بيان حكومات الدول العربية
الأعضاء في جامعة الدول العربية
بين يدي زحف الجيوش العربية على فلسطين
بتاريخ 15 مايو 1948
1 – كانت فلسطين جزءاً من الامبراطورية العثمانية السابقة خاضعاً لنظامها وممثلاً في برلمانها، وكانت الأغلبية الساحقة لسكان فلسطين من العرب، وفيها قلة يهودية ضئيلة تتمتع بما يتمتع به بقية السكان من حقوق وتتحمل ما يتحملونه من أعباء، ولم تكن محل اي معاملة مجحفة بسبب عقيدتها الدينية، وكانت الاماكن المقدسة مصونة وحرية الوصول إليها مكفولة.
2 – ولقد كان العرب يطالبون دائماً بحريتهم واستقلالهم، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى وأعلن الحلفاء أنهم يحاربون لتحرير الشعوب، انضم العرب إليهم وحاربوا في صفوفهم لتحقيق أمانيهم القومية ونيل استقلالهم، وقطعت انكلترا عهداً بالاعتراف باستقلال البلاد العربية في آسيا ومنها فلسطين، فكان للعرب أثر ملحوظ اعترف به الحلفاء في احراز النصر النهائي.
3 – ولقد أصدرت انكلتره في عام 1917 تصريحاً أبدت فيه عطفها على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ولما علم العرب به احتجوا عليه، فطمأنتهم انكلتره مؤكدة لهم أنه لا يمس حق بلادهم في الحرية والاستقلال ولا يؤثر في الوضع السياسي للعرب في فلسطين. ورغم بطلان هذا التصريح من الناحية القانونية، فقد فسرته انكلتره بأنه لا يرمي إلى أكثر من إنشاء مركز روحي لليهود في فلسطين وأنه لا يخفي وراءه مقاصد سياسية كإنشاء دولة يهودية. وبهذا ايضاً صرح زعماء اليهود.
4 – ولما انتهت الحرب لم تف انكلتره بوعدها، بل وضع الحلفاء فلسطين تحت نظام الانتداب وعهدوا به إلى انكلتره بمقتضى صك نص على إدارة البلاد لمصلحة أهلها وتهيئتها للاستقلال الذي اعترف ميثاق عصبة الأمم ان فلسطين أهل له.
5 – ولقد سارت انكلتره بفلسطين سيراً مكّن اليهود من إغراقها بسيول المهاجرين وساعدتهم على الاستقرار في البلاد، رغم أنه ثبت أن كثافة السكان في فلسطين تجاوزت مقدرة البلاد الاقتصادية على استيعاب المزيد من المهاجرين، ولم ترع للسكان العرب مصالح ولا حقوقاً وهم اصحاب البلاد الشرعيون، فكانوا يتبعون مختلف الوسائل للإعراب عن قلقهم وغضبهم من هذه الحالة الضارة بكيانهم ومصيرهم، ولكنهم كانوا يقابلون بالإعراض والسجن والتشريد.
6 – ولما كانت فلسطين قطراً عربياً واقعاً في قلب البلاد العربية تربطه بالعالم العربي روابط عديدة روحية وتاريخية واستراتيجية، فقد اهتمت البلاد العربية بل والشرقية حكومات وشعوبا بأمر فلسطين، وأثارت قضيتها في المحافل الدولية ولدى انكلتره، مطالبة بحلها وفق العهود المقطوعة والمبادئ الديموقراطية. ولقد عقد بلندن عام 1939 مؤتمر المائدة المستديرة لبحث قضية فلسطين واستنباط الحل العادل لها واشتركت حكومات الدول العربية فيه وطالبت بالمحافظة على عروبة فلسطين وإعلان استقلالها. وقد انتهى هذا المؤتمر بإصدار كتاب أبيض حددت فيه انكلتره سياستها تجاه فلسطين واعترفت فيه باستقلالها وتعهدت بوضع النظم المفضية إلى ممارسة خصائصه، وأعلنت ان التزاماتها الخاصة بإنشاء الوطن القومي اليهودي قد استنفدت لأن هذا الوطن قد أنشئ بالفعل. ولكن السياسة التي رسمها هذا الكتاب لم تنفذ مما أدى الى ازدياد الحالة سوءاً وإلى تفاقم الامور ضد مصلحة العرب.
7 – وفي الوقت الذي كانت الحرب العالمية الثانية دائرة الرحى فيه، أخذت حكومات الدول العربية تتشاور في توثيق تعاونها وزيادة أسباب تضامنها وضم صفوفها تأميناً لحاضرها ومستقبلها، ومساهمة منها في إقامة صرح العالم الجديد على أسس ثابتة، وكان لفلسطين في هذه المباحثات مكانها من الاهتمام والعناية. وقد أنتجت هذه المباحثات إنشاء جامعة الدول العربية أداة لتعاون الدول العربية على ما فيه أمنها وسلمها وخيرها، وأعلن ميثاق جامعة الدول العربية أن فلسطين بلد مستقل منذ انسلخ عن الامبراطورية العثمانية ولكن مظاهر استقلاله ظلت محجوبة لأسباب خارجة عن إرادة أهله. وكان من المصادفات التي علقت عليها الدول العربية أكبر الآمال أن أنشئت الأمم المتحدة بعد قليل، وقد ساهمت في انشائها وفي عضويتها إيماناً بالمثل العليا القائمة عليها هذه المنظمة.
8 – ومنذ ذلك الحين لم تدخر الجامعة العربية وحكوماتها وسعاً في ولوج كل سبيل سواء مع الدولة المنتدبة أو مع الامم المتحدة لاستنباط حل عادل لقضية فلسطين قائم على الاسس الديمقراطية الصحيحة ومتفق مع أحكام ميثاق عصبة الامم والأمم المتحدة، ويكتب له البقاء ويكفل الامن والسلم في البلاد، ويفتح أمامها سبيل التقدم والرخاء. ولكن الوصول إلى مثل هذا الحل كان يرتطم دائماً بمطالب الصهيونيين الذين جاهروا بإنشاء دولة يهودية بعد أن استعدوا بالقوات المسلحة وبالحصون والاستحكامات لمقابلة كل من يقف في سبيلهم بالقوة.
9 – ولما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 947 توصيتها الخاصة بحل قضية فلسطين على أساس انشاء دولة عربية وأخرى يهودية فيها مع وضع مدينة القدس تحت وصاية الامم المتحدة، نبهت الدول العربية الى ما ينطوي عليه هذا الحل من مجافاة لحق شعب فلسطين في الاستقلال الناجز وللمبادئ الديمقراطية ولأحكام ميثاقي عصبة الامم والأمم المتحدة، وأعلنت رفض العرب له وأنه لا يمكن تنفيذه بالوسائل السلمية وأن فرضه بالقوة يهدد السلم والأمن في هذه الساحة. ولقد صح ما توقعته الدول العربية وأنذرت به. فإن الاضطرابات ما لبثت أن عمت فلسطين، فاصطدم العرب واليهود وأخذوا في التطاحن والتقاتل وسالت دماؤهم، وعندئذ أخذت الامم المتحدة تتنبه الى خطأ التوصية بالتقسيم وهي لا تزال تبحث عن مخرج من هذه الحالة.
10 – والآن وقد انتهى الانتداب البريطاني على فلسطين من غير ان تنشأ في البلاد سلطة دستورية شرعية تكفل صون الأمن واحترام القانون وتؤمن السكان على أرواحهم وأموالهم، فإن حكومات الدول العربية تعلن ما يأتي:
أولاً، إن حكم فلسطين يعود إلى سكانها طبقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم والأمم المتحدة ولهم وحدهم حق تقرير مصيرهم.
ثانياً، لقد اضطرب حبل الامن واختل النظام في فلسطين وأدى العدوان الصهيوني إلى نزوح ما ينيف على ربع مليون من سكانها العرب عن ديارهم والتجائهم إلى البلاد العربية المجاورة. وكشفت الاحداث الواقعة في فلسطين عن نوايا الصهيونيين العدوانية ومآربهم الاستعمارية مما ارتكبوا من فظائع ضد السكان العرب الآمنين لا سيما في قرية دير ياسين وطبريا وغيرهما، كما إنهم لم يرعوا حرمة القناصل، فقد اعتدوا على قنصليات الدول العربية في القدس. وبعد أن انتهى الانتداب البريطاني، لم تعد السلطات البريطانية مسئولة عن أمن البلاد إلا بالقدر الذي يمس قواتها المنسحبة وفي الجهات التي تكون فيها هذه القوات وقت الانسحاب كما أعلنت ذلك. وهذا الوضع يجعل فلسطين خالية من كل جهاز حكومي قادر على اعادة النظام وحكم القانون إلى البلاد وتأمين السكان على أرواحهم وأموالهم.
ثالثاً، تهدد هذه الحالة بالانتشار الى البلاد العربية المجاورة حيث الشعور ثائر بسبب الأحداث الواقعة في فلسطين. وحكومات الدول الاعضاء في الجامعة العربية وفي الامم المتحدة يساورها شديد القلق وبالغ الاهتمام بهذه الحالة.
رابعاً، كانت هذه الحكومات ترجو لو أن الامم المتحدة وفقت الى استنباط الحل السلمي العادل لقضية فلسطين وفق المبادئ الديمقراطية وأحكام ميثاق عصبة الأمم والأمم المتحدة، فيسود هذا الجزء من العالم الأمن والسلم والرخاء.
خامساً، إن حكومات الدول العربية مسئولة عن حفظ الأمن والسلم في ساحتها بوصفها أعضاء في الجامعة العربية، وهي منظمة اقليمية بالمعنى الوارد في احكام الفصل الثامن من ميثاق الامم المتحدة. وهذه الحكومات ترى في الاحداث الواقعة في فلسطين تهديداً للسلم والأمن في ساحتها عموماً وبالنسبة لكل منها بالذات.
سادساً، لذلك ونظراً لأن أمن فلسطين وديعة مقدسة في عنق الدول العربية، ورغبة في وضع حد لهذه الحالة وفي منعها من أن تتفاقم وتتحول إلى فوضى لا يعلم مداها أحد، ورغبة في منع امتداد الاضطراب والفوضى في فلسطين إلى البلاد العربية المجاورة وفي سد الفراغ الحادث في الجهاز الحكومي بفلسطين نتيجة لزوال الانتداب وعدم قيام سلطة شرعية تخلفه، رأت حكومات الدول العربية نفسها مضطرة الى التدخل في فلسطين لمجرد مساعدة سكانها على إعادة السلم والأمن وحكم العدل والقانون الى بلادهم وحقنا للدماء.
سابعاً، تعترف حكومات الدول العربية أن استقلال فلسطين الذي حجبه إلى الآن الانتداب البريطاني قد أصبح حقيقة واقعة لسكان فلسطين الشرعيين، وهم وحدهم أصحاب الحق في تزويد بلادهم بالنظم والمؤسسات الحكومية بمطلق سيادتهم وسلطانهم، وهم وحدهم الذين يمارسون خصائص استقلالهم بوسائلهم الخاصة دون أي تدخل خارجي من أي نوع كان بمجرد ان يعود الى البلاد الأمن والسلم وحكم القانون. وعندئذ يقف تدخل الدول العربية وتتعاون دولة فلسطين المستقلة مع دول الجامعة العربية على كل ما فيه أمن وسلم ورخاء هذا الجزء من العالم.
وتؤكد حكومات الدول العربية في هذه المناسبة ما سبق لها أن أعلنته أمام مؤتمر لندن والأمم المتحدة من أن الحل الوحيد العادل لقضية فلسطين هو إنشاء دولة فلسطينية موحدة وفق المبادئ الديمقراطية يتمتع سكانها بالمساواة التامة أمام القانون وتكفل للأقليات فيها جميع الضمانات المقررة في البلاد الديمقراطية الدستورية وتصان الأماكن المقدسة وتكفل حرية الوصول إليها
ثامناً تعلن الدول العربية بما لا يقبل مزيداً من التأكيد أن هذه الاعتبارات والأهداف هي وحدها التي اقتضتها التدخل في فلسطين وأنها لا يحدوها إلا مجرد وضع حد للأحوال السائدة فيها. ولهذا فهي وطيدة الثقة في أن يلقى عملها هذا تأييد الأمم المتحدة باعتباره رامياً إلى تحقيق أهدافها وإعلاء مبادئها كما نص عليه ميثاقها.
المصدر: محمد عزة دروزة، حول الحركة العربية الحديثة: تاريخ ومذكرات وتعليقات (صيدا، لبنان: المكتبة العصرية، 1950-1951)، المجلد 5، ص 207-211.