إضاءة على –

مجزرة دير ياسين، 9 نيسان/ أبريل 1948

إضاءة على –
مجزرة دير ياسين، 9 نيسان/ أبريل 1948
مؤشر مشؤوم لقادم أسوأ

عرض جدول الأحداث

دير ياسين

قرية دير ياسين الواقعة في الضواحي الغربية للقدس، على بعد 5 كيلومترات القسطل. 

Source: 
Institute for Palestine Studies, Photograph Collection

لم تكن مجزرة دير ياسين الأولى التي تنفذها القوات الصهيونية في فلسطين، كما أنها لم تكن الأخيرة، إلاّ إن ما رافقها من أحداث سياسية وعسكرية جعلها نقطة تحوّل في حرب 1948، فأصبحت رمزاً لمخططات الاقتلاع والتهجير بحق المواطنين الفلسطينيين من قراهم ومدنهم.

تقع دير ياسين على المنحدرات الشرقية لتل يبلغ علو قمته 800 م، وكانت تواجه الضواحي الغربية اليهودية للقدس التي شملت ست مستعمرات كان أقربها مستعمرة غفعات شاؤول، وشكلت هذه المستعمرات سداً منيعاً بين دير ياسين والقدس، وفصل بينها وبين المستعمرات اليهودية وادٍ ذو مصاطب غُرست فيها أشجار اللوز والتين والزيتون وكروم العنب. وارتبطت بالعالم الخارجي بواسطة طريق ترابية واحدة تسلكها السيارات شمالي الوادي، وتمر عبر غفعات شاؤول، ومنها إلى القدس، وكانت أقرب القرى العربية إليها عين كارم ولفتا. وفي سنة 1948، بلغت مساحة دير ياسين 2700 دونم، كان أكثر من نصفها مزروعاً، أمّا عدد سكانها فقدّر بـ 750 نسمة، وعدد منازلها 144 منزلاً.

سبق الهجوم على دير ياسين تطورات سياسية وعسكرية كان لها تأثير كبير في مسار الأحداث. فبعد صدور قرار التقسيم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، وخلال الأشهر التي سبقت نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين في أيار/ مايو 1948، اشتعلت الحرب في فلسطين ووصل التنافس العسكري إلى ذروته بين منظمة الهاغاناه من جهة ومنظمتي الإرغون (إيتسل) وشتيرن (ليحي) من جهة أُخرى. وكانت الأولى تمثل التيار العمالي بقيادة دافيد بن – غوريون، بينما كانت الأُخريان تمثلان التيار اليميني المسترشد بتعاليم فلاديمير جابوتنسكي، وكان أبرز قادته مناحم بيغن. وتمثل هذا التنافس بالعمليات الإرهابية ضد الفلسطينيين، وكان أخطر مسارحه مدينة القدس وريفها نظراً إلى ما تمثله القدس من أهمية رمزية وتاريخية ودينية وسياسية واستراتيجية.

ولا شك في أن الأسبوعين الأولين من نيسان/ أبريل 1948 شهدا تحولاً نوعياً في ميزان القوى بين الصهيونيين والفلسطينيين، إذ كانت القيادة الصهيونية قد بدأت في الرابع من نيسان تنفيذ الخطة (د) التي كان هدفها احتلال رقعة الدولة اليهودية وفق قرار التقسيم بقوة السلاح، وتطهيرها عرقياً وإضافة ما أمكن من رقعة الدولة العربية إليها وخصوصاً مدينة القدس وضواحيها.

وجاء قرار الإرغون وشتيرن بالهجوم على دير ياسين في 6 نيسان / أبريل بعد الإنجاز الذي حققته قوات الهاغاناه باحتلال قرية القسطل الاستراتيجية. ويقول رئيس استخبارات الهاغاناه في القدس في حينه، يتسحاق ليفي، أن اختيار دير ياسين جاء بسبب قلة موارد المنظمتين نسبياً، وعجزهما عن القيام بعملية واسعة النطاق على غرار عمليات الهاغاناه، وخشية أن يتم عزلهما لدى الرأي العام اليهودي. وإضافة إلى الرغبة في تسجيل انتصارات، كان هناك أهداف أُخرى منها: الانتقام لمعركتي كفار عتسيون وعطروت مع أن دير ياسين لم تشترك في أي منهما؛ السلب والنهب كون دير ياسين من القرى العربية الغنية؛ التنفيس عما في الصدور من كراهية عنصرية دفينة.

وبحسب خطة الهجوم التي وضعتها قيادات المنظمتين، سيكون التحرك على أربعة محاور بحيث تتقدم مجموعة من غفعات شاؤول، ومجموعة أُخرى تتقدمها مصفحة عليها مكبر للصوت من الشرق إلى قلب القرية، ومجموعة ثالثة تنطلق من مستعمرة بيت هكيرم لتقتحم القرية من الناحية الشرقية الجنوبية عند جامع الشيخ ياسين، بينما تنطلق المجموعة الرابعة من بيت هكيرم وتهاجم بحركة التفافية من الغرب. وعليه، قررت المنظمتان حشد قوة تضم 200 من أشرس مقاتليها لتنفيذ الهجوم، ووضع نحو 70 منهم في الاحتياط.

كما تم بحث التفصيلات التي شملت مسألة معاملة الأسرى والشيوخ والنساء والأطفال، فأيدت الأكثرية فكرة تصفية جميع الرجال وكل من يقف بجانبهم، وتم تحديد ساعة الصفر في الخامسة والربع من فجر يوم الجمعة في 9 نيسان/ أبريل. ويتضح من المراسلات والمحادثات بين قادة المنظمتين وقيادات في الهاغاناه، أن الأخيرة أعطت المنظمتين ضوءاً أخضر للهجوم على دير ياسين، وأن مصيرها كان مقرراً ومحتوماً إن عاجلاً أو آجلاً.

خلال الأسابيع التي سبقت المذبحة، كان الأهالي في حال من الحذر الشديد والتوجس. فعلى الرغم من أن وجهاء القرية كانوا قد عقدوا اتفاق عدم اعتداء مع مستعمرة غفعات شاؤول في كانون الثاني/ يناير 1948، إلا أنهم كانوا يشعرون بأن الأمور لم تكن مستتبة، وخصوصاً بعد سقوط القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني، وكان عدد من أبناء القرية قد شارك في معركة القسطل. لذلك، كان رجال دير ياسين في حال تأهب شديد يتناوبون الحراسة متسلحين ببنادق قديمة.

وعندما بدأ الهجوم فجراً، دارت معركة غير متكافئة، ومع ذلك فقد قاتل أبناء دير ياسين قتالاً بطولياً ولم يتوقفوا إلاّ بعد نفاد ذخيرتهم. وتشير المصادر الصهيونية إلى أن المهاجمين واجهتهم مقاومة عنيفة، وأن عدداً كبيراً من الإصابات وقع في صفوفهم، وهو ما استدعى طلب النجدة من قوات الهاغاناه كي يتمكنوا من استكمال هجومهم. وما إن تمكنت المنظمتان بمساعدة الهاغاناه من دخول دير ياسين حتى بدأ أفرادهما تنفيذ مجزرة بحق أهالي القرية مستخدمين أكثر الأساليب وحشية، من قتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والتمثيل بالجثث، إلى نسف المنازل على رؤوس السكان الأحياء، واستباح المهاجمون القرية فنهبوا كل ما وقعت عليه أيديهم. ثم عمد الإرهابيون بعد ذلك إلى تجميع الأسرى، فنقلوا نحو 150 من "أسراهم" من الشيوخ والأطفال والنساء في شاحنات وطافوا بهم في موكب نصر في الأحياء اليهودية قبل قذفهم على حدود الأحياء العربية ليرووا للقيادات الفلسطينية وللأهالي، ولممثلي الصحافة العربية والدولية، ما جرى في دير ياسين. وتحفل الكتابات التي تناولت المجزرة بشهادات الناجين الذين تحدثوا عن الممارسات الوحشية، ونقلوا مشاهداتهم عن عائلات قٌتلت بأكملها، وأسماء الشهداء من الأقارب الذين خلّفوهم وراءهم في القرية.

وذكر مئير باعيل، وهو أحد رجال استخبارات البلماح، وقد كلفته قيادة الهاغاناه مراقبة العملية وإعداد تقرير بشأنها، أن رجال الإرغون وشتيرن قاموا بتنفيذ مجزرة طالت جميع السكان من رجال ونساء وشيوخ وأطفال من دون تمييز. ويروي كيف تم اقتياد 25 رجلاً وضعوا في شاحنة طافت بهم شوارع القدس احتفالاً بالنصر، وبعد انتهاء العرض أُطلقت عليهم النيران بأعصاب باردة.

ويُعتبر جاك دو رينييه، ممثل الصليب الأحمر الدولي في القدس الشاهد الأبرز على مجزرة دير ياسين، إذ كان الأجنبي الوحيد الذي تمكن من دخول القرية وتوثيق مشاهداته. فبعد أن تلقى طلباً من الجانب العربي بالتوجه إلى دير ياسين، نصحته الوكالة اليهودية وقيادة الهاغاناه بعدم التدخل في الأمر، ورفضتا تأمين الحماية له في حال قرر الذهاب إلى القرية. لكنه صمم على الذهاب وتمكن من دخول القرية يوم الأحد 11 نيسان/ أبريل، وهناك وصف دو رينييه ما شاهده:

"كان جل أفراد العصابة، سواء الرجال منهم أو النساء، من الأحداث، وبعضهم في سن المراهقة، وكانوا جميعاً مدججين بالسلاح، يحملون المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية والسكاكين الطويلة. وكان معظم السكاكين ملطخ بالدماء. وكان واضحاً أن هذا هو فريق التطهير أي الإجهاز على الجرحى وأنه كان يقوم بمهمته خير قيام."

ويتحدث دو رينييه عن الجثث المكدسة خارج المنازل وداخلها، وعن ثلاثة أحياء فقط تمكن من إنقاذهم. ولاحقاً طلب منه المسؤولون العرب دفن الشهداء بصورة لائقة في موقع يمكن التعرف عليه.

بعد تنفيذ المجزرة عقد قادة المنظمتين الإرهابيتين مؤتمراً صحافياً في القدس دعوا إليه ممثلي الصحف والإذاعات الأميركية دون غيرهم، وتباهوا فيه بنصرهم العسكري واحتلال القرية وإبادة سكانها، كما تباهوا باشتراك قوات البلماح في الهجوم، وهو ما أحرج الوكالة اليهودية كل الإحراج، وذكروا كذباً أنهم قضوا على 245 عربياً، وهو رقم تناقلته فوراً الإذاعات الحكومية وكذلك محطات الإذاعة في العواصم العالمية والعربية، إلاّ إن المصادر قدّرت عدد الشهداء بـ 100، بلغت نسبة الإناث والأطفال والصغار دون 15 سنة والكهول والشيوخ من الذكور 75% من مجموع الشهداء من جميع الأعمار. ومن الواضح أن القوات الصهيونية تعمّدت المبالغة في أعداد الضحايا ونشر التفصيلات المرعبة بهدف إثارة الرعب في نفوس الفلسطينيين ودفعهم إلى الرحيل خوفاً من مصير مماثل.

خاضت دير ياسين المعركة بمفردها، وعلى الرغم من وجود قوة من جيش الإنقاذ في عين كارم القريبة من القرية، فإن أفرادها لم يتدخلوا بحجة عدم وجود أوامر. أمّا البريطانيون فلم يحركوا ساكناً واكتفوا بإصدار بيان رسمي ذكروا فيه أن الحكومة كانت قد اتخذت قراراً بضرب اليهود الذين احتلوا دير ياسين جواً، لكنها عدلت عن قرارها بعدما تبين أن المهاجمين غادروا القرية.

وقد حاول الفلسطينيون من ناحيتهم تحريك الرأي العام العالمي تجاه ما حدث عن طريق الصحافة وأجهزة الدعاية التي استخدموها على نطاق واسع لنشر أخبار المجزرة، إلاّ إن النتيجة كانت عكسية، إذ بدلاً من أن تؤثر أنباء المجزرة في الرأي العام العالمي، انعكس تأثيرها سلباً على السكان الفلسطينيين في باقي المناطق. ولم يكن الدكتور حسين فخري الخالدي، أمين سر الهيئة العربية العليا في القدس، يتوقع هذه النتيجة عندما أذاع بياناً عن المذبحة، كان غرضه التشهير بالصهيونيين وتحريك النخوة العربية. غير أن المذبحة أزالت تردد الملك فاروق عندما أحاط القادة العرب علماً (في 12 نيسان/ أبريل) بأن مصر ستنضم إلى الجيوش العربية للدفاع عن فلسطين فور الجلاء المتوقع للبريطانيين في 15 أيار/ مايو.

بحلول نهاية سنة 1948، كان  قد هُجّر سكان أكثر من 400 قرية ودُرست منازل بعضها درساً. أمّا فيما يتعلق بقرية دير ياسين، فقد قررت الحكومة الإسرائيلية فيما بعد تحويل معظم مبانيها إلى مصح للذين يعانون أمراضاً عقلية فأحاطتها بالسياج وقيدت دخولها بإذن خاص.

قراءات مختارة: 

"جريدة فلسطين"، يافا، 14/4/1948، العدد 38-9068.

الخالدي، وليد. "دير ياسين، الجمعة 9/4/1948". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999.

كناعنة شريف ونهاد زيتاوي. "القرى الفلسطينية المدمرة، رقم "4"، دير ياسين". بيرزيت: جامعة بيرزيت، مركز الوثائق والأبحاث، 1987.

مصالحة، نور الدين. "طرد الفلسطينيين: مفهوم 'الترانسفير' في الفكر والتخطيط الصهيونيين، 1882 – 1948".  بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992.

De Reynier, Jacques. “Deir Yasin, April 10, 1948.” In Walid Khalidi, ed., From Haven to Conquest: Readings in Zionism and the Palestine Problem until 1948. Beirut: Institute for Palestine Studies, 1971.

Hadawi, Sami. Bitter Harvest: A Modern History of Palestine. New York: Olive Branch Press, 1991.

Pa’il, Meir [Interview with]. “Jewish Eye-Witness.” In Daniel McGowan and Mark Ellis, ed., Remembering Deir Yassin: The Future of Israel and Palestine. New York: Olive Branch Press, 1998.

t