فرانسوا أبو سالم
ولد فرانسوا أبو سالم، واسمه الحقيقي فرانسوا غاسبار، في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1951 في بروفان (فرنسا). والده الشاعر والجرّاح الفرنسي من أصل مجري لوران غاسبار، ووالدته مصمّمة السينوغرافيا والأزياء الفرنسية فرانسين غاسبار.
تولّى لوران غاسبار إدارة المستشفى الفرنسي في القدس سنة 1954، فانتقلت العائلة إلى القدس الشرقية، حيث عاش فرانسوا أبو سالم عشر سنوات قبل أن يتم إرساله سنة 1964، وهو في الثالثة عشر من العمر، إلى لبنان لإكمال دراسته الثانوية في مدرسة سيدة الجمهور. وبعد حصوله على الشهادة الثانوية سنة 1968، عاد إلى فرنسا ودرس المسرح في ستراسبورغ، وانضمّ بعدها إلى فرقة "مسرح الشمس"، حيث عمل مع أريان مونشكين. لا يُعرف الكثير عن الفترة التي أمضاها في فرنسا، بسبب قلّة المصادر. لكن فرنسوا قرر في بداية السبعينيات العودة إلى فلسطين واستقر في القدس، وهناك عمل أمين مكتبة في المدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار، إضافة إلى عمله كمصوّر صحافي، وممثل، ومخرج. في هذه المرحلة اتخذ اسم أبو سالم، ليكون هذا التغيير شاهداً على رغبته في تأكيد المكوّن الفلسطيني في هويته، الذي لم يكتسبه بالدم وإنما بالانتماء الثقافي، والذي سيعززه المشروع المسرحي الذي شغله طوال حياته.
بداياته في فلسطين وبزوغ مشروعه المسرحي
أسّس فرانسوا أبو سالم بعد فترة وجيزة من استقراره في فلسطين، فرقة بَلالين المسرحية سنة 1971، لكنه غادرها بسبب وقوع خلافات بين أعضاء الفرقة، وأسّس فرقة بِلا-لين سنة 1974. جمعت هاتان الفرقتان ممثلين كانوا حينئذ هواة، وبات بعضهم من أهم رموز المسرح الفلسطيني اليوم، مثل إميل عشراوي، ومحمد أنيس، وعادل الترتير. وتعدّ مسيرة الفرقتين علامة فارقة في تاريخ الحركة المسرحية الفلسطينية، من ناحية عمر التجربة (نحو ثلاث سنوات لكل فرقة)، ووتيرة الأعمال المسرحية: قطعة حياة (1971)؛ العتمة (1972)؛ نشرة أحوال الجو، والكنز (1973)؛ القاعدة والاستثناء (1974)؛ العِبرة، ومصارعة حرة (1975)؛ لمّا نجنّينا (1976). ويشكّل أسلوب الكتابة الجماعية القائمة على الارتجال والعمل على خشبة المسرح، الذي اتبعته الفرقتان، نقطة تحوّل أساسية في مسار المسرح الفلسطيني الذي كان قائماً على تقديم نصوص مكتوبة مسبقاً. وقد طرحت أعمال الفرقتين، بصورة أساسية، مسألة الآثار الاجتماعية الناجمة عن الاحتلال السياسي والعسكري لفلسطين، وتناولت موضوعات أُخرى مثل مكانة المرأة في المجتمع ووطأة التقاليد. وكانت هاتان التجربتان نقطة انطلاق فرانسوا أبو سالم نحو التجربة اللاحقة التي ستكرّسه كأحد مؤسّسي المسرح الفلسطيني.
مؤسّس المسرح الفلسطيني المعاصر
شارك فرانسوا أبو سالم سنة 1977 مع جاكي لوبيك، زوجته آنذاك، في تأسيس فرقة الحكواتي في القدس. الفرقة التي يعتبرها الباحثون والمسرحيّون أول فرقة محترفة في تاريخ المسرح الفلسطيني. ويشير اختيار الاسم إلى الرغبة في جعلها جزءاً من التراث المحلي من خلال الإشارة إلى الراوي، أو الحكواتي، للرد على الفكرة السائدة بأن المسرح مستورد من أوروبا. وفي تشرين الأول/أكتوبر 1977، عرضت الحكواتي أولى مسرحياتها، باسم الأب والأم والابن، في القدس. ولقي العرض اهتماماً واسعاً تجلّى في العدد الكبير للمقالات المنشورة في الصحافة التي تحدّثت عنه، والتي أشاد بعضها بالأسلوب الطليعي المبتكَر للعمل، في حين رآه بعضها الآخر غير لائق. تُدين المسرحية القمع المزدَوج الذي عانى جرّاءه المجتمع الفلسطيني في أواخر السبعينيات: الاحتلال العسكري الإسرائيلي من ناحية، والنظام الأبوي الناتج من النظام الاجتماعي العربي التقليدي من ناحية أُخرى. وفي نيسان/ أبريل 1980، قامت الفرقة بجولة خارجية شملت أوروبا والمغرب العربي. وكانت بذلك أول فرقة فلسطينية تقدّم عروضها على المسارح العالمية. وبعد عودتها من الجولة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1980 قدّمت فرقة الحكواتي ثاني مسرحياتها محجوب محجوب، التي حققت نجاحاً كبيراً لدى الجمهور الفلسطيني، وعُرضت أكثر من مئة وعشرين مرة. ثم غادرت الحكواتي من جديد في جولة عالمية لعرض محجوب محجوب. تلا ذلك مسرحية ألف ليلة وليلة في سوق اللحامين (1982)، وجليلي يا علي (1983).
من فرقة الحكواتي إلى مسرح الحكواتي أو المسرح الوطني الفلسطيني- الحكواتي
بعد سبع سنوات من تأسيس فرقة الحكواتي، أعاد أعضاؤها ترميم مبنى سينما النزهة المهجور الواقع في قلب القدس الشرقية، وافتُتح المسرح الفلسطيني الأول رسمياً في 9 أيار/ مايو سنة 1984. ويتكون المسرح من قاعتين، تضم إحداهما 400 مقعد (تسمّى اليوم قاعة فرانسوا أبو سالم)، والأُخرى 150 مقعداً (قاعة سميح القاسم)، وكلتاهما مجهزتان بالمعدات التقنية اللازمة لتقديم عروض مسرحية احترافية. وكان القصد من المكان، منذ افتتاحه، توفير مساحة للإبداع بشكل عام، ولهذا فهو مُتاح أمام الفرق الأُخرى، والكتّاب المسرحيين، والفنانين. وبات المسرح يستضيف أيضاً معارض فنون بصرية، وحفلات موسيقية، وعروضاً سينمائية.
أثّرت أعمال الحكواتي بعمق في المسرح الفلسطيني والعالمي، وساهمت، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، في إسماع أصوات أُخرى تؤكد الوعي السياسي للفلسطينيين، وهويتهم الاجتماعية. وتقديراً لمساهمة فرنسوا أبو سالم في تسليط الضوء على الهوية الفلسطينية، منحه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، سنة 1998، جائزة فلسطين عن جميع أعماله. وفي بداية الألفية، كان مسرح الحكواتي، الذي بات اسمه المسرح الوطني الفلسطيني- الحكواتي، أحدَ المعالم البارزة في الحياة الفنية والثقافية في القدس الشرقية، ومكاناً لا غنى عنه في الحياة الثقافية والسياسية المحلية. وهو حالياً المسرح الفلسطيني الوحيد الذي لا يزال يعمل في القدس.
مساهمة في المخزون المسرحي الفلسطيني
تتميّز مسرحيات فرانسوا أبو سالم بتنوّع أساليبها وأنماط إخراجها، مثل قصة العين والسن (1986)، وقصة كفر شمّا (1987)، والبحث عن عمر الخيام مروراً بالحروب الصليبية (1990)، وأريحا عام صفر (1994)، والقديس جينيه خلف الكواليس (1995)، وموتيل (1997)، وفي ظل الشهيد (2011).
تميّز فرانسوا أبو سالم أيضاً بأعمال اقتبسها من الأدب العالمي: القاعدة والاستثناء (1974 و1986) لبيرتولد بريخت؛ ميستيرو بوفو (1988) لداريو فو؛ تقرير إلى الأكاديمية (1992) المستوحاة من نص لفرانز كافكا؛ منطق الطير (1993) لفريد الدين العطار؛ أبو أوبو في سوق اللحامين، وهي مسرحية مقتبسة من أوبو ملِكاً لألفرد جاري (2009). وأخرج كذلك نصوصاً من الأدب الشفوي الشعبي العربي والعالمي، ولا سيما العربي: لا لم يمت (2002) لحسين البرغوثي، وملحمة جلجامش (2006)، وذاكرة للنسيان (2007) لمحمود درويش.
كان للسينما نصيب من أعمال فرانسوا أبو سالم، فقد أخرج فيلمين هما عيش وملح (1978)، والقدس، أبواب المدينة (1995). ويضاف إلى رصيده أيضاً إخراج أعمال أوبرالية تميّزت بقوتها الفنية: اختطاف في السرايا لموزارت وتم تقديمها في مهرجان سالزبورغ (1997 و1998)؛ كارمن لبيزيه (1999)؛ روميو وجولييت لغونو (2000)؛ من المجنون؟ لفرانسوا ريباك (2002)؛ جلجامش لقدسي أرغونر (2003).
أنهى فرانسوا أبو سالم حياته في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2011 بالقرب من مسكنه في حي الطيرة في رام الله. وترك رحيله المفاجئ فراغاً كبيراً تراجعت معه، لفترة من الزمن، نشاطات المسرح الوطني الفلسطيني- الحكواتي التي كانت مرتبطة بشخصية مؤسّسه المركزية. ومنذ ذلك الحين لا يزال هذا الصرح شاهداً على الثقافة الفلسطينية والعربية النابضة بالحياة، وعامراً بذكرى وحضور مؤسّسه فرانسوا أبو سالم. وكما كتب محررو حوليات القدس بعد وقت قصير من وفاته، "كان فرانسوا أبو سالم رائداً فلسطينياً ومقدسياً في الذوق والإحساس والأخلاق."
المصادر:
أبو هشهش، محمود. "الحكواتي فرانسوا أبو سالم: حياة بين انتحارين". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 89 (شتاء 2012). ص 169-173.
شحادة، راضي. "سيرة حكواتي من فلسطين". عمّان: المؤسّسة الأهلية للنشر والتوزيع، 2016.
معلم، إدوار. "نصوص مسرحيّة منبريّة: مسرح عشتار – فلسطين". رام الله: عشتار لإنتاج وتدريب المسرح، 2020.
معلم، إدوار (تجميع وإعداد). "فرقة مسرح الحكواتي الفلسطيني: المسرحيات الأولى، 1978-1985". القدس: المؤلف، 2020.
نقرش، عمر ويحيى عيسى. "آلية اشتغال المخرج فرانسوا أبو سالم في فرقة مسرح الحكواتي الفلسطيني". "مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الانسانية)". المجلد 28 (6)، 2014، ص 1477-1500.
Al-Saber, Samer. “Permission to Perform: Palestinian Theatre in Jerusalem (1967–1993),” Ph.D. diss., University of Washington, 2013.
Al-Saber, Samer. “Surviving Censorship: El-Hakawati’s Mahjoob Mahjoob and the Struggle for the Permission to Perform.” In Patrick Duggan and Lisa Peschel (eds.), Performing (for) Survival. Theatre, Crisis, Extremity. London: Palgrave Macmillan, 2016, pp. 141-159.
El Sakka, Abaher. “Le théâtre dans la société palestinienne.” Horizons maghrébins-Le droit à la mémoire. Créations palestiniennes, no. 57 (2007), pp. 49–57.
“François Abu Salem and Theater in Palestine” (Editorial). Jerusalem Quarterly, issue 48 (Winter 2011), pp. 3–5.
Nakhlé-Cerruti, Najla. L’individu au centre de la scène. Trois pièces palestiniennes. Beirut: Presses de l’Ifpo, 2020.
Nakhlé-Cerruti, Najla. La Palestine sur scène. Une expérience théâtrale palestinienne (2006–2016). Rennes: Presses Universitaires de Rennes, 2022.
Nassar, Hala. “Stories from under Occupation: Performing the Palestinian Experience.” Theatre Journal, vol. 58, no.1 (2006), pp. 15–37.
Snir, Reuven. “The Palestinian al-Hakawati Theater: A Brief History.” The Arab Studies Journal 6/7, no.2–1 (Winter 1998/ Spring 1999), pp. 57–71.
Snir, Reuven. Palestinian Theatre. Wiesbaden: Reichert, 2005.