مذكرة اللجنة العربية العليا
على تقرير لجنة بيل
القدس، 23 تموز/ يوليو 1937
إلى فخامة المندوب السامي لفلسطين وبواسطته
إلى وزير المستعمرات في لندن وإلى رئيس لجنة الانتدابات الدائمة في جنيف
اطلعت اللجنة العربية على تقرير اللجنة الملكية لفلسطين الصادر في 7 تموز [يوليو] 1937 مقترناً ببيان السياسة البريطانية المؤرخ بالتاريخ المذكور، وتود اللجنة أن تجيب على ذلك بما يلي:
1- خيبة آمال العرب:
تأسف اللجنة العربية العليا لأن تعرب في مستهل مذكرتها عما تولى عرب فلسطين من خيبة أمل شديد، لدى اطلاعهم على نتائج التحقيقات التي قامت بها اللجنة الملكية في هذه البلاد، وعلى التواصي والمقترحات التي انتهت إليها اللجنة المشار إليها وقدمتها في النهاية حلاً لقضية فلسطين. ولما كانت هذه التواصي والمقترحات لا تلتئم ومصلحة البلاد بوجه ما، فاللجنة العربية العليا تعلن رفضها لها وبصورة خاصة لمشروع التقسيم رفضاً باتاً، معتقدة بكل إخلاص أن هذا المشروع أبعد من أن يكون وسيلة صالحة لتوطيد السلام وإقرار الطمأنينة العامة في هذه البلاد.
2- خطأ اللجنة الملكية في الأساس لاعتبارها قضيتي العرب واليهود متوازيتين في القيمة التاريخية والمعنوية:
وتعتقد اللجنة العربية العليا أن من الخطأ الكبير، الرأي الذي ذهبت إليه حكومة جلالته من أن العرب واليهود في فلسطين فريقان متنازعان لهما حقوق متساوية. ومع أن العرب لم ينفكوا يرفضون هذا الرأي بغير تردد، ويقيمون الحجة على فساده وبطلانه، فإن اللجنة الملكية في سعيها إلى حل المشكل قد جاوزت هذا الرأي إلى ما هو أبعد منه، فاعتبرت قضية اليهود كأنها هي الأصل والمحور، وقضية العرب تدور معها كيفما دارت، فلذلك أمست السياسة التي أعلنتها الحكومة في الواقع سياسة ترمي إلى تحقيق الوعود المبذولة لليهود، تحقيقاً معتبراً في المقام الأول، وبعد ذلك وفي المقام الثاني ينظر في الوعود المقطوعة للعرب. وقد ظهر هذا جلياً على الرغم من أن لجنة الانتدابات الدائمة والحكومة البريطانية كثيراً ما قالتا وأعلنتا بغاية التوكيد أن الالتزامات المترتبة على الانتداب هي التزامات (مزدوجة) متساوية في الوزن والقيمة، في حين أن هذا الاعتبار لتساوي حقوق الفريقين ينتقص حقوق العرب انتقاصاً كبيراً على غير مبرر معنوي أو تاريخي. فالعرب هم أهل البلاد من أحقاب متطاولة وأصحاب الكيان فيها قبل الاحتلال البريطاني بمئات السنين، وهم الكثرة المطلقة أمس واليوم. أما اليهود فهم أقلية طارئة ولم يكن لهم قبل الحرب في فلسطين كيان جدير بالذكر، ومن ناحية علاقتهم وصلاتهم السياسية بالبلاد فهذه كلها تصرمت وانقطعت منذ نحو ألفي سنة. وليس للرغبة في تجديد هذه العلاقات التي اتخذت شكل الوطن القومي اليهودي، ما يبررها من حقوق الأمم في القديم والحديث من الزمان، كما أن هذه الرغبة في محاولة تنفيذها لا تستند إلى شيء سوى القوة البريطانية المسلحة، ونشوة الهوس السياسي عند اليهود الذين استغرقهم هذا الهوس فبات يصعب عليهم إدراك الحقائق السياسية إدراكاً عملياً صحيحاً.
3- ظروف الحرب العامة والتزامات الحكومة البريطانية:
لم يسع اللجنة الملكية إلاّ الاعتراف بأن الحكومة البريطانية، وهي تجتاز أزمات الحرب العامة وتغالب شدة وطأتها، قضت عليها الضرورة بأن تعطي إلى اليهود تصريح بلفور، بعد أن كانت قبل ذلك بمدة من الزمن قد قطعت للعرب وعوداً معروفة. ولعل الحكومة البريطانية لم تجد بأساً أن ترى موقفها موقفاً صحيحاً إذ التزمت التزامين، تعتقد أن كلاً منهما مستقل في تنفيذه عن الآخر، غير أن هذا لا يغير شيئاً من الحقيقة التي لا نزاع فيها، وهي أن للعرب الحق الطبيعي الكامل في التمتع بحريتهم وسيادتهم في بلادهم، والعهود التي حصلوا عليها من الحكومة البريطانية وأدوا ثمنها غالياً إنما كانت وسيلة من الوسائل للوصول إلى هذا الحق. وأما التصريح الذي صدر من الحكومة البريطانية إلى اليهود، فالعرب قاموا من أول الأمر ينادون بإبطاله، وأنه ما كان ينبغي للحكومة البريطانية أن تصدره على حسابهم، وهي في إعطائه قد خالفت القواعد الطبيعية الثابتة مخالفة ظاهرة، من ناحية أنها رمت إلى إدخال جماعات غريبة على أمة مستقرة في بلادها مجتمعة بوطنها، لتنشىء لتلك الجماعات الدخيلة وطناً قومياً وتجعل من اليهود على التوالي أمة مستقلة الكيان وتساعدهم في تملك الأراضي، وهي، أي الحكومة البريطانية، لا حق لها أن تفعل هذا، والبلاد كانت ولا تزال مأهولة بأصحابها العرب منذ الأزمان القديمة.
4- اعتراض العرب الدائم على تصريح بلفور:
شرع العرب يعترضون على تصريح بلفور ويقاومونه على غير انقطاع منذ أعلن وأخرج إلى عالم السياسة في سنة 1917. وقد كان اعتراض العرب على هذا التصريح يتوالى ويعلنون بطلانه في مؤتمراتهم وأحزابهم ووفودهم، وينادون على مسمع من الملأ بما يحتوي عليه من تناقض وظلم وإجحاف. وبأنه بأصل جرثومته ضلال عن الحق ومكابرة فيه. فإن الكلمات والعبارات التي صيغ منها ذلك التصريح، إن دلت على شيء فإنما تدل على الغدر في وضح النهار بعرب فلسطين غدراً شائناً. فلذلك جعلوا يطالبون بإلغائه وينذرون السلطات البريطانية بما يجره على البلاد من وخيم العواقب وجسيم الكوارث.
5- اعتراف اللجنة الملكية باستحالة التوفيق بين الالتزامين وتجاهل الحكومة البريطانية ولجنة الانتدابات الدائمة هذه الحقيقة:
ومن الواجب أن تشير اللجنة العربية العليا في هذا الموضوع إلى أن اللجنة الملكية في تقريرها، والحكومة البريطانية في بيان سياستها، قد اعترفتا باستحالة التوفيق بين الالتزامين الصادرين من الحكومة البريطانية إلى العرب واليهود، لتناقضهما. وقد كان هذا الأمر بطبيعته الشاذة واضحاً من أول ظهوره وظهور الانتداب، وأثناء تنفيذ السياسة التي قامت عليه، وهذا يثبت أن الحكومة البريطانية أصرت على خطئها وتناقض سياستها مستندة في ذلك على القوة وحدها، غير مكترثة لاحتجاجات العرب، يزجونها إليها المرة تلو المرة، وغير معتبرة بالمظاهرات التي اندفعوا إليها بالسائق الطبيعي لإعلان استنكارهم، وكانوا في سبيل هذا يحتملون ما قدر لهم احتماله من ضحايا كبيرة في الأنفس والأموال. وظلت الحكومة البريطانية تتمادى في هذه السياسة حتى أصبح اليهود في فلسطين (400,000) وغدا هذا العدد عاملاً عظيماً في ازدياد المشكلة الفلسطينية تعقداً. ومن المؤسف حقاً أن لجنة الانتدابات الدائمة لم تكلف نفسها عناء القيام بتحقيق نزيه، والاحتجاجات الملحة تصل إليها من العرب صارخة، وها هي الحوادث والبيانات الأخيرة تثبت أن لجنة الانتدابات لم يكن عندها أسباب تبرر تسليمها للحكومة البريطانية بما كانت تدلي به، وتؤكده أمامها بغير حق، من أن التوفيق بين نوعي الالتزامات أمر ممكن. فالتقصير والحالة هذه باد من هذه الناحية أيضاً.
6- اعتراف اللجنة الملكية برغبة العرب في نيل استقلالهم ومعارضتهم للوطن القومي منذ الاحتلال:
ومن الواجب كذلك أن تشير اللجنة العربية العليا إلى أن اللجنة الملكية في تقريرها قد اعترفت بأن رغبة العرب في نيل استقلالهم القومي ومعارضتهم إنشاء الوطن اليهودي بكل شدة، كانتا من أول عهد الاحتلال البريطاني لفلسطين، وزادت اللجنة الملكية في الاعتراف أنه لم يطرأ عليهما تبدل، بل كلما اطرد الأمر وطالت به الأيام، اشتدتا وازدادتا قوة ونزوعاً إلى الغاية. فإن أسباب اضطرابات سنة 1936 ما هي في الواقع إلاّ الأسباب التي كانت تنبعث عنها المظاهرات التي قام بها العرب منذ سنة 1920، ولكن هذه الأسباب بلغت في السنة الماضية من النمو والاتساع مبلغاً فائق الحد. أما الحكومة البريطانية فقد بقيت ويا للأسف تهمل وزن هذه الحقيقة التي كلما ظهرت أجلى وأبعد مدى، جابهتها بالإنكار والقسوة، فكانت السلطة تقابل مظاهرات العرب السلمية الحقة بالحراب والنار، من حيث كان يرجى منها أن تتلقى ذلك من العرب بروح تدل على رغبتها في إنصاف المظلوم ورفع الحيف وعلاج القضية من حيث الأساس. ولو فعلت ذلك لما كان إحقاق الحق مستحيلاً. وليس من قضية تستعصي على الحل، إذا ما دبرت وعولجت بمبادىء الحق والعدل، ونفذت قوة بصيرة من يعالجها إلى الصميم من أسبابها. ولكن أين حظ العرب من هذا!
7- المشكلة الفلسطينية ممكن حلها على أساس العدل والحق القومي:
إن من ينظر في المشكلة الفلسطينية مخلصاً متجرداً عن الهوى، مستهدياً بنور العدل وقواعده، بانياً على أساس الحقوق الطبيعية، لا يحكم كما حكم بعضهم، بأن هذه المشكلة هي من الأعضال والاستعصاء بحيث تحتاج إلى "عملية جراحية" تكون بلا ريب قاتلة للبلاد بأسرها. فعند طلب الحل لهذه القضية لا مندوحة للمنصف من أن يسلم تسليماً تاماً بأن فلسطين ما برحت بلاداً عربية، كثرتها المطلقة من السكان العرب، والكثرة الغالبة من أصحاب الأراضي والأملاك عربية، والعرب لم يبرحوا يستوطنون البلاد استيطاناً متصلاً منذ أكثر من (1400) سنة. فأين هذا من اليهود الذين هم أقلية طارئة، ولا يزال العدد الوافر منهم محتفظين بجنسيتهم الأجنبية، غير مخلصين للوطنية الفلسطينية، ويحول بينهم وبين أن يستقروا في البلاد استقرار العرب ويتمكنوا تمكنهم، كثرة ما لهم من صلات وروابط اقتصادية واجتماعية ببلدان أجنبية عديدة كما اعترفت اللجنة الملكية بهذا، وليست فلسطين هي البلاد الوحيدة التي فيها أكثر من عنصر قومي واحد، بل إن هذا يكاد يكون مشاهداً في كل العالم، ومع ذلك ففي البلدان التي توجد فيها هذه الحال يكون حكم المسألة مستمداً من القاعدة العامة التي لا تبديل لها وهي حكم الأكثرية مع حماية الأقلية. ولهذا كان ينتظر من اللجنة الملكية، بعد أن اطلعت على جميع الظروف أن تسير على هذه القاعدة فتقترح الرجوع في حل مشكلة فلسطين إلى الأصول الطبيعية التي عليها الأمم في أنحاء العالم.
8- انحراف اللجنة الملكية عن الحلول الطبيعية وما ينجم عن اقتراحاتها من سوء أثر:
غير أن اللجنة الملكية لم تسر في ذلك الطريق السوي العادل، وأتت باقتراحات عجيبة شاذة، يراها كل فرد من أهل البلاد أنها تزيد في تعقد المعضلة، وتبعث على زيادة القلق المخيم، وتظل تقطع الأمل في تحقيق الطمأنينة المنشودة وتمكين الثقة في النفوس. وقد استلهمت اللجنة الملكية اقتراحاتها من نظرها في المطالب اليهودية دون الرجوع بالحق والنصفة إلى القضية العربية، هذا أولاً. وثانياً من تأثرها بما أثاره الشهود اليهود أمامها من شعور العطف على إخوانهم يهود العالم، إزاء ما حل بساحتهم من الاضطهاد، وأصابهم من الآلام في مختلف بلدان العالم، ومهما بدا هذا لناظره شيئاً محموداً بذاته، فإن رغبة اللجنة الملكية في الوصول إلى حل يخفف عن اليهود وطأة الاضطهاد الذي يلاقونه في العالم، ينبغي أن تحقق على غير حساب عرب فلسطين، وفي غير بلادهم، والعرب على كل حال ليس بوسعهم أن يتلقوا هذه الرغبة إلاّ بالإنكار والاعتراض، حرصاً على مستقبلهم القومي وكيانهم.
9- القضية اليهودية العالمية واستحالة حلها بواسطة فلسطين:
تستغرب اللجنة العربية العليا كل الاستغراب أن اللجنة الملكية، وهي متأثرة بالأحوال السيئة التي تحيق باليهود في بلدان العالم، قد تغاضت عن الحقيقة الظاهرة من أن قضايا اليهود العالمية المتفرقة في الأقطار والممالك لا تكون قد حلت واستقر قرارها بإعطاء اليهود فلسطين كلها أو قسماً منها، ذلك للسبب البين المحسوس وهو أن فلسطين ولو استوعبت أعظم ما يمكنها استيعابه من مهاجري اليهود، فإن هؤلاء لا يزيدون على جزء من مجموع يهود العالم.
وعلى نور هذه الحقيقة، لا بد من القول أن الشعب البريطاني، إذا كان يرغب في مناصرة اليهود بدافع إنساني، والأخذ بأيديهم إلى مواطن السلامة والطمأنينة والخلاص من النقمة والاضطهاد، فالسبيل إلى هذا لا يكون بوضع الخطط التي يقتلع بها عرب فلسطين من بلادهم، ويرمون من خير البقاع التي ورثوها من آبائهم وأجدادهم، ليحل اليهود محلهم. ووجه اسداء الخير إلى اليهود من بريطانيا العظمى غير خفي، فهي بوسعها إذا شاءت أن تتخذ من نفوذها الواسع وسلطانها المترامي الأطراف في العالم وسيلة إلى حماية اليهود وما لهم من مصالح ومرافق في البلدان التي هي مواطنهم ومحال سكناهم اليوم، أو أن تقطعهم الأقاليم الكافية لاستيطانهم جميعاً من حر أملاكها وأراضيها ومستعمراتها.
10- اقتراح اللجنة الملكية بخصوص الدولة اليهودية:
أوصت اللجنة الملكية بإنشاء دولة يهودية ذات سيادة، تشمل حدودها، على ما أشار إليه التقرير، أفضل الأقسام والنواحي وأخصب السهول بجملتها تقريباً، مع السواحل الفلسطينية والإقليم الزراعي الكبير في الشمال، إلى الحدود الشمالية الفاصلة بين فلسطين سورية ولبنان. وفي هذه المنطقة الواقعة ضمن التخطيط الوارد في التقرير (300,000) يهودي و(325,000) عربي على أقل تقدير. وفي الجهات الشمالية من هذه المنطقة أقضية عربية برمتها. ففي قضاء عكاء مثلاً (50,000) عربي و(63) قرية عربية وليس فيه لليهود سوى قرية واحدة لا يزيد عدد سكانها على (300) نفس، وفي أقضية طبريا وحيفا وصفد، وهذا كله في الأنحاء الشمالية، لا يبلغ عدد اليهود الربع من مجموع عدد السكان. وفي إحصاء سنة 1931 الذي أوردته اللجنة الملكية بلغ عدد العرب في هذه الأقضية الأربعة 171,000 نفس وعدد اليهود 35,000 نفس* وفي السهول والسواحل الواقعة في المنطقة اليهودية عدد كبير من القرى العربية، والعرب على الإجمال يملكون في جميع هذه المنطقة نحو أربعة أضعاف ما يملك اليهود من أراض وعقار وممتلكات ومرافق.
والمنطقة المخططة للدولة اليهودية تبلغ مساحتها نحو (8,000,000) دونم من هذه المساحة (4,500,000) دونم أراض زراعية واليهود لا يملكون من هذه الأراضي الزراعية إلاّ نحو (1,250,000) دونم. أمّا أراضي البرتقال فإن 7/8 من مجموع ما يملكه العرب من بساتين البرتقال واقعة في المنطقة المخططة للدولة اليهودية. وفي هذه المنطقة أيضاً مئات المساجد والكنائس والمعابد والمقامات الدينية والمقابر ومساحات واسعة من الأوقاف الدينية. فإنشاء دولة يهودية في هذه المنطقة معناه وضع فريق من العرب تتألف منهم الكثرة الغالبة في العدد والممتلكات والأراضي والأماكن الدينية، تحت سيطرة الدولة اليهودية. وهذا أمر عظيم ينطوي على خطر كبير، ولا يتفق مع أي منطق، وفيه ذل العرب واسترخاص لكرامتهم، فوق كونه متعذر التنفيذ. وما أبعد الشذوذ الذي شذته اللجنة الملكية في هذا الموقف، فإنها وهي تستنكر وضع أقلية يهودية تحت سيطرة أكثرية عربية – كما هو جار في كل العالم – لا تجد بأساً ولا صعوبة أن تقلب هذه القاعدة وتجري عليها معكوسة، فتضع أكثرية عربية تحت حكم أقلية يهودية.
وقد أشير في تواصي تقرير اللجنة الملكية إلى اقتراح (عملية تبادل السكان) والأملاك والعقار بين الدولتين المقترحتين. وذلك في الحقيقة اقتراح غريب لا تدرك فيه الأسباب الدالة على إمكانه، فإن اللجنة الملكية تبين بغير خفاء أن في منطقة الدولة العربية (1250) يهودياً يملكون جزءاً ضئيلاً جداً من الأراضي، وأن في منطقة الدولة اليهودية (كما جاء في تقرير اللجنة الملكية) نحو (225,000) عربي، يضاف إليهم (100,000) عربي آخرين يسكنون مدن حيفا وعكاء وطبريا وصفد. ومن هذا يتضح أنه ليس هناك ما يصح أن يسمى "تبادل سكان" من ناحية اليهود، بل كل ما في الأمر أن المراد هو إجلاء العرب بالقوة والإكراه عن مواطنهم ووضع اليد على أملاكهم وأراضيهم ومرافقهم كما جاء في تواصي التقرير.
وقد اطلعت اللجنة العربية العليا على ما قالته اللجنة الملكية من أن المساجد والكنائس والمعابد والمقامات والأوقاف الدينية التي لأي شعب في منطقة الشعب الآخر تكون في حماية الدولة المنتدبة، ولكن غاب عن اللجنة أن قدسية جميع هذه الأماكن إنما تحقق بأن يظل أصحابها يمارسون واجباتهم الدينية فيها ممارسة متصلة. ولا يسع العرب في هذا الوضع إلاّ أن يذكروا بالوجل والأسى، المصير السيىء الذي آلت إليه المقامات الدينية التي كانت في القرى العربية التي استولى عليها اليهود. فما كان للعرب في هذه القرى من مساجد ومعابد ومقامات ومقابر قد اندثرت صورته وتلاشت معالمه.
ولسنا ندري كيف فات اللجنة الملكية، بعد أن وصفت ما شاهدته في العرب من نمو الروح القومية ورسوخ الوطنية واطراد مناحيها، أن توصي بمثل هذا، متجاهلة النتائج المكروهة التي لا بد أن تنشأ عن مثل هذه المحاولة. فهؤلاء العرب الوافرو العدد إذا ما واجهوا المصير المرعب المعد لهم فإنهم بلا ريب لن يقبلوا به. وإذا أريد تنفيذ التوصية بالقوة فإنهم لا يترددون أن يختاروا الموت العاجل الشريف عن بكرة أبيهم في أرض آبائهم وأسلافهم من وطنهم المقدس.
بالإضافة إلى ما تقدم؛ فإن الدولة اليهودية المقترحة ستكون سداً كبيراً يقطع الاتصال بين القسم العربي في فلسطين والبلاد السورية التي تجمع بينهما روابط القربى والدم والثقافة وجميع مقومات الأمة الواحدة. ولا يرى العرب في هذا الفصم لعروة البلادين الشقيقتين سوى ضربة موجهة إلى الوحدة العربية المبتغاة. ومن ناحية أخرى، إن للعرب في الحوادث الحاضرة والغابرة عبرة كبيرة. فإننا واثقون موقنون أن إنشاء دولة يهودية في فلسطين يحشد إليها المهاجرون اليهود حشداً كثيفاً، من شأنه أن يزيد استثارة المطامع اليهودية استثارة تدفع بهم إلى طلب التوسع، كما صرح بهذا زعماؤهم وقادتهم. وهذا يجعل حدود الأراضي العربية في الشرق والشمال والجنوب، معرضة على الدوام للاعتداء عليها بقصد التوسع السياسي الاقتصادي، وهذا الاحتكاك يؤدي في النهاية إلى نضال قد يكون طويل الأمد بين العرب واليهود ويتسع مضطربه حتى يشمل ذلك أرجاء الشرق الأدنى قاطبة.
11- اقتراح إنشاء منطقة الانتداب الدائم:
أوصت اللجنة الملكية بإنشاء منطقة انتداب بريطاني دائم تشمل القدس وبيت لحم والناصرة ورواقاً ممتداً من القدس إلى يافا. وقد ذكرت اللجنة الملكية أن الضرورة الملحة الباعثة على إنشاء هذه المنطقة، هي للتمكن من حراسة الأماكن المقدسة ولضمان حرية الوصول إليها. وقالت اللجنة الملكية أيضاً في هذا الباب أن من الضرورة المتعلقة بإنشاء هذه المنطقة أن يطمئن مسلمو العالم على أماكنهم المقدسة من جهة أنها لا تقع تحت سيطرة اليهود.
وتبين اللجنة العربية العليا بوضوح أن هذه المنطقة تحتوي على بقية الأقسام الخصبة الطيبة المهمة من البلاد ومعظمها بأيدي العرب. وليس لليهود فيها، ما عدا القدس، أملاك تذكر. ففي هذه المنطقة نحو (100,000) عربي يسكنون المدن القديمة من القدس وبيت لحم والناصرة واللد والرملة وأرياضها. وما منطقة الانتداب الدائم هذه، وهي تمر في بلاد يملكها العرب، إلاّ تدبيراً آخر بالإضافة إلى التدابير السابقة مما يحول دون بلوغ الوحدة التي يطمح إليها العرب. وإنه ليؤلمهم كل الإيلام أن يروا هذه المنطقة، وفيها الأماكن المقدسة للإسلام والمسيحية، تخرج من سيطرتهم خروجاً دائماً. وزيادة في سوء المصير فإن القرى العديدة في قضاء القدس ستفصل عن المدينة ويكون نصيبها العزلة التامة تقريباً فتخسر هذه القرى الروابط الحيوية المختلفة التي تربطها بالقدس من اقتصادية واجتماعية وإدارية.
ولما كانت القدس متحكمة بموقعها في طرق المواصلات في البلاد، فمخاوفنا من اقتراح اللجنة الملكية في صدد هذه المنطقة، مخاوف بالغة ولا ريب، لأن هذا الرواق يشطر المنطقة العربية شطرين فاصلاً جنوبها عن شرقها وشمالها. ثم تبقى القدس، وقد فارقها مقامها الطبيعي الأول في البلاد، وفيها (75,000) يهودي، و(25,000) مسلم، و(20,000) مسيحي، فتستولي عليها المصالح اليهودية والنفوذ اليهودي استيلاء سريعاً.
وأنه على الرغم من أن اللجنة الملكية قالت في تواصيها أن منطقة الانتداب البريطاني الدائم لا يسري عليها وعد بلفور، غير أن التجارب الماضية تدل دلالة قاطعة على أن اليهود لن يجدوا صعوبة أن يتخذوا من الزيارة الدينية باب هجرة إلى منطقة الانتداب وخاصة إلى القدس، فعلى التوالي يعظم شأن اليهود لكثرتهم ونفوذ كلمتهم، ويحقر شأن العرب، حتى يأتي يوم يكون اليهود قد ابتعلوا العرب وتكون الأماكن المقدسة قد خرجت من أيديهم خروجاً نهائياً.
أما الناصرة، وستكون قصبة صغيرة محاطة باليهود من كل جهة، فأهلها العرب إذا شاؤوا الاحتفاظ بخصائصهم القومية فلن يجدوا سبيلاً إلى هذا، لأن اليهود سيشددون عليهم وطأة الضغط الاقتصادي والاجتماعي فيضيق الأمر بهم فيضطرون إلى النزوح عن مدينتهم التي استوطنوها قروناً عديدة وما برحوا يقدسونها تقديساً.
وليس للعربي مؤمّل خير بالانتداب البريطاني المقبل الدائم، بعد أن أشبعتهم الأيام من دروسه مدة السبع عشرة السنة الماضية، فالحظ الذي أصابته البلاد تحت الانتداب الموقت الشامل فلسطين بأسرها، لا يكون خيراً منه الحظ المعد للمنطقة التي ستكون تحت الانتداب الدائم.
وأن نظام الانتداب المقترح للمنطقة الانتدابية ورواقها سينتهي لا محالة بالعربي الذي يبتغي البقاء في مسقط رأسه ساعياً وراء أسباب رزقه، إلى الخيبة المريرة في ثقافته وحياته القومية. فالإنكليزية ستكون اللغة الرسمية القانونية، والعربي الذي يود أن يحافظ على سننه القومي، بغير اصطناع الزلفى، سيجد حائلاً يحول بينه وبين التوظف في حكومة المنطقة الانتدابية بحجة أنه لا يحمل ولاء مخلصاً للانتداب. ومن الشذوذ العجيب أن الحكومة التي لا تنكر اليوم على العرب من المسلمين والمسيحيين، ما يشعرون به من قلق على مستقبل أماكنهم المقدسة هم لا يزالون الكثرة الكبيرة في البلاد، تذهب إلى القول إن الأماكن المقدسة تبقى في حرز من الحماية والصيانة بعد خروجها من أيدي الكثرة العربية وبعد أن تسود المنطقة الانتدابية أوضاع وأحوال تنتهي بتغلب اليهود عندما يصبحون هم الكثرة الغامرة.
12- المسيحيون ومشروع اللجنة الملكية:
قالت اللجنة الملكية جازمة أن المسيحيين في العالم لا يسعهم أن يكونوا في شعورهم بمعزل عن إخوانهم في الدين، وأن لا يتأثروا بأحوالهم وأمورهم من حيث يريدون لهم الخير، ويحبون أن يعاملوا بالحق والعدل في الأراضي المقدسة. ولذلك قالت اللجنة الملكية أن المحافظة على قدسية القدس وبيت لحم والناصرة (أمانة في عنق المدنية).
وتشعر اللجنة العربية العليا الممثلة للمسيحيين والمسلمين في فلسطين على حد سواء، أن من الواجب المحتم عليها في هذا الصدد أن تقول إن الدولة المنتدبة تحت ستار ادعائها أنها تقوم بالمحافظة على الأمانة التي وصفتها، إنما تضحي بمصالح الأهالي المسيحيين لإشباع مصالح اليهود ومصالحها الاستعمارية لا غير، فإن حراسة الأماكن المقدسة كان يقام بها خير قيام تحت الحكم العربي الإسلامي، غير أن هذه الحراسة إذا ما كان مقدراً لها أن تصبح عرضة للانتقاص والتفريط، فذلك لتقييدها بنظام انتدابي يكون فيه لليهود اليد العليا ولا ريب.
إن مسيحيي فلسطين كما قالت اللجنة الملكية صريحاً، يشاطرون إخوانهم المسلمين الأماني القومية إلى الحد الأقصى. ويعتقدون أن المصالح المسيحية بجملتها وحراسة الأماكن المقدسة، كل ذلك يكون في ظل الاستقلال القومي، أوفى حظاً من الرعاية والصيانة منه في ظل أي نظام من أنظمة الانتداب الذي يوضع لهذه الغاية. ومما هو جدير بالملاحظة أن نحو نصف المسيحيين سيكونون بموجب مشروع اللجنة الملكية تحت سلطان الدولة اليهودية، فيصبحون عرضة للإجلاء بالقوة عن أوطانهم، ومفارقة ممتلكاتهم، والتخلي عن مقدساتهم ومعابدهم.
13- المقاصد الاستعمارية من منطقة انتداب دائم:
يبدو لكل مدقق منصف، وهو يمعن نظره في المقترحات التي تتعلق بإنشاء منطقة انتداب دائم وبالتدابير الخاصة بمرفأي يافا والعقبة أن الاعتبارات الاستعمارية العسكرية، لا الدينية، كانت بالحقيقة المحور الذي دارت عليه هذه المقترحات بأنواعها، وأنه من الصعب الاعتقاد أن من قبيل المصادفة المجردة أن يقع مطار اللد والرملة، والمحطة الرئيسية لسكك الحديد، حيث تلتقي خطوطها من مصر وحيفا والقدس ويافا، في منطقة الانتداب الدائم. ثم أن الخطورة الحربية لموقع العقبة وما له من قابلية في المستقبل للإشراف منه على قناة السويس والبحر الأحمر، كل ذلك، واضح لذي عينين. ومع أن العلاقة بين منطقتي العقبة والأماكن المقدسة لم تتناول بوضوح وتحديد واف، فيظن أن هذا التدبير سينطوي في الحقيقة على بسط رقابة انتدابية على جميع القسم الجنوبي من الدولة العربية المقترحة. فأين يكون الاستقلال مع هذا يا ترى؟ على أن العرب ما أبوا يوماً قبول البحث مع بريطانيا العظمى على أساس معقول في ما يتعلق بضمان سلامة مصالحها الإمبراطورية وطرق مواصلاتها على نحو ما تم عليه الأمر في العراق ومصر. وعند ذلك لا يبقى سبب من الأسباب الدينية أو العسكرية يبرر وضع انتداب دائم على أواسط فلسطين شاملاً مدينة العاصمة والأماكن الدينية التي يقدسها العالم العربي والإسلامي. كما أنه من الصعب الافتراض أن العرب الذين ناهضوا الانتداب الموقت 18 سنة ماضية، يرضون أقل رضا بأن يحل محله انتداب دائم.
14- الدولة العربية:
أوصت اللجنة الملكية بأن الأقسام العربية الباقية من فلسطين، بعد إنشاء الدولة اليهودية ومنطقة الانتداب الدائم، تضم إلى شرق الأردن، ومن هذا جميعاً تؤلف دولة عربية واحدة. إن العرب يرحبون ولا شك كل الترحيب بكل اقتراح حق وطارىء من طوارئ التطور مما يؤدي إلى تحقيق آمالهم في الحرية والاستقلال، والاتحاد مع الأقطار العربية الأخرى. وهم بهذه المناسبة يسجلون على اللجنة الملكية اعترافها بكفايتهم لإدارة الأمور وتولي الأحكام، وبقوة الروح الوطنية النامية في صدورهم. غير أن العرب ما كانوا يوماً من الأيام يرضون في أية حالة عن اقتطاع أخصب الأنحاء من بلادهم لتنشأ فيها دولة يهودية ومنطقة انتداب بريطاني دائم، الأمر الذي ينافي آمالهم القومية ويجعل نصف عرب فلسطين يحيق بهم ويل كبير. وأما تشبيه اللجنة الملكية الحل المنشود "بعملية جراحية" فيوحي إلينا أن العضو المبتور ولو بقي جذعه متصلاً بباقي أعضاء الجهاز النامي، اتصال بقاء وحياة نوعاً ما. والجانب الذي ترك للعرب من فلسطين هو هذا العضو المبتور، أو هو إقليم جبلي أجرد قاحل قليل الإنتاج، محصور ضمن حدود غير طبيعية من ثلاث جهات. وهذا جلي لا يحتاج إلى شرح، ففي الزراعة يراد أن يقطع اليهود خير الأراضي وأجودها وأخصبها، وفي الصناعة والتجارة وهما مبعث الحياة والنمو (كميناء حيفا والسكك الحديدية والطرق الحديثة الإنشاء) كل هذا سيخرج من يد العرب ويكون نصيبهم الحرمان.
وفوق هذا فإن الدولة العربية، بعد أن تفقد حق العرب التاريخي في حماية الأماكن المقدسة، ستفقد فوق ذلك مورداً من موارد الدخل الذي يجنى من الحج والسياحة، وستخسر كثيراً من موارد الرزق وأبواباً جمة من الأعمال المدرة الناشئة عن زراعة الأثمار الحمضية في هذه المنطقة، وستخسر في منطقة الجليل الشمالية محاصيل زيت الزيتون الوافرة، وفي السهول غلال البطيخ.
أما ما يتعلق بعدد السكان، فإن اللجنة العربية العليا مع رفضها نظرية التقسيم، ليتولاها الدهش من الكيفية التي بها فرقت اللجنة الملكية حزمة العرب تفريقاً لا تعرف له قاعدة ولا نهج. إذ أن البلاد التي يقطنها (950,000) عربي، قد فكك بعضها من بعض بحيث لم يبق من هذا العدد إلاّ ما يقارب (570,000) لينضووا إلى الدولة العربية. أما ميناء يافا فأمره موضع عجب كبير في هذه القضية مما لم يسبق له مثيل، إذ كيف تتسق الحياة لهذا الميناء المعتبر جزءاً من الدولة العربية وقد فصل عنها فصلاً تاماً، فمن الشمال والجنوب تحوطه الدولة اليهودية المقترحة ومن الشرق منطقة الانتداب البريطاني الدائم. ثم إن معظم ما يملكه أهل ميناء يافا من بساتين برتقال وأملاك مختلفة، واقع في حدود الدولة اليهودية، فالعزلة التي سيعانيها هذا الميناء خانقة ولا جدال. وفي النهاية سيكره هذا الميناء المطلق عليه اسم ميناء عربي، على تطبيق التعرفة الجمركية التي تسنها منطقة الانتداب ولا يكون بمقدوره أن يطبق تعرفة الدولة التي ينتمي إليها.
وقد حاولت اللجنة الملكية أن تظهر بمظهر المشفق على الدولة العربية ومستقبلها ومصالحها، هذه الدولة التي يخاف عليها من الإفلاس من أول ظهورها. فاللجنة الملكية وهي تشعر بهذا تقترح أنه مع منحة المليوني جنيه إلى شرق الأردن بدلاً من المنحة السنوية الجارية، ينبغي أن تدفع الخزانة البريطانية منحة أُخرى لتنفق على الري وتحسينه وعلى الإسكان، بحالة تنفيذ ما عبر عنه اقتراح اللجنة من (عملية تبادل السكان). والفقر الذي سيلازم الدولة بسبب ما سلخ من أراضيها الطيبة المقتطعة للدولة اليهودية ومنطقة الانتداب، كأن اللجنة الملكية قد دلت عليه من ناحية أُخرى باقتراحها أن تدفع الدولة اليهودية للدولة العربية مساعدة مالية سنوية. وإننا فوق ما نرى من أن المالية اليهودية في فلسطين غير جديرة بثقتنا أن المنحة ممكنة التنفيذ، فإن نظاماً مالياً كهذا يجعل الدولة العربية معرضة دائماً لتهوي مهاوي الإفلاس، وتتولد من هذا النظام أسباب للدولة اليهودية تتذرع بها في الحقيقة لتسيطر على الدولة العربية المستقلة زعماً. وتصبح هذه الدولة العربية في مأزق، فهي إذا لم تجار سياسة الدولة اليهودية وتنزل على حكمها في جميع الأمور، ينقلب كل صغير وكبير من المسائل إلى ادعاء تمتنع به الدولة اليهودية عن تأدية المساعدة المقررة، مع أن قبول مثل هذه المساعدة المالية منقص لكرامة الدولة العربية ولا يمكن أن تقبله حكومة شريفة، فإن سلسلة هذا النظام المالي القائم على منح ومساعدات من هنا وهناك لا يدع مجالاً للشك أن الحكومة البريطانية كأنها تعترف بهذا أن الدولة العربية المقترحة لا يكون لها من الموارد المالية الضرورية ما تكفيها حتى ولا تبلغ تلك الموارد الحد الأدنى الذي لا بد منه لتدبير أمر رعيتها ضمن حدودها الضيقة.
15- رفض العرب لمشروع التقسيم:
بعد كل ما تقدم لا يستغرب أن يقابل العرب في فلسطين على اختلاف أحزابهم وطبقاتهم فكرة التقسيم بالرفض البات والسخط العام، وأن يساندهم في موقفهم هذا جميع البلاد العربية والإسلامية، لأن العرب والمسلمين يرون في هذا المشروع أعظم الكوارث تنزل بالكيان العربي والبلاد العربية التي هي لهم وطن عزيز وأماكن مقدسة. وإذا كانت فلسطين منذ 18 سنة وهي في اضطراب وقلق من الغزوة الصهيونية والسياسة الاستعمارية البريطانية المحتضنة لها، فلا يكون غير طبيعي أن يغدو المأزق أشد أزمة وأعنف مضطرباً إذا أحرز اليهود بعد اليوم أضعاف ما أحرزوه حتى الآن من الأراضي والأملاك في ظل الانتداب في الخمس عشرة سنة الماضية.
واللجنة العربية العليا لا تسوغ لنفسها الاعتقاد أن اللجنة الملكية ووزير المستعمرات لا يدركان حقيقة ما ينطوي عليه مشروع التقسيم من مصائب وأخطار، أو ما سيكون له من أثر غير محمود لا يقتصر على عرب فلسطين من مسلمين ومسيحيين بل يتناول البلاد الأخرى بينها وبين فلسطين روابط لا تنقطع. فلذلك لا نتردد في القول إن السلام الذي تنشده اللجنة الملكية وتقول إنه "لا يقدر بثمن" لا سبيل إلى استقراره وتوطيد دعائمه في هذه البلاد بالاستمرار في تطبيق التجارب الفاشلة. ولكن من حق اللجنة العربية العليا أن تعجب وتتساءل عن البواعث الحقيقية لهذا الإصرار على هذه "التجارب السياسية الفريدة" في سبيل تحقيق هوس سياسي لا يستند إلاّ إلى كون اليهود مضطهدين في العالم، الأمر الذي لا شأن للعرب فيه ولا هم ممن يتحملون جريرته بحال.
16- الاقتراحات المسماة "بالمسكنات":
أوصت اللجنة الملكية، في حال عدم تنفيذ مشروع التقسيم، ولكن مع إبقاء الانتداب، بتوصيات أطلقت عليها اسم "المسكنات" الموقتة. واللجنة العربية العليا متفقة واللجنة الملكية في الرأي أن هذه التدابير المسكنة لا تفضي إلى حل ثابت للقضية الفلسطينية، هذا مع الملاحظة أن بعض هذه التدابير المسكنة يتضمن الاعتراف ولو اعترافاً غير تام بأن مطلبين من مطالب العرب الأساسية قائمان على حق واضح وهما الهجرة وبيع الأراضي.
17- الحل الطبيعي لقضية فلسطين:
إن اللجنة العربية العليا تستند في طلبها الاستقلال التام للعرب في فلسطين، إلى الحق الطبيعي الذي هو فوق كل حق، والمبادئ التي أقرها عهد عصبة الأمم، والعهود التي قطعتها الحكومة البريطانية للمرحوم جلالة الملك حسين، وبينما الحكومة البريطانية تقول إن فلسطين مستثناة من أحكام تلك العهود فإن اللجنة الملكية لم تؤيد هذا القول كما أنها لم تحاول تبريره.
ولما طلب شهود العرب من اللجنة الملكية أن تمحص هذه المسألة قالت إن صلاحيتها لا تخولها التدقيق والتوغل إلى هذا الحد في وثائق مضى عليها عشرون سنة ويقتضي تمحصيها عوداً مفصلاً على بدء مطول، غير أن اللجنة الملكية لم تقل مثل هذا لليهود الذين لما استندوا إلى وعود بريطانيا الصادرة لهم بعد سنتين من تاريخ عهود بريطانيا للعرب قبلت منهم ذلك.
فاللجنة العربية العليا ترى بعد هذا البيان أن الحل الوحيد الذي يتفق مع العدل والرغبة الحقيقية في توطيد السلام في هذه البلاد ينبغي أن يقوم على هذه الأسس التالية:
أولاً – الاعتراف بحق العرب في الاستقلال التام في بلادهم.
ثانياً – العدول عن تجربة إنشاء الوطن القومي اليهودي.
ثالثاً – إنها الانتداب البريطاني وتبديله بمعاهدة مماثلة للمعاهد البريطانية العراقية والمعاهدة البريطانية المصرية والمعاهدة الفرنسية السورية، بموجبها تنشأ في فلسطين دولة ذات سيادة.
رابعاً – وقف الهجرة اليهودية وبيع الأراضي لليهود وقفاً تاماً ريثما يتم أمر عقد المعاهدة.
والعرب على استعداد لمفاوضة الحكومة البريطانية مفاوضة تقوم على أسس مقبولة للاتفاق على الشروط التي تحفظ بها المصالح البريطانية المعقولة، والاتفاق على الضمانات الضرورية للمحافظة على جميع الأماكن المقدسة وتأمين حقوق زيارتها وحماية جميع الحقوق المشروعة للسكان اليهود أو غيرهم من الأقليات في فلسطين.
وفي الختام تعرب اللجنة العربية العليا بكل إخلاص عن أملها أن الحكومة البريطانية وعصبة الأمم تعاونان العرب في مطالبهم هذه معاونة تامة لإنهاء عهد القلق والاضطراب في هذه البلاد المقدسة، وللوصول إلى حل طبيعي للقضية قائم على الحق والعدل، فتظفر البلاد التي هي منزل الوحي والقداسة بالعهد الذي ينجيها من الحالة المؤلمة التي لم تبرح تعانيها منذ وضعت الحرب أوزارها.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
عن اللجنة العربية العليا
الرئيس: محمد أمين الحسيني
أمين السر: فؤاد صالح سابا
* إن قضاء الناصرة هو القضاء الخامس الذي أدخلت قراه في المنطقة اليهودية وعزلت قصبته الناصرة لتكون تحت الانتداب البريطاني الدائم وحسب إحصاء سنة 1931 بلغ نفوس هذا القضاء من العرب نحو (25,000) ومن اليهود نحو (3000) ومن حيث الإجمال فإن مجموع القرى العربية في الأقضية الشمالية الخمسة (267) قرية يقابلها 53 مزرعة لليهود حسب إحصاء السنة المذكورة.
المصدر: "مذكرة اللجنة العربية العليا في القدس على تواصي اللجنة الملكية وبيان الحكومة البريطانية المقدمة إلى لجنة الانتدابات الدائمة ووزارة المستعمرات بتاريخ 23 تموز (يوليو) 1937". القدس: مطبعة العرب، 1937.