؟
وفي البلاد من السكان غير العرب واليهود، جاليات أجنبية مختلفة. فإذا قررت لليهود نسبة الثلث أو ما يقرب منه، فهل تشارك هذه الجاليات الأجنبية الشعب العربي في حصة الثلثين الباقيين؟ وإذن فإلى أي درجة تهبط نسبته العددية في وطنه؟؟
إن في هذه الأشياء كلها ما يجعل الشعب العربي يشعر بأن هناك مغالطة، بقصد أو بغير قصد، عن حقيقة المركز الذي يراد له في بلاده. ومهما يكن، فهو لا يوافق مطلقاً على إعطاء اليهود نسبة عددية تقارب الثلث، أو أي نسبة أخرى، ويرى في ذلك خطراً أكيداً على كيانه.
الأداة الحالية
ويقضي الكتاب الأبيض بأن يحتفظ بالأداة الحالية لتقرير قدرة الاستيعاب الاقتصادي. وهذه الأداة هي التي صدرت عنها فيما سبق غلطات لا تغتفر، كانت تؤدي إلى تضخم في الهجرة، نتجت عنه فيما بعد أزمات اقتصادية مستحكمة، وبطالات في العمل واسعة، أشارت إليها تقارير الخبراء واللجان الرسمية.
المهربون
تعلن الحكومة البريطانية في التصريح عن تصميمها على قمع الهجرة غير المشروعة. وقد سبق أن أعلنت مراراً نحو هذا من قبل، ثم لم تفعل شيئاً مجدياً في هذا السبيل، واستمر التهريب بنطاق واسع. وهي تقول الآن إن المهاجرين المهربين إذا لم يمكن إبعادهم ينزل عددهم من الحصص السنوية. وبديهي أنه إذا أمكن اكتشاف بعض المهربين أحياناً، فلا يكتشف الجميع، ولا تكتشف كل محاولات التهريب. وسيبقى كثير من المهربين دون أن يعرف من أمرهم شيء.
سيجد الذين ينظمون التهريب من هيئات اليهود أنهم لا يخسرون في كل حال. من يُكتشف فقصاراه أن ينزل من الحصة السنوية، ومن لا يُكتشف فهو ربح وكسب. أليس في هذا تشجيع على التهريب وعلى التمادي فيه؟ ولماذا لا توضع على التهريب عقوبات شديدة رادعة.
إن موقف الشعب العربي في مسألة الهجرة ثابت لا يتغير. وهو الموقف الطبيعي الوحيد لشعب يريد الاحتفاظ بكيانه ووطنه:
"إنه يصر على وقف الهجرة وقفاً باتاً "ولا يرضى بما دون ذلك"
ولقد كان في موقف الشعب العربي بالنسبة إلى اليهود الذين دخلوا بلاده بعد الحرب الكبرى رغم مشيئته، استناداً إلى القوة، تساهل كبير. وإن له اليوم كل الحق أن يعيد النظر في هذا الأمر، إذا أصرت الحكومة البريطانية على كل هذا التعنت في التسليم بحقه الصريح، وأصر اليهود على كل هذه الأطماع في وطنه المقد
4- الأراضي
إن تقارير لجان الخبراء، التي يشير الكتاب الأبيض إليها، تثبت أن الأراضي الصالحة للزراعة التي بأيدي العرب هي أقل بكثير من حاجتهم . وقد وضعت هذه التقارير قبل ثمان سنوات أو تسع. وفي خلال هذه المدة لم يوضع أي قيد على انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود، كما يعترف في البند السادس عشر. فاستمر انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود، واستمر من جهة أخرى نمو عدد السكان العرب الطبيعي. وإذن تكون حاجة العرب إلى الأرض اليوم أشد مما كانت يوم وضعت تقارير الخبراء.
والآن تأتينا السياسة الجديدة، في وقت متأخر جداً، بتدابير ناقصة جداً. فالمفهوم من البند السادس عشر، أن تقسم البلاد إلى مناطق، يمنع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود في قسم منها، ويحدد في قسم، ويطلق في قسم آخر.
ومع هذا يسرع البند السابع عشر إلى تطمين اليهود بأن هذه التدابير ستكون موقتة وسيكون للمندوب السامي حق إعادة النظر فيها وتعديلها. فكلما أدخل تحسين في الأساليب الزراعية وازداد إنتاج الأرض خففت قيود البيع أو أُلغيت.
والمهم أن هذا مبني على ما ورد في صك الانتداب، من "تسهيل حشد اليهود في الأراضي، مع عدم الإضرار بغيرهم". وهذه قاعدة لا يمكن أن يوافق الشعب العربي عليها. فهناك حاجة الأجيال المقبلة إلى الأرض، وهناك أكثر من هذا أن المسألة ليست مسألة ضرر يعالج موضعياً بحسب الظروف. ولكنها قبل كل شيء مسألة "الوطن المقدس" وسلامته. فهو:
"يصر على منع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود، منعاً باتاً ونهائياً"
النتيجة
يتلخص مما تقدم أن الخطة السياسية التي احتوى عليها الكتاب الأبيض لم تحقق مطالب العرب. فبالرغم مما قالته الحكومة البريطانية في الكتاب الأبيض: " 3 – إن حكومة جلالته مقتنعة أن مصلحة السلام ورفاه جميع أهالي فلسطين تحتم وضع تعريف صريح للخطة السياسية وأهدافها"، يلاحظ أنها قد أحاطت نفس خطتها السياسية التي تعلنها اليوم بكثير من الغموض وعدم التحديد في ما لا بد فيه من الوضوح والتحديد.
والاستقلال الموعود منوط بقيود وشروط تجعله أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة. ومسؤوليات الحكم في البلاد أُبقيت في عهدة الحكومة البريطانية طول مدة الانتقال التي من المحتمل أن تمتد لأكثر من عشر سنين.
وتصيب أبناء البلاد في الحكم خلال هذه الفترة لا يعدو وظائف لموظفين في الجهاز الانتدابي الحالي. والبلاد ستظل فيها بدون حكومة وطنية نيابية مستندة إلى دستور وطني كما جرى في البلاد المجاورة.
والوطن القومي اليهودي الذي هو علة العلل وأصل الداء ما يزال قائماً ويراد تثبيته وجعل وضع خاص له.
والهجرة اليهودية مضمونة الاستمرار لخمس سنين تحت إشراف الإدارة التي أدخلت مئات آلاف المهاجرين وعشرات آلاف المهربين وكانت سبباً في كوارث البلاد ومحنتها القاسية.
وباب بيوع الأراضي لم يقفل بالمرة وإنما ترك للمندوب السامي وللظروف.
وفي كل ذلك تماد في التعنت وابتعاد عن حل جدي وعاجل لأي مشكلة من المشاكل الموجودة التي نتجت عنها الحالة السيئة المريرة السائدة في البلاد.
من أجل هذا فإن اللجنة العربية العليا لا يسعها إلا أن تعلن باسم الشعب العربي في فلسطين، رفضها لهذه الخطة وعدم تعاونها مع الحكومة البريطانية في تنفيذها.
ولقد جاء في البند الثالث عشر من الكتاب الأبيض:
"إن الحكم بالقوة بقطع النظر عن الاعتبارات الأخرى يخالف في رأي حكومة جلالته روح المادة الثانية والعشرين من ميثاق عصبة الأمم كل المخالفة كما أنها تناقض أيضاً الالتزامات الصريحة المترتبة عليها نحو العرب بموجب صك الانتداب".
ولكن بالرغم من ذلك فإن الحكومة البريطانية، مع الأسف الشديد، ما زالت تحاول فرض السياسة التي تستمد أسسها من صك الانتداب فرضاً، خلافاً لإرادة العرب وحقوقهم ومطالبهم. وبالتالي فإنها لا تزال تصر على الاستمرار في الحكم بالقوة لأن العرب لا تهدأ نفوسهم ويزول قلقهم وتعود إليهم طمأنينتهم إلا إذا حققت مطالبهم بصورة جدية وعاجلة. وحينئذ فإن تبعة بقاء تلك المآسي والآلام والقسوة والوبال التي تنتج عن هذا الإصرار تظل في عنق الحكومة البريطانية، وهي المسؤولة عن أنهار الدماء وألوان البلاء التي تقلبت عليها البلاد، وعن هذا الخراب والدمار الذي أنزل بها بسبب سياسة الحكم بالقوة التي سارت عليها إلى الآن.
الكلمة الأخيرة للأمة العربية
إن الأمم الحية لا يكون القول الفصل في حياتها ومستقبلها، والقرار الأخير في مصير أوطانها وذراريها، للكتب البيض أو السود. إنما القول الفصل والقرار الأخير لإرادة الأمة نفسها. وقد أعلنت الأمة العربية إرادتها، وقالت كلمتها، داوية وجازمة ، وستصل إلى ما تريد، بعون الله.
ستستقل فلسطين ضمن الوحدة العربية
وستبقى عربية إلى الأبد ...
تحية وشكر
وبعد، فإن اللجنة العربية العليا ترسل تحيتها، في هذه المناسبة، إلى الشعب العربي الفلسطيني الكريم، الذي يتحمل من الكوارث والآلام، دفاعاً عن نفسه ووطنه، ما تنوء به الجبال، وما تنحني له الرؤوس. لقد ضرب المثل الأعلى في الصبر والثبات، وأثبت أنه أهل للأرض المقدسة؛ وأنه جدير فيها بالحياة والبقاء والخلود.
وهي تقدم الشكر، بلسان فلسطين المجاهدة، إلى الأمة العربية، وإلى العالم الإسلامي، شعوباً وحكومات، على ما آتوا فلسطين في جهادها وفي محنتها، من تأييد ومعونة. كما أنها توجه مثل هذا الشكر إلى كل من ناصر فلسطين في محنتها وقضيتها من الرجالات الأحرار ذوي الشعور الإنساني النبيل. وهي تعتقد أن دوام هذه المناصرة كفيل بإحراز النصر، والوصول إلى الغاية. والله الهادي إلى سواء السبيل.
11 ربيع الآخر 1358
30 أيار [مايو] 1939
اللجنة العربية العليا
المصدر: بيان الحوت (إعداد)."وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية، 1918 – 1939". من أوراق أكرم زعيتر. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984، ص 648 – 653.