تقرير لجنة التحقيق الانكليزية – الامريكية
(مقتطفات)
لوزان، 20 نيسان/ أبريل 1946
تمهيد
عينتنا حكومتا الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة كهيئة مشتركة مؤلفة من اعضاء أمريكيين وبريطانيين لنقوم بالمهمات التالية:
1 - للتحقيق في أحوال فلسطين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفى علاقتها بمشكلة الهجرة اليهودية وبخير السكان الموجودين هناك حاليا.
2 - للتحقيق في وضع اليهود في البلدان الأوروبية التي كانوا فيها ضحايا الاضطهاد النازي والفاشي، وفى التدابير التي اتخذت أو ستتخذ في تلك البلدان لتمكينهم من التمتع بالحياة محررين من الجور والتفريق الجنسي، وفى تقدير عدد الذين يرغبون في المهاجرة الى فلسطين أو البلدان الاخرى في خارج أوروبا ، أو يجبرون على ذلك تحت ضغط ظروفهم الخاصة.
3 - للاستماع إلى آراء الشهود ذوى العلاقة، ولاستشارة ممثلي العرب واليهود في مشاكل فلسطين، تلك المشاكل التي تتأثر بحالات هي عرضة للتحقيق وفاقا لأحكام الفقرتين 1 و2 الآنفتين، وبظروف وحقائق أخرى متعلقة بها، ولعمل توصيات لحكومتي صاحب الجلالة البريطانية والولايات المتحدة الامريكية تعلن بواسطتها هذه المشاكل حلها النهائي الدائم.
4 - ولعمل أية توصيات أخرى ضرورية الى حكومتي صاحب الجلالة البريطانية والولايات المتحدة الامريكية، لا مندوحة من عملها، لمجابهة حاجات فورية ملحة، تنشأ عن أحوال تنطبق عليها مضامين الفقرة الثانية المذكورة أعلاه، وذلك بعمل إصلاحي في الدول الاوروبية الآنفة الذكر أو بتهيئة التسهيلات الممكنة للهجرة الى البلدان في خارج البلاد الاوروبية والاستيطان فيها.
وقد ألحت علينا الحكومتان معا بوجوب الاسراع الشديد في إنهاء المواضيع التي عهد الينا بدرسها وتقديم تقريرنا لهما في خلال مئة وعشرين يوماً من تاريخ مباشرتنا التحقيق.
وهكذا فقد اجتمعنا في مدينة وشنطن في يوم الجمعة الواقع في 4 كانون الثاني سنة 1946 وباشرنا عقد جلساتنا العامة في يوم الاثنين التالي، وأبحرنا من الولايات المتحدة الأمريكية في 18 كانون الثاني، واستأنفنا عقد جلساتنا العامة في لندن في 25 منه. تم برحنا لندن الى أوروبا في 4 و5 شباط وقسمنا لجنتنا الى لجان فرعية وشرعنا بتحقيقاتنا على الترتيب التالي: في المانيا فبولونيا فتشيكوسلوفاكيا فالنمسا فإيطاليا فاليونان. وفى 28 شباط امتطينا غارب الجو الى القاهرة حيث عقدنا عدداً من الجلسات، ثم برحناها إلى القدس فوصلنا اليها في 6 آذار. وقد تخلل الجلسات التي عقدناها في فلسطين زيارات شخصية الى أقسام البلاد المتعددة. وقد كانت الغاية من هذه الزيارات الشخصية الاطلاع في الدرجة الاولى على أوصافها ومميزاتها المختلفة وعلى أساليب معيشة سكانها. وزارت اللجان الفرعية عواصم سورية ولبنان والعراق والمملكة العربية السعودية وشرق الأردن لتطلع على آراء الحكومات العربية وممثلي الهيئات التي لها علاقة بالمواضيع التي أمامنا. وتركنا فلسطين في 28 آذار، وختمنا مذكراتنا في سويسرا. وقد أسهبنا في بيان سفرتنا هذه في الملحق رقم 1.
وها نحن الآن تقدم تقريرنا فيما يلى :
توصيات وتعليقات
(المعضلة الأوروبية)
التوصية الأولى:
يتوجب علينا أن نعلن أن المعلومات التي حطيها تجعلنا على يقين من الجميع البلدان، ما عدا فلسطين، لا يمكن الاعتماد عليها في إعداد مساكن لليهود الذين يرغبون في ترك أوروبا أو انهم يرغمون على تركها.
ولكن فلسطين وحدها لا تستطيع استيعاب جميع اليهود وضحايا الاضطهاد النازي والفاشي، الأمر الذى يجعل العالم بأسره مسئولاً عنهم وعن جميع الاشخاص المشردين.
ولذا فإننا نوصى حكومتينا معاً بأن تشرعا فوراً بالتعاون مع البلدان الأخرى، بالسعي الحثيث لإيجاد مساكن جديدة لجميع الاشخاص المشردين، بقطع النظر عن عقيدتهم أو جنسيتهم، أولئك المشردين الذين انفصمت عرى روابطهم بجماعاتهم السابقة ولم يبق لهم أمل بإعادتها.
وعلى الرغم من أن الهجرة ستحل مشاكل بعض ضحايا الاضطهاد فإن الأكثرية الساحقة، بما فيها عدد غير قليل من اليهود، ستبقى مقيمة في أوروبا، ولهذا فإننا نوصي حكومتينا بأن تسعيا لضمان تنفيذ أحكام ميثاق الأمم الذي يدعو إلى "تشجيع الاحترام الشامل لحقوق الإنسان مع المحافظة الحريات الأساسية للبشر أجمع دون تمييز في العرق أو اللغة أو الدين".
التعليق:
إننا بتوصية حكومتينا بأن تسعيا، بالتعاون مع البلدان الأُخرى، لإيجاد مساكن جديدة للأشخاص المشردين عن أوطانهم، فإننا لا نقترح على أية بلاد أن تجعل تبديلاً دائماً في سياسة الهجرة التي تسير عليها. فالأحوال التي شاهدناها في أوروبا لم يسبق لها مثيل، ولا يحتمل أن يظهر مثلها مرة أُخرى، ولهذا فإننا مقتنعون بأن أحكاماً خاصة يمكن لا بل يجب أن تدخل على قوانين الهجرة المعمول بها حالياً لمجابهة هذه الحالة المحزنة والفريدة في بابها والداعية إلى اليأس.
وفضلاً عن ذلك فإننا نعتقد أنه بالإمكان القيام بأمور كثيرة، لا سيما بما يتعلق "بالأشخاص المشردين" ومن ضمنهم اليهود الذين لهم أنسباء في البلدان الكائنة في خارج أوروبا، وذلك بتسهيل القوانين الإدارية المعمول بها في هذه البلدان.
لقد قادتنا تحرياتنا إلى الاعتقاد بأن عدداً كبيراً من اليهود سيواصلون السكنى في معظم البلدان الأوروبية. وفي رأينا أن هجرة جميع اليهود الأوروبيين جماعات جماعات لن تكون ذات نفع لليهود أنفسهم ولا لأوروبا. ولذا يجب أن تبذل الجهود لتمكين اليهود من إعادة بناء جماعاتهم المشتتة، وذلك بالسماح بهجرة الذين يرغبون منهم في تحقيق هذا الأمر، وتحقيقاً لهذه الرغبة يجب أن ينفذ حالاً أمر إرجاع أموال اليهود المسلوبة إليهم في أقرب وقت ممكن، وقد تبين لنا من التحريات التي قمنا بها أن الحكومات المختصة قد سنت في أكثر الأماكن قوانين بهذا الصدد. غير أن العقبة في سبيل ذلك هي أن تنفيذ هذه القوانين، وعلى الأخص ما يتعلق منها في الملكيات الفردية يثير من جديد العداء الشديد للساميين. ولذا فإننا نقترح لأجل إعادة بناء المجتمعات اليهودية أن تكون المساعدة في إرجاع ممتلكات اليهود الشائعة إمّا عن طريق دفعات مالية على سبيل تعويض أو بطرق أخرى، وهذه القضية هي من الأهمية في المكان الأول.
وقد ترك الاحتلال النازي وراءه روح العداء للساميين. هذا العداء الذي لا تمكن مقاومته بالتشريع فقط، بل أيضاً بتشدد الحكومات في ضمان الحريات الدينية والمساواة في الحقوق، وبوضع منهاج تعليمي فعلي يقوم على الأسس الديمقراطية الصحيحة التي يدعمها الرأي العام العالمي القوي ويقترن بالنهضة الاقتصادية والاستقرار.
هجرة اللاجئين إلى فلسطين
التوصية الثانية:
أولاً: أن يصدر في الحال إجازة تخول دخول فلسطين لليهود الذين كانون ضحية اضطهاد النازية وعسف الفاشية.
ثانياً: وأن تمنح هذه الإجازات إن أمكن خلال العام الحالي، وأن تتم هجرة هذا العدد الفعلية بأسرع وقت تسمح به الظروف.
التعليق:
وترى اللجنة بأن الأحياء الباقين من الاضطهاد النازي والفاشي الذين اتصلنا بهم يزيد عددهم على مئة ألف شخص. وفي الواقع يوجد أكثر من هذا العدد في ألمانيا والنمسا وإيطاليا فقط. وعلى الرغم من مرور عام كامل على تحرير اليهود فما تزال الأغلبية منهم التي تقطن في ألمانيا والنمسا تعيش في مراكز تجمع تعرف بمعسكرات التجمع، وهي أشبه بالجزر بين الأقوام الذين لاقت على أيديهم أصناف العذاب والعسف. وترى اللجنة أن لصالح هؤلاء اليهود ولصالح أوروبا نفسها يجب أن تخلق هذه المعسكرات ويوضع حد لبقائهم فيها، إن معظم هؤلاء اليهود على حق في طلبهم الرحيل عن أوروبا لأن أكثرهم هم الأفراد الوحيدون الباقون على قيد الحياة بعد فناء عائلاتهم وقليلون هم الذين ما زال لهم ارتباط في البلاد التي كانوا يسكنون فيها.
ومنذ نهاية الحرب لم يعمل سوى القليل في سبيل ترحيلهم إلى بلدان أُخرى وإسكانهم فيها. فقوانين الهجرة وقيودها تقف حائلاً دون دخولهم إلى أكثر البلدان، ولا بد من مرور وقت طويل قبل إمكان تعديل هذه القوانين وهذه القيود، وقبل أن توضع هذه التعديلات موضع التنفيذ، على أن في وسع بعضهم أن يذهبوا إلى البلدان حيث يوجد لهم أنسباء، وفي وسع البعض الآخر أن يدخلوا بموجب نظام الكوتا، وإنما هؤلاء عددهم صغير نسبياً.
ولا نعرف بلاداً أُخرى يمكن للأكثرية الساحقة من هؤلاء أن تهاجر إليها في المستقبل القريب غير فلسطين، وفضلاً عن هذا فكلهم تقريباً يرغبون في الذهاب إلى فلسطين. وذلك لأنهم على ثقة من أنهم سيستقبلون هناك بالترحاب الذي لا يحلمون بالحصول عليه في أي بلد آخر، وأنهم هناك يأملون أن يعيشوا بأمان ويجددوا أمانهم في الحياة.
ونعتقد أن من الضروري تسهيل ذلك لهم في أقرب وقت ممكن. وفضلاً عن ذلك فقد أكد لنا زعماء الوكالة اليهودية أن هؤلاء المهاجرين سيجدون كل عناية ومساعدة وعطف.
ولذا، فإننا نوصي بإعطاء مائة ألف رخصة لدخول فلسطين تحقيقاً لهذه الغاية ونشعر بأن التنفيذ العاجل لهذا الأمر يكون له أعظم تأثير على الموقف برمته.
ويجب أن تعطى الأولوية في منح هذه الرخص بقدر المستطاع إلى الأشخاص الموجودين حالياً في المعسكرات، وإلى الذين حرروا في ألمانيا والنمسا وخرجوا من المعسكرات ولكنهم باقون في هذين البلدين. ولا نرغب في أن يستثنى من هذا العدد الضحايا الآخرون من اليهود الذين يريدون أن يتركوا البلاد الموجودين فيها حالياً، أو الذين تضطرهم ظروفهم إلى تركها، أو الذين هربوا خوفاً من الاضطهاد قبل اندلاع نار الحرب. ونحن نعترف بأن هنالك صعوبة في تقرير قضايا الأولوية ولكننا مع هذا نلح بتطبيق هذه الطريقة بقدر المستطاع، ولدى تطبيقها أن ينظر بمنح الأولوية قبل أي شيء آخر إلى العجزة والمشوهين والأطفال والصناعيين الذين يحتاج إلى خدماتهم مدة أشهر عديدة في العمل الذي أصبح القيام به ضرورياً بسبب هذا السيل الجارف من المهاجرين.
ومن الضروري أن يعلن أن لا فائدة ترجى بعد الحصول على شهادة الهجرة من التنقل من قطر إلى آخر ومن الدخول إلى فلسطين بصورة غير مشروعة.
ومما لا ريب فيه أن هذا العدد الوافر من المهاجرين سيكون عبئاً ثقيلاً على فلسطين؟ ولكننا على ثقة من أن السلطات المختصة ستحمل ذلك على عاتقها، وأنها ستحصل على معاونة الوكالة اليهودية التامة في حمل هذا العبء.
وسيواجه المسؤولون عن تنظيم هذه الهجرة والقائمون بها مشاكل عسيرة، غير أنه مما لا ريب فيه أن المنظمات الأوروبية العديدة، الخاصة والعامة، ولا سيما مؤسسة الإنعاش والتعمير التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، ستمد يد المعونة الممكنة، ذلك لأن التعاون الاجتماعي ضروري جداً في كل شيء وفي جميع المراحل.
ونحن متأكدون بأن حكومة الولايات المتحدة الأميركية التي أبدت اهتماماً كبيراً في هذا الأمر ستساهم بقوة وبسخاء مع حكومة الولايات المتحدة الأميركية التي أبدت اهتماماً كبيراً في هذا الأمر ستساهم بقوة وبسخاء مع حكومة بريطانيا العظمى في العمل على تحقيقه، وهناك طرق أُخرى شتى يمكن تقديم المساعدة بها.
وعلى أولئك الذين يعارضون في السماح لهذا الشعب التاعس بالدخول إلى فلسطين أن يعرفوا بأننا أخذنا بعين الاعتبار جميع ما عرضوه علينا من بيانات ووثائق، ولنا كل الرجاء أنهم سيعيدون النظر في هذه الوضعية، وأنهم سيقدرون الاعتبارات التي أدت بنا إلى هذه النتيجة حق قدرها، وأنهم علاوة على ذلك كله، إذا لم يكونوا مستعدين لمد يد المساعدة فعلى الأقل يجب ألا يكونوا سببًا في زيادة آلام ومصاعب هؤلاء المعذبين.
مبادئ الحكم: لا دولة عربية ولا دولة يهودية
التوصية الثالثة:
لأجل البت نهائياً في مطاليب العرب واليهود بشأن الاستئثار بفلسطين نرى من الضروري التصريح عن المبادئ التالية:
1- أن لا سيادة لليهود على العرب، ولا للعرب على اليهود في فلسطين.
2- أن لا تكون فلسطين دولة يهودية ولا دولة عربية.
3- أن الشكل النهائي للحكم الذي سينشأ في فلسطين يجب أن يضمن – بضمانات دولية – حماية ورعاية مصالح المسيحية والإسلامية واليهودية على السواء في الأراضي المقدسة.
وهكذا يجب أن تصبح فلسطين في النهاية دولة ترعى وتحمي حقوق ومصالح المسلمين واليهود والمسيحيين على السواء، وتمنح السكان بمجموعهم أكبر نصيب من الحكم الذاتي الذي يتفق وأحكام المبادئ الثلاثة الأساسية الآنفة الذكر.
التعليق:
إن المصلحة العظيمة التي للعالم المسيحي في فلسطين قد أهملت إهمالاً تاماً أو تنوسيت أو تركت جانباً في جميع أدوار النزاع الدموي الطويل بين اليهود والعرب للسيطرة على تلك البلاد، حيث يهتف كل فريق منهما بأعلى صوته قائلاً: إن هذه الأرض هي ملكنا - باستثناء الإشارة القصيرة المقتضبة الواردة في تقرير اللجنة الملكية (المدعو بعدئذ بتقرير بيل) والشهادات الصغيرة التي تلقيناها تحريراً وشفاها حول هذه النقطة.
ولذلك فإننا نصرح بقوة بأن فلسطين أرض مقدسة في نظر المسيحي والمسلم واليهودي على السواء وبالنظر لكونها كذلك فهي ليست ولا يمكن أن تكون في يوم من الأيام أرضاً يستطيع أي شعب أو أي دين أن يدعي ادعاء عادلاً بأنهما ملك له.
ونصرح بنفس القوة أن فلسطين بكونها أرضاً مقدسة تختلف كل الاختلاف عن غيرها من البلدان الأُخرى، ولذا يجب أن تكرس للمبادئ والتعاليم التي تقتضيها الأخوة البشرية لا التي تستلزمها القومية الضيقة.
وعدا ذلك، فبالنظر لتاريخ فلسطين الطويل، ولا سيما خلال الثلاثين سنة الماضية لا يمكن اعتبارها أرضاً عربية صرفة ولا أرضاً يهودية صرفة.
لليهود صلة تاريخية بالبلاد والوطن القومي اليهودي، وإن كان يتضمن أقلية من السكان، فقد غدا حقيقة واقعية بضمانة دولية، وأصبح له الحق في الاستمرار والحماية والتطور باضطراد.
ومع ذلك فليست فلسطين أرضاً يهودية صرفة، ولا يمكن أن تكون كذلك في المستقبل. فهي في مفترق طرق العالم العربي، وسكانها العرب الذين استوطن أسلافهم هذه المنطقة منذ أقدم الأزمنة ينظرون إلى فلسطين كوطن لهم.
ولذلك ليس من العدل في شيء، ولا بالإمكان من الناحية العملية، أن تصبح فلسطين دولة عربية تهيمن فيها أكثرية عربية على مقدرات أقلية يهودية، أو دولة يهودية تهيمن فيها أكثرية يهودية على مقدرات أقلية عربية. وفي كلتا الحالتين لن يكون لضمانات الأقلية القوة الكافية لحماية الجماعة التي تحت حكمها.
وقد أوضح أحد الفلسطينيين الموقف بالعبارات التالية:
"لقد كان الخوف يساور قلوبنا نحن معشر اليهود من أن تصبح هذه البلاد يوماً ما دولة عربية، وأن نصبح نحن تحت حكم العرب. وقد كان هذا الخوف يبلغ فينا أحياناً درجة الرعب. والآن بدأ هذا الشعور بالخوف نفسه يخالج أفئدة العرب وهو الخوف من ازدياد ونفوذ اليهود وتقدمهم عليهم وحكمهم لهم".
فينبغي إذن جعل فلسطين بلاداً يمكن فيها التوفيق بين الأماني الوطنية المشروعة لليهود والعرب كليهما معاً دون أن يخشى أي فريق تسلط الفريق الآخر عليه. وفي رأينا أنه لا يمكن تحقيق هذه الغاية في ظل أي شكل من أشكال الدساتير التي يكون فيها للأكثرية العددية الرأي الحاسم. ذلك لأن نضال الفريقين في سبيل الحصول على الغالبية العددية هو الذي يعكر جو العلاقات بين العرب واليهود. ولضمان حكم ذاتي صحيح لكلتا الجماعتين العربية واليهودية لا بد من جعل هذا النضال عديم الجدوى بحكم الدستور نفسه.
الانتداب ووصاية الأمم المتحدة
التوصية الرابعة:
لقد توصلنا إلى النتيجة التالية وهي أن العداء بين العرب واليهود، ولا سيما إصرار كل فريق منهما على السيطرة على الفريق الآخر، عن طريق العنف إذا اقتضى الأمر، يجعل في حكم المؤكد أن كل محاولة لتأسيس دولة أو دول مستقلة في فلسطين في الوقت الحاضر، أو بعد فترة من الزمن، تؤدي إلى نزاع داخلي قد يهدد السلام العالمي.
ولذا فإننا نوصي ريثما يتلاشى هذا العداء باستمرار الحكم في فلسطين على ما هو عليه تحت الانتداب إلى أن يتم الاتفاق على تنفيذ وصاية الأمم المتحدة عليها.
التعليق:
نحن نعترف أن مهمة بريطانية كدولة منتدبة على فلسطين لم تكن بالمهمة الهينة بالنظر إلى القوات العظيمة – العربية اليهودية – العاملة في خارج فلسطين. وقد صرحت لجنة بيل في سنة 1937 بأن الانتداب غير قابل للتطبيق. واستناداً إلى ذلك أوضحت لجنة الانتدابات الدائمة في عصبة الأمم أن نظام الانتداب يكاد يكون غير قابل للتطبيق (بعد أن صرحت لجنة بيل بمثل هذا التصريح) وبعد سنتين من هذا التاريخ أعلنت الحكومة البريطانية عن عزمها على اتخاذ الخطوات اللازمة لإنهاء الانتداب بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وذلك بعد أن وجدت أن حل المشكلة على أساس التقسيم الذي اقترحته لجنة بيل غير قابل للتطبيق أيضاً. إن توصياتنا هذه مؤسسة على ما نعتقد أنه في هذه المرحلة أعدل حل ممكن للجميع وذلك بالنظر إلى ما حصل في السابق وإلى جميع ما تم إجراؤه حتى الآن. ونحن نعترف بأن هذه التوصيات لا تتنفق مع مطالب أي من الفريقين، هذا فضلاً عن خروجها على سياسة الدولة المنتدبة في الآونة الأخيرة. ونحن نعرف بأن الأخذ بهذه التوصيات يترتب عليه فترة وصاية طويلة الأمد. الأمر الذي يتضمن عبئاً ثقيلاً جداً يصعب على أية حكومة الاضطلاع به لوحدها. غير أنه بالإمكان تخفيف هذا العبء عن كاهل الوصي فيما لو قدر الأعضاء الآخرون في هيئة الأمم المتحدة الصعوبات حق قدرها وآزروا الوصي في القيام بأعباء مهمته.
المساواة بمستوى المعيشة
التوصية الخامسة:
إننا نوصي، ونحن نتجه بأنظارها إلى شكل من الحكم الذاتي يتفق والمبادئ الثلاثة المبسوطة في التوصية الثالثة، بلزوم قيام الدولة – سواء أكانت منتدبة أو وصية – بإعطاء التصريح التالي وهو أن تقدم العرب الاقتصادي والعلمي والسياسي في فلسطين يجب أن يكون مساوياً لتقدم اليهود في هذا المضمار. كما ينبغي على الحكومة أن تقوم بالخطوات اللازمة التي تستهدف سد الثغرة القائمة الآن بين المستويين ورفع مستوى معيشة العرب. وبهذا يتسنى لكلا الشعبين تفهم مصالحهما ومصيرهما المشترك في الأرض التي يعود كلاهما إليها.
التعليق:
إن دراستنا للأحوال في فلسطين ساقتنا إلى النتيجة التالية، وهي أن أحد الأسباب الرئيسية للتصادم والنزاع هو التفاوت العظيم والفرق الشاسع بين مستوى معيشة العرب وبين مستوى معيشة اليهود، حتى أن ظروف الحرب التي عادت على العرب بمنافع مالية كبيرة لم تقرب شقة التباعد بينهما بصورة محسوسة، ولا يمكن رفع مستوى معيشة العرب ليصل إلى مستوى معيشة اليهود إلاّ إذا اتبعت الدولة المنتدبة سياسة رسمت بعناية ودقة لتحقيق هذا الغرض. ولدى التشديد على ضرورة انتهاج سياسة كهذه يجدر بنا أن نشير بنوع خاص إلى التفاوت في الخدمات الاجتماعية – بما فيها المستشفيات الميسورة لليهود والعرب في فلسطين:
إننا نعترف اعترافاً تاماً بأن الخدمات الاجتماعية اليهودية تمول إلى حد بعيد من قبل الطائفة اليهودية في فلسطين بمساعدة المنظمات اليهودية في الخارج، وتشدد على أنه يجب أن لا يعمل أي شيء بقصد خفض مستوى هذه الخدمات الاجتماعية إلى مستوى الخدمات الاجتماعية عند العرب، أو وقف التحسينات المستمرة التي تجري فيها الآن.
إننا نقترح أن ينظر فيما إذا كان من المستحسن تشجيع العرب على تأليف جماعة عربية على غرار الجماعة اليهودية التي تهيمن الآن على الخدمات الاجتماعية اليهودية وتمولها إلى حد بعيد، ولا بد للعرب من أن يعتمدوا أكثر من اليهود بمراحل على مساعدات الحكومة المالية. ولكن يجب على يهود فلسطين أن يسلموا بضرورة إنفاق الجزء الأكبر من الضرائب التي تجبى منهم ومن العرب على العرب لتلافي البون الشاسع الموجود حالياً بين مستوى المعيشة لدى الشعبين.
سياسة الهجرة المستقبلة
التوصية السادسة:
ريثما تحال قضية فلسطين قريباً إلى منظمة الأمم المتحدة، وينفذ فيها نظام الوصاية، فإننا نوصي بوجوب إدارة فلسطين من قبل الدولة المنتدبة بموجب أحكام نظام الانتداب الذي يصرح بشأن الهجرة "بأن إدارة فلسطين مكلفة بتسهيل الهجرة اليهودية في أحوال ملائمة مع مراعاة عدم الإضرار بحقوق الطوائف الأخرى ومركزها".
التعليق:
لقد أوصينا بقبول 100,000 مهاجر من ضحايا الاضطهاد النازي بالسرعة الممكنة، وتتصدى الآن إلى الموقف بعد دخول ذلك العدد. إننا لا نستطيع أن نتطلع إلى المستقبل البعيد، كما أنه لا يسعنا أن نضع قياساً للهجرة السنوية. وإلى أن تنفذ اتفاقية الوصاية فإن من رأينا الصريح أن تدار فلسطين حسب نصوص نظام الانتداب الآنف ذكرها ولا نستطيع الذهاب إلى أبعد من هذا الحد في معرض التوصية. فقد يكون من المجازفة التكهن في هذا العالم المضطرب بما سيكون عليه الوضع الاقتصادي لأي بلاد بعد سنوات قليلة. ومن العسير بنوع خاص التنبؤ بمستقبل فلسطين الاقتصادي والسياسي بعد مضي بضع سنوات. فنرجو والحالة هذه أن تضمحل وشيكا الخصومة والاضطراب السائدان حالياً، وأن يحل محلهما عهد سلم لم تعرفه الأراضي المقدسة منذ زمن بعيد. وأن يتحقق اليهود والعرب معاً قريباً بأن التعاون من مصلحتهما المشتركة بيد أنه لا يستطيع أحد أن يتكهن كم من الوقت يحتاج هذا الأمر لكي يتم.
وتتوقف إمكانية احتمال البلاد زيادة كبيرة في السكان، مع الاحتفاظ بمستوى معيشة ملائم، على مستقبلها الاقتصادي. وهذا بدوره يتوقف إلى درجة كبيرة على إمكان أو عدم إمكان تنفيذ الخطط الوارد ذكرها في التوصية الثامنة واقتطاف ثمارها.
ذكرت لجنة بيل بأن هناك عوامل سياسية واقتصادية تتعلق بالهجرة يجب أخذها بعين الاعتبار. وأوصت اللجنة المذكورة بإدخال 12,000 في السنة "كحد سياسي أعلى" أما نحن فلا يسعنا تحديد حد أعلى أو أدنى للهجرة السنوية في المستقبل، إذ إن هناك عدة عوامل غير واضحة ما زالت قائمة.
على أننا نرغب في بيان بعض العوامل التي نوافق على وجوب أخذها بعين الاعتبار لدى تعيين عدد المهاجرين من الذين ينبغي قبولهم في أي فترة من الزمن. من البديهي أن من حق كل أمة مستقلة، رعاية لمصالح أبنائها، أن تعين عدد المهاجرين الواجب قبولهم في أراضيها، وعلى هذا القياس فإن من حق حكومة فلسطين فيما نعتقد، أسوة بالحكومات الأُخرى، أن تقرر، بالنظر إلى مصلحة جميع سكان فلسطين وغيرهم، عدد المهاجرين الواجب إدخالهم في أية فترة في المستقبل.
ففي فلسطين يوجد الوطن القومي لليهود الذي أحدث بنتيجة تصريح بلفور، فقد يرى البعض أن ذلك التصريح كان خاطئاً وما كان يجب إعطاؤه، وقد يرى البعض الآخر أنها فكرة عظيمة، وأن بالإمكان تنفيذ أجرأ وأهم برنامج استعماري عرفه التاريخ. ومن العبث الجدل في أي الرأيين أقرب إلى الصواب. فالوطن القومي قائم في فلسطين، وجذوره عميقة في تربتها، ولا يمكن محوه من سجل الوجود بالجدل، كما أنه لا يمكن بأي وجه من الوجوه وقف وإلغاء إقدام المرتادين اليهود عن تنفيذ رغبتهم.
وحكومة فلسطين بصفة كونها مكلفة برعاية مصالح جميع السكان وتوفير الرفاه لهم لا يسعها أن تتجاهل مصالح هذا الجزء المهم من سكانها. ولا يسعها أيضاً أن تتجاهل ما تم تحقيقه في غضون ربع القرن الأخير. ولا يمكن لأية حكومة في فلسطين تؤدي واجبها نحو شعبها أن تعجز عن بذل قصاراها لا للمحافظة على الوطن القومي فحسب بل لتشجيع تطوره أيضاً تطوراً صحيحاً وكما يبدو لنا، لا بد لهذا التطور من أن يشمل الهجرة.
ويجب أن تكون مصلحة الشعب بجموعه، بما فيه اليهود والعرب وسواهم، الهدف الأساسي في فلسطين، إننا نرفض الرأي القائل بعدم جواز قبول هجرة يهودية أخرى إلى فلسطين دون موافقة العرب، الأمر الذي سيؤدي إلى سيطرة العرب على اليهود، ونرفض كذلك طلب اليهود الملح بتقرير هجرة يهودية إجبارية بأسرع ما يمكن بغية إيجاد أكثرية يهودية، ومن ثم تأسيس وإنشاء دولة يهودية في فلسطين. إن سعادة اليهود يجب ألاّ تكون خاضعة لسعادة العرب، ولا سعادة هؤلاء خاضعة لسعادة أولئك. إن رفاه الفريقين، والحالة الاقتصادية في فلسطين كمجموع، ودرجة تنفيذ المشاريع للزيادة في تحسينها وتقدمها، أن كل هذا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تقرير عدد المهاجرين الممكن قبولهم في أية فترة خاصة.
إن فلسطين أرض مقدسة للأديان الثلاثة، ويجب ألا تصبح أرض أي واحد منها دون الآخرين. والهجرة لإنماء الوطن القومي يجب ألا تصبح سياسة تحيز ضد المهاجرين الآخرين. وعليه فكل شخص يرغب في دخول فلسطين، ويكون أهلاً لذلك بموجب القوانين المرعية، يجب ألا يرفض قبوله بداعي أنه ليس يهودياً. وكل تشريع يتعلق بالهجرة يجب أن يوضع ويطبق على هذا المبدأ دائماً.
وفضلاً عن ذلك فإننا، مع اعترافنا بأن كل يهودي يدخل فلسطين وفقاً لقوانينها يكتسب حق الإقامة فيها، نشجب بشدة وجهة نظر بعض المحافل اليهودية في أن فلسطين قد منحت أو قد تنوزل عنها بطريقة ما لتكون دولة ليهود العالم قاطبة وأن كل يهودي أينما وجد هو مواطن فلسطيني لمجرد كونه يهودياً، وفي وسعه إذن دخول فلسطين كحق مكتسب من حقوقه دون الالتفات إلى الشروط التي تفرضها الحكومة على المهاجرين، وأن ليس هناك هجرة يهودية غير مشروعة إلى فلسطين. إننا نصرح ونؤكد أن كل مهاجر يهودي يدخل فلسطين خلافاً لقوانينها إنما هو مهاجر غير شرعي.
سياسة الأراضي
التوصية السابعة:
إننا نوصي بما يلي:
1- إلغاء القوانين المتعلقة بانتقال ملكية الأراضي الصادرة في سنة 1940 واستبدالها بقوانين تستند إلى سياسة حرة في بيع الأراضي وإيجارها والانتفاع منها بقطع النظر عن الجنس أو الملة أو العقيدة مع حماية صغار الملاك والزراع المستأجرين.
2- وعدا ذلك اتخاذ التدابير اللازمة لإبطال ومنع الأحكام المتعلقة بنقل الملكية والإيجارات والاتفاقيات المتعلقة بالأراضي التي تنص على جواز استخدام أفراد عنصر أو طائفة أو دين واحد دون غيرهم في تلك الأراضي وحواليها أو فيما له صلة بها.
3- وجوب ممارسة الحكومة رقابة دقيقة على الأماكن والمواقع المقدسة كبحر الجليل (بحيرة طبرية) وما جاوره مما يضمن عدم انتهاك حرمتها واستعمالها في أوجه لا يرتاح إليها ضمير أهل الدين وأن تسن فوراً القوانين اللازمة لتحقيق هذا الغرض.
التعليق:
كانت قوانين انتقال ملكية الأراضي الصادرة في سنة 1940 تستهدف حماية المستأجر العربي والملاك الصغير بمنع بيع الأرض إلاّ للعربي الفلسطيني في إحدى المناطق، وتقييد هذه البيوع في منطقة أُخرى، والسماح ببيعها بصورة حرة في منطقة ثالثة، مما أدى إلى التحيز ضد اليهود. وهكذا نحد أن هذه القوانين ترمي إلى فصل العرب عن اليهود وإبقائهم منعزلين بعضهم عن بعض. وفي المناطق التي منعت فيها البيوع، أو قيدت، فقد حيل بين العربي وبين ما يغريه على بيع أرضه، التي غالباً ما تتوقف عليها معيشته ومعيشة أفراد أسرته، نظير مبلغ لا يتناسب مطلقاً وقيمتها الحقيقية. ومع أن تلك القوانين وضعت بغية المحافظة على مستوى معيشة الزراع العرب الراهن، وتلافي خلق مجموعة كبيرة من السكان العرب الذين لا أرض لهم، فإنها لا تفي العربي المقيم في المنطقة الحرة، ذلك لأنه بإمكانه بيع أرضه بسعر خيالي والانتقال إلى إحدى المنطقتين الأخريين، وبذلك يزيد في ازدحامهما، وكذلك العربي الذي يقيم على قيد مسافة قصيرة من حدود المنطقة الحرة، أو عبرها مباشرة، لا يستطيع الحصول على مبلغ يقرب مما يحصل عليه في المنطقة الحرة ثمناً لأرض مساوية في جودتها.
إننا نعارض أي تشريع أو أية قيود يظهر فيها تحيز ضد اليهود أو العرب. ونعترف بالحاجة إلى حماية الملاك والمستأجر العربي الصغير، واتخاذ ما يلزم من التدابير لتلافي نشوء مجموعة كبيرة من السكان العرب الذين لا أرض لهم وأيضاً لرفع مستوى معيشة العرب. وقد اعترفت لجنة بيل بهذه الضرورة في تقريرها (الفقرة 10 من الفصل التاسع) الذي أيد المبدأين التاليين الموجودين في تقارير سابقة وهما:
1- إن أراضي فلسطين، ما لم يطرأ تبديل ملحوظ في أساليب الزراعة المتبعة فيها فإنها لا تقوى على احتمال زيادة كبيرة في السكان.
2- إن أراضي المناطق الجبلية مزدحمة بسكانها منذ الآن.
ولا يزال هذان المبدآن صحيحين، إن لم يكونا قد أصبحا أكثر صحة اليوم.
إننا لا نعتقد بعدم إمكان ضمان الحماية الضرورية للعرب إلاّ عن طريق حصر اليهود في أجزاء خاصة من فلسطين. إن هذه السياسة التي اقترحتها لجنة بيل تتفق مع الحل الذي تقدمت به هي، ونعني به التقسيم. ولكنها لا تتفق مع الحل الذي عرضناه نحن.
إن عقود الإيجار التي يجريها "الصندوق الوطني اليهودي" تتضمن نصاً مآله أن لا يستخدم المستأجر عمالاً غير يهود في الأرض المستأجرة أو حولها أو فيما له صلة بها، ونصاً آخر بأن كل عقد إيجاد فرعي يجب أن يتضمن شروطاً مماثلة.
إننا نعارض هذا التحيز كما ذكرناه آنفاً. ونعتقد أن أحد الأسباب التي لأجلها وضعت مثل هذه الأحكام إنما هو ضمان استخدام المهاجرين اليهود في الأراضي، ولكننا لا نرى أن هذا الغرض يبرر الاحتفاظ بتلك النصوص والأحكام التي تعرقل التآزر والتفاهم بين العربي واليهودي.
إن الأراضي التي يملكها "الصندوق الوطني اليهودي" أو التي يحولها المجلس الإسلامي الأعلى إلى وقف، تصبح غير قابلة للانتقال. وقد أعربت لجنة بيل عن رأيها (في الفقرة 80 من الفصل التاسع من تقريرها) بأن من المستحسن أن تتريث الحكومة في بيع الأراضي الأميرية لمثل هاتين الهيئتين. فالوضع والحالة هذه يتطلب المراقبة، ذلك لأنه ليس من مصلحة سكان فلسطين أن يصبح قسم كبير من أراضي بلادهم غير قابل للانتقال سواء أكان المالك هذه المؤسسة أو تلك.
أنه لمن مصلحة اليهود والعرب معاً في بلاد صغيرة كثيفة السكان كفلسطين، التي يزداد عدد سكانها بسرعة، أن تستثمر جميع الأراضي وتستعمل على أكمل وجه ممكن، كما أنه يجب العمل على تسوية حقوق الأراضي بالسرعة المستطاعة وتسهيل استثمار أراضي الدولة الصالحة للاستعمال والتي لا تطلب لأغراض عامة.
وتضم أراضي فلسطين المقدسة ضمن حدودها وفي جميع أنحائها أماكن مقدسة في نظر أتباع الديانات العظمى الثلاثة، ولذا فإن وجود الليدو برقصه وموسيقاه، على ضفة بحر الجليل (بحيرة طبريا) لمما يجرح إحساس الكثيرين من المسيحيين. وقد علمنا بوجود مشاريع أخرى، إن تمت، فلن تقل عن مشروع الليدو سوء مغبة.
ولذلك فقد رأينا من الصواب أن نشدد في تصويتنا بلزوم ممارسة رقابة شديدة ودقيقة وتعزيز القوانين المعمول بها إذا اقتضى الأمر.
التطور الاقتصادي
التوصية الثامنة:
لقد عرضت علينا تصاميم مختلفة لتطور فلسطين الزراعي والصناعي على نطاق واسع. وهذه التصاميم إذا ما نفذت بنجاح تزيد في قابلية البلاد على استيعاب وإعاشة عدد أكبر من السكان وترفع مستوى معيشة اليهود والعرب على السواء.
ولسنا في وضع يؤهلنا لتقدير مدى صحة هذه التصاميم الخاصة. وإنما لا يسعنا إلاّ أن نؤكد أنها مهما كانت عملية من الوجهة الفنية فستنتهي بالإخفاق، ما لم يكن ثمة سلم مستتب في فلسطين. وفضلاً عن ذلك فإن نجاحنا التام يستلزم مؤازرة الدول العربية المجاورة لها لأنها ليست مشاريع فلسطينية صرفة. ولذا فإننا نوصي بأن تدقق هذه المشاريع كلها تدقيقاً كاملاً وتبحث وتنفذ منذ البداية وباستمرار التشاور التام والتآزر، ليس مع الوكالة اليهودية فحسب، بل أيضاً مع حكومات الدول العربية المجاورة التي يعنيها الأمر مباشرة.
التعليق:
لقد أتيح للاقتصاد اليهودي في مرحلته الإنشائية، مزية وقوة رؤوس الأموال التي قدمت وفق شروط جعلت الربح المادي في درجة ثانوية، أما العرب فلم تتح لهم مثل هذه المزية. أما نحن، مبدئياً، فلا نعتقد بأن من الحكمة في شيء أو من المناسب أن تضطلع أية مؤسسة خصوصية بمشاريع كمشروع وادي الأردن مثلاً، إذ ارتؤى أنها سليمة من الوجهة الفنية، حتى ولو كانت تلك المؤسسة مستعدة لتقديم الضمانات بالمنافع التي سيجنيها العرب، وبأن لهم أن يشتركوا في إدارتها على نحو ما اقترحته الوكالة اليهودية.
إن مثل هذه المشاريع، بالنظر لجسامتها، وما تنطوي عليه من آثار بعيدة المدى، يجب أن ينظر إليها كمشاريع عامة تقع ضمن نطاق أعمال الحكومة. فلا تنفذ إلاّ على أساس كونها نافعة لجميع طبقات السكان. غير أن الاضطلاع بأي مشروع نافع يجب ألا يتأخر بسبب عقبات مالية محضة يمكن التغلب عليها بمساعدة مؤسسات شبه خيرية. ولا نرى أنه يتعذر الوصول إلى حل وسط يجمع بين التمويل اليهودي والمسؤولية والمراقبة الحكوميتين.
إننا نرحب بما أعدته حكومة فلسطين نفسها من برامج للتعمير في فترة ما بعد الحرب. وحبذا لو تيسر وجود الوسائل للقيام بمشاريع أوسع مدى وأضخم مقياساً. ولكننا نعترف بأنه من الخير جداً إيجاد الأموال اللازمة سواء عن طريق الموارد العامة أو القروض حتى يستتب الهدوء السياسي.
ونقترح في الوقت نفسه أن تحصل الحكومة على الصلاحيات التي تمارسها في الوقت الحاضر بشأن القيام بتحريات واسعة وكاملة عن مدى الموارد المالية المتيسرة في البلاد، والسيطرة على استعمال المياه التي تحت الأرض وتقرير الحقوق المتعلقة بالمياه التي فوق الأرض.
إننا نشك في إمكانية توسيع مدى الناحية الاقتصادية في فلسطين توسيعاً كاملاً بالنظر إلى مرافقها الطبيعية المحدودة دون إجراء تبادل في البضائع والخدمات مع الأقطار المجاورة تبادلاً حراً كاملاً. والواقع أن مؤازرة تلك الأقطار بصورة فعالة في بعض النواحي، كالمشاريع التي تتضمن تجهيزات مياه، لا يمكن الاستغناء عنها لضمان التطور الكامل المبني على أسس اقتصادية.
إن إزالة المادة الثامنة عشرة من صك الانتداب تمهد السبيل لعقد اتفاقيات جمركية وتجارية شاملة، لا تتعارض مع الالتزامات الدولية، التي قد يمكن للدولة المنتدبة أو الوصية أن تقبل بها، الأمر الذي يمكن في النهاية أن يؤدي إلى شيء من قبيل الاتحاد الجمركي. وهذا الهدف هو ما ترمي إليه دول الجامعة العربية التي تحيط بفلسطين.
التعليم
التوصية التاسعة:
تعزيزاً للتفاهم بين الشعبين، وسعياً وراء تحسين مستوى معيشة العرب بصورة عامة فإننا نوصي بإصلاح نظام التعليم لليهود والعرب كليهما، على أن يشمل هذا الإصلاح إدخال التعليم الإجباري خلال فترة معقولة من الوقت.
التعليق:
لقد أشارت لجنة بيل في الفصل السادس عشر من تقريرها إلى مساوىء نظام التعليم المعمول به في فلسطين وإلى التفاوت الكبير بين المبالغ التي تتفق على تعليم العرب واليهود. وقد أكد التقرير المذكور أيضاً أن نظام التعليم في فلسطين لدى اليهود والعرب معاً قائم على أسس قومية، واسترعى الانتباه بصورة خاصة إلى الدعايات القومية المنتشرة في المدارس العربية.
لقد تبين لنا من التحريات التي قمنا بها أن المدارس اليهودية أيضاً – وهي تحت إشراف الطائفة اليهودية وتدار بأموالها – قد أصبحت مشبعة بروح قومية ملتهبة، وغدت وسائل فعالة، بالغة الأثر، لبث الروح القومية العبرية الاعتدائية. ولذا فإننا نوصي بشدة بوجوب سيطرة الحكومة التامة على نظام التعليم اليهودي والعربي، للقضاء على هذا التشبث المشبع بروح العنصرية ومسخ التعليم لأغراض الدعاية. كما أن من واجب الحكومة العمل على جعل التعليم أداة للتفاهم بين الشعبين وذلك بالإشراف على الكتب المدرسية ومناهج التعليم وتفتيش المدارس إشرافاً دقيقاً.
ولعل من المستحسن فيما نعتقد أن تتولى جزءاً كبيراً من مسؤولية التعليم العربي طائفة عربية على غرار الطائفة اليهودية التي سبق تأسيسها في فلسطين، ولكن إذا استهدفت الطائفتان اليهودية والعربية التعليم الإجباري فلا بد والحالة هذه من تخصيص نسبة أعظم بمراحل مما خصص حتى الآن من ميزانية فلسطين السنوية للتعليم. وسوف تنفق أكثر هذه الاعتمادات على تعليم العرب. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلاّ إذا خفضت بصورة محسوسة النسبة المخصصة الآن للأمن العام من الميزانية العامة.
ونشدد بنوع خاص على ضرورة زيادة التسهيلات المهيأة للعرب في الوقت الحاضر للتعليم المهني والثانوي والجامعي بصورة عاجلة. إن التفاوت في مستوى معيشة الشعبين الذي سبق لنا أن استرعينا إليه الانتباه، يعزى إلى حد كبير إلى كون عدد أفراد الطبقة المهنية والوسطى اليهودية يزيد كثيراً عما هو عليه لدى العرب. ولا يمكن إزالة هذا الفرق إلاّ بزيادة التسهيلات المتيسرة للعرب للتعليم العالي زيادة كبيرة جداً.
الحاجة إلى استتباب السلم في فلسطين
التوصية العاشرة:
إننا نوصي في حالة العمل بما ورد في هذا التقرير، بأن يوضح لكل من العرب واليهود معاً بصورة لا تقبل الشك، بأن كل محاولة من أي فريق ترمي عن طريق التهديد باستعمال العنف أو عن طريق الإرهاب أو عن طريق تنظيم جيوش غير قانونية، واستخدامها للحيلولة دون تنفيذه، سوف تقمع بحزم.
وإضافة إلى ذلك من رأينا أن تستأنف الوكالة اليهودية في الحال التعاون الفعال مع السلطة المنتدبة لقطع دابر الإرهاب والهجرة غير المشروعة، ولصيانة الأمن والنظام في جميع أنحاء فلسطين، لأن ذلك ضروري لمصلحة الجميع بما فيهم المهاجرون الجدد.
المصدر: "الوثائق الرئيسية في قضية فلسطين من أرشيف الأمانة العامة للجامعة العربية: المجموعة الأولى، 1915-1946". إعداد وتحرير: أمين عقل. تقديم: وليد الخالدي. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2016، ص 360-377.