تداخلت عدة أحداث، بين أواخر نيسان/ أبريل وأوائل أيار/ مايو 2021، لِتولّد دينامية سياسية-إستراتيجية إسرائيلية - فلسطينية جديدة: قرار رئيس السلطة الفلسطينية
محمود عباس
، يوم 29 نيسان، تأجيل انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني
، وإجراءات الشرطة الإسرائيلية ضد المصلّين الفلسطينيين في المسجد الأقصى
خلال شهر رمضان، وإنذارات الطرد الإسرائيلية المتجددة ضد العائلات الفلسطينية المقيمة في حي الشيخ جرّاح
، القريب من
عملية ’سيف القدس’/’حارس الأسوار’:
خلال الأيام الأحد عشر التالية من المواجهة، جرى تثبيت مسار قتال أساسي: ضربات جوية إسرائيلية في مقابل إطلاق صواريخ من جانب "حماس"، تخلّلها عدد قليل من الهجمات البرّية والبحرية. وأطلقت "حماس"، يوم 11 أيار، 711 صاروخاً وقذيفة هاون باتجاه إسرائيل، وهو العدد الأكبر في يوم واحد في تاريخ الصراع. وشنّت إسرائيل ضربات كثيفة، مدمّرةً ’برج هَنادي’ ذا الطوابق الثلاثة عشر في مدينة غزة (بحجة أنه يؤوي مسؤولين كبار من الاستخبارات العسكرية لـ"حماس")، وكذلك المقرّ الرئيسي لشرطة "حماس". ويوم 12 أيار، دمّرت ضربات إسرائيلية برجين في مدينة غزة، هما برجا ’الشروق’ و’الجوهرة’، اللذان يضمان هيئات حكومية وإعلامية فلسطينية (زعمت إسرائيل أن البرجين يؤويان المقرّ المركزي لقوات "حماس" ومكاتب استخباراتها). وردّت "حماس" بإطلاق عشرات الصواريخ نحو إسرائيل، كما أطلقت صاروخاً موجّهاً مضادّاً للدروع أدّى إلى مقتل جندي إسرائيلي، وذُكر أن نظام ’القبّة الحديدية ’ اعترض طائرة مسيّرة لـ"حماس" عبرت نحو الأجواء الإسرائيلية، في حادثة كانت الأولى من نوعها.
وأعلنت إسرائيل، يوم 13 أيار، أنها وجّهت ضربات لأكثر من 600 هدف في مواقعَ متعددة من القطاع. وادّعت كذلك أنها أسقطت طائرةً مسيّرة لـ"حماس" كانت تستهدف منصة الطاقة ’تمار’ في عرض البحر، كما أحبطت سبع هجمات بصواريخ مضادّة للدروع. وقرابة منتصف نهار يوم 14 أيار، زعم الجيش الإسرائيلي في إعلان على موقع "تويتر" أن هجوماً برياً قد بدأ. وكان ذلك جزءاً من خطة مركّبة لإغواء مقاتلي "حماس" للانتقال إلى الملاجئ تحت الأرض استباقاً للهجوم البرّي المفترض، بما يتيح لإسرائيل تصفيتَهم في ضربة جوية كبيرة. وتعاملت "حماس" مع هذه الخطوة بحذر، إذ أرسلت عدداً محدوداً من المقاتلين إلى الأنفاق، بينما قام 12 سرباً جوياً عسكرياً إسرائيلياً من 160 طائرة بتوجيه ضربات لأكثر من 150 هدفاً تحت الأرض في شمالي قطاع غزة، لكن من دون إنجازات تُذكر. وفي هجمات أُخرى، دمّرت إسرائيل أحد فروع ""، الذي ادّعت أنه يتولّى إدارة تمويل عمليات "حماس".
ويوم 15 أيار، دمّرت ضربة جوية إسرائيلية ’برج الجلاء’ في مدينة غزة، الذي كان يؤوي مقرّات عدد من الهيئات الإعلامية، بما فيها وكالة "أسوشييتدبرس" للأنباء وقناة "الجزيرة" التلفزيونية. وأثار الهجوم إدانة دولية واسعة. ولم يؤكّد وزير خارجية الولايات المتحدة ادعاءات إسرائيل أن البناية تُؤوي وحدة الحرب الإلكترونية لـ"حماس". ويوم 16 أيار، تسبّبت ضربة جوية إسرائيلية على شبكة أنفاق مزعومة لـ"حماس" في في مدينة غزة بمقتل 42 مدنياً، وتدمير عدة بنايات.
وبدأ الأسبوع الثاني من القتال يوم 17 أيار. وراج أن مصر كانت تعمل على إنجاز صفقة لوقف إطلاق النار. ولأول مرة منذ بدء القتال، أُطلقت ستة صواريخ على إسرائيل من لبنان لكنها سقطت كلّها داخل الأراضي اللبنانية، واعتبرت مصادر إسرائيلية أنها من فعل فصيل فلسطيني صغير وليس ’حزب الله ’. وبحسب المصادر الإسرائيلية، ألقى سلاح الجو الإسرائيلي ليلاً أكثر من 100 قذيفة دقيقة التوجيه على نحو 16 كيلومتراً من الأنفاق خلال زهاء 20 دقيقة. وفي مواقع أُخرى، أُعلن أن البحرية الإسرائيلية أحبطت عملية بحرية لـ"حماس" في شمال قطاع غزة، وقامت بتدمير غوّاصة لـها.
واستمرّت المعركة بين سلاح الجو الإسرائيلي وصواريخ المقاومة طوال اليومين التاليين. ويوم 18 أيار، أطلقت "حماس" صواريخَ استهدفت ستّ قواعد لسلاح الجو الإسرائيلي في جنوب إسرائيل ووسطها؛ ولم يعلَن عن وقوع أي إصابات أو أضرار مادية. وادّعت إسرائيل أنها دمّرت 9 أميال أُخرى من أنفاق "حماس" خلال الليل، مُلقيةً أكثر من 100 قذيفة موجّهة دقيقة التصويب على زهاء 65 هدفاً في ظرف 30 دقيقة. ويوم 19 أيار، شنّ الجيش الإسرائيلي موجة أُخرى من الهجمات على نظام الأنفاق، مُلقياً 122 قذيفة موجّهة دقيقة التصويب على نحو 40 هدفاً عسكرياً على امتداد نحو 10 كيلومترات من الأنفاق، وكل ذلك خلال 25 دقيقة. وفي هذه الأثناء، أُطلقت أربعة صواريخ إضافية من لبنان باتجاه حيفا ، اعترض نظام "القبّة الحديدية" أحدها، واعتبر المسؤولون الأمنيون الإسرائيليون، مرةً أُخرى، أن فصيلاً فلسطينياً، وليس ’حزب الله’، هو المسؤول عن إطلاقها.
ويوم 20 أيار، آخر أيام المواجهة، أطلقت قوى المقاومة الفلسطينية 420 صاروخاً باتجاه إسرائيل، وهو الرقم اليومي الثاني الأعلى منذ بداية القتال. ووجّهت القوات الإسرائيلية ضربات استهدفت مقرات سكن مسؤولين كبار في "حماس"، وحقّق مقاتلو "حماس" ضربة مباشرة بصاروخ مضاد للدروع على حافلة عسكرية شمال قطاع غزة بعد دقائقَ من مغادرة عشرة جنود إسرائيليين. وانتهى القتال يوم 21 أيار، بعد أن وافقت كلٌّ من "حماس" وإسرائيل على وقف لإطلاق النار توسّطت فيه مصر وقطر وهيئة الأمم المتحدة ، ليدخل حيّز التنفيذ عند الساعة الثانية صباحاً.
تكلفة الحرب
أعلنت وزارة الصحة في غزة، يوم 21 أيار، أن 248 غزياً قُتلوا، بينهم 66 طفلاً و39 امرأة و17 مسنّاً، وأُصيب 1,948 آخرون بجروح مختلفة. وأعلن قائد "حماس" في القطاع يحيى السنوار ، في 27 أيار، أن 57 مقاتلاً من "حماس" و22 من حركة الجهاد الإسلامي وعضواً واحداً من تنظيم ’لجان المقاومة الشعبية ’ قُتلوا خلال المواجهة. ولاحقاً قدّر مسؤولو "حماس" أن تكلفة الحرب بالنسبة إلى اقتصاد غزة وصلت إلى 479 مليون دولار أميركي، فيما قدّر تقرير لـ ، صدرَ مباشرةً بعد الحرب، أن غزة تكبّدت ما قيمته 380 مليون دولار من الأضرار المادية و190 مليون دولار من الخسائر الاقتصادية. ووفق تقديرات هيئة الأمم المتحدة، تعرّض زهاء ألف مبنى، بما فيها أربعة أبراج، للتدمير الكامل، فيما قدّرت "حماس" أن الرقم وصل إلى 1,500 مبنىً مدمّراً بالكامل إلى جانب 56,000 مبنىً آخر أُصيبت بأضرار. وتفترض حاجات عملية الإصلاح الأساسي توفيرَ مساعدات لنحو 45,000 شخص (بمن فيهم 7,000 طفل) وتأمين الإيواء لسكّان أكثر من 4,000 منزل مدمّر أو متضرّر جزئياً. وفي أواسط سنة 2021، قدّر ’صندوق الأمم المتحدة للطفولة’ "اليونيسف " (UNICEF) أن شبكة المياه تضرّرَ نصفها تقريباً وأن نحو 800,000 شخص لم تعد تتوفّر في مساكنهم مياه جارية، بعد أن تعرّضت آبار وخزانات المياه، وتجهيزات تحلية مياه البحر والمياه العادمة، وشبكات توزيع المياه، ومحطّات الضخّ، لأضرار ملموسة. والتزمت مصر، في خطوة هي الأولى من نوعها، بتنفيذ برنامج إعادة إعمار بقيمة 500 مليون دولار في ثلاث مدن سكنية، بما في ذلك بناء نحو 4,000 شقة سكنية، في إشارة إلى دور متزايد لها في تأمين "استقرار" غزة ودعم نفوذها السياسي في القطاع.
وأعلنت إسرائيل مقتل أحد عشر مدنياً أصابتهم صواريخ وقذائف هاون المقاومة مباشرة، كما أُصيب 330 شخصاً بجروح، طفيفة بالنسبة إلى معظمهم، بالإضافة إلى عدّة حالات إصابة بنوباتِ هَلع، وقُتل جندي إسرائيلي واحد. وأدّى إطلاق صواريخ "حماس" إلى تشويش جدّي للحياة اليومية العادية للإسرائيليين الذين يعيشون إلى الشمال من القطاع وصولاً إلى نتانيا ، وإلى جنوبه وصولاً إلى إيلات ، وشهدت مدن إسرائيل "المختلطة" مواجهات غير مسبوقة بين مواطني إسرائيل الفلسطينيين واليهود في الشوارع أثارتها أحداث القدس وقطاع غزة. وزعمت إسرائيل أنها قتلت نحو 50 من كبار الكوادر الفاعلة في "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي، بالإضافة إلى نحو 200 من مقاتليهما. وادّعت أيضاً أنها دمّرت أكثر من 1,500 هدف، ونحو 100 كيلومتر من نظام أنفاق "حماس" ("المترو") في مدن غزة ورفح وخان يونس . وشملت الهجمات الإٍسرائيلية مرافق تصنيع الأسلحة وتخزينها، ومراكز الأبحاث والتطوير الخاصة بها، وعشرات المكاتب الرسمية، و11 بناية و5 مصارف.
تحليل
حماس
تميّزت مواجهة أيار 2021 بكونها جرت بمبادرة من "حماس" سعياً لتحقيق هدف سياسي واضح، وهي المواجهة الأولى من هذا النوع منذ سيطرة "حماس" على قطاع غزة سنة 2007. وسعت "حماس" للاستفادة من قرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلغاء انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو القرار الذي كان غير مقبول شعبياً إلى حد كبير، كما سعت لاستثمار المواجهة المتصاعدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ وأرادت "حماس" أن تتموضع باعتبارها المدافع الأول عن الحقوق الفلسطينية، مقارنةً بالسلطة الفلسطينية وذراعها "المركزي" حركة "فتح "، اللتين اعتبرتهما مُتواطئَتين بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل. ولم تكن "سيف القدس" تحدّياً لإسرائيل فقط، إنما كانت محاولةً من جانب "حماس" للتحوّل إلى العنوان السياسي الفلسطيني الأول، مسلّحةً بمشروعية سياسية واسعة ناجمة عن استعدادها لمواجهة إسرائيل، على غرار ما سبق وفعلته "فتح" في الماضي لتحقيق مكانتها السياسية.
ويبدو أن "حماس" قدّرت: (أ) أن إسرائيل ستمتنع عن القيام بهجوم برّي واسع النطاق، و(ب) أنها – أي "حماس"- ستتمكّن من امتصاص ضربات إسرائيل والردّ عليها، و(ج) أنها ستجد نفسها في وضع أفضل في نهاية المواجهة في مجال تحقيق مطالبها المباشرة المتعلّقة بإنهاء الحصار على غزة، وكذلك في تحقيق أهدافها السياسية - الإستراتيجية الأوسع على حساب السلطة الفلسطينية/"فتح". وعلى الصعيد العملياتي، وعلى الرغم من حملة إسرائيل الجوية المكثّفة، بدا أن فرضيتي "حماس، الأولى والثانية، ثبتت صحّتهما إلى حدّ كبير في مجرى الأحداث. وكما في المواجهات السابقة مع إسرائيل، أثبتت "حماس" وفصائل المقاومة الأُخرى قدرتَها على المحافظة على وتيرة منتظمة من إطلاق الصواريخ على امتداد الأيام الأحد عشر للقتال؛ إذ وصل معدّل الصواريخ اليومي إلى ما بين 300 إلى 450 صاروخاً على الرغم من القصف المقابل من جانب القوات الإسرائيلية - والذي زادت وتيرته بنسبة 50 إلى 100 بالمئة مقارنة بحرب سنة 2014. وبالإضافة إلى ذلك، جرى إطلاق نحو ضعف ما أُطلق من الصواريخ على المدن الأبعد مثل تل أبيب والقدس (صاروخ واحد من كل ستة صواريخ تقريباً)، مما أشار إلى أن "حماس" قد رفعت من نسبة الصواريخ الأبعد مدىً لديها، بحيث وصل واحد منها على الأقلّ إلى مدينة إيلات الواقعة على البحر الأحمر (على بعد نحو 200 كيلومتر من قطاع غزة) وذلك باستخدام صاروخ ’عياش-250’ الجديد الذي يصل مداه إلى 250 كيلومتراً. وأكّدت التقارير الغربية أن "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي لم تستهدفا حصراً مراكز الكثافة السكّانية المدنية؛ إذ أطلقتا صواريخ على ستّ على الأقلّ من القواعد العسكرية الجوية الإسرائيلية، وعلى منصّات إسرائيل النفطية الواقعة في عرض البحر. وتسبّب إطلاق الصواريخ في إشعال النار في محطة توليد كهرباء، وفي مستودع وقود في عسقلان ، وفي أنبوب النفط الممتد بين أشدود وإيلات، كما أدّى إلى عرقلة حركة الطيران في عدة مطارات إسرائيلية. وواجهت "حماس" نظام ’القبّة الحديدية’ بإطلاق زخّات مُنسّقة وصلت إلى نحو 50 صاروخاً بهدف إرباك منصاته بأهداف تتجاوز طاقتَه على الاعتراض المتزامن لها. وجرى تصميم أنظمة إطلاق 6، و9، و12 صاروخاً في آنٍ واحد لتحقيق هذا الإرباك. كما أُطلقت صواريخ على ارتفاعات منخفضة بهدف التقليل من احتمال اعتراضها.
وتمثّل تطوّر بارز في نشر "حماس" عدّة أنظمة قتالية موجّهة عن بُعد، أحدها، المسيّرة الهجومية ’شهاب’، التي يبدو أنها نسخة مُصنّعة في غزة من المسيّرة الإيرانية ’هيسا أبابيل-2’، مع أن المصادر الإٍسرائيلية ادّعت أنه لم يكن لها تأثير يُذكر. وربما جرى اعتراض بعض صواريخ "حماس" بواسطة صواريخ ’تامير’ (القبّة الحديدية) التي قيل أنها نُصبت على طرّادات ’ساعر فئة 5/6’ التابعة للبحرية الإٍسرائيلية. ويبدو كذلك أن تأثير استخدام "حماس" للصواريخ المضادة للدروع كان محدوداً، علماً بأن نطاق المواجهات البرّية كان بحدّ ذاته محدوداً. ونشرت "حماس" تجهيزات بحرية جديدة (غواصات صغيرة موجّهة عن بُعد)، كما أظهرت قدرات حربية متقدّمة في الاستخبارات الإلكترونية والسايبرية.
وذكر مسؤولون إسرائيليون كبار، بعد أن أُعلن وقف إطلاق النار، أن "حماس" بقي لديها نحو 8,000 صاروخ، مما أوحى بأن الضربات الإسرائيلية أحدثت استنزافاً محدوداً. وفي العديد من الحالات، كانت الصواريخ تُطلق من مواقعَ غير مكشوفة، بما فيها الأنفاق والمرائب (كراجات)، وهو ما يعني أنه لم يتمّ، في معظم الحالات، رصدها قبل الإطلاق. وفي أواخر سنة 2021، ذكرت مصادر إٍسرائيلية أن "حماس" تُطوّر أساليبَ عملياتية جديدة على ضوء الدروس التي استخلصتها من عملية ’حارس الأسوار’. وقيل إن عناصر "حماس" يقومون بإحياء أشكال سابقة من الهجمات من خلال التدرّب على التسلّل إلى المواقع الإٍسرائيلية وإيجاد الوسائل للتغلّب على جدار إسرائيل الفولاذي الذي يُحيط بقطاع غزة على امتداد 75 كيلومتراً. وقيل إن "حماس" تستثمر في مجالاتٍ مثل الحرب السايبرية، والمركبات الجوية الموجّهة عن بُعد والطائرات المسيّرة الهجومية، وأسلحة بحرية ومضادّة للدروع متنوعة.
لكن نجاح "حماس" في المحافظة على عناصرها البشرية وأرصدتها العسكرية لم يُترجم إلى مكسب إستراتيجي واضح أو إلى تغيير في وضعية الحركة السياسية. إذ إن الارتفاع الآني في شعبية "حماس" ومكانتها لدى الفلسطينيين لم يستمر إلى المرحلة اللاحقة التي شهدت، على العكس، جموداً في التفاوض بشأن شروط إعادة البناء في غزة وتبادل الأسرى مع إسرائيل وتحقيق انفراج ملموس في مسألة رفع الحصار، بغضّ النظر عن استعداد إٍسرائيل اللاحق للسماح بدخول المزيد من عمال غزة للعمل في إسرائيل. وفي المحصلة، فإن النقاط التي أحرزتها "حماس" ضد السلطة الفلسطينية/"فتح" لم تُترجم إلى تغيير ملموس في وضعيتها كعنوان سياسي فلسطيني ذي مصداقية أو كقطب بديل، على الرغم من حدوث تحسُّن في العلاقات مع مصر وتجدّد الجهد الدولي لإحداث استقرار في الوضع الاقتصادي للقطاع. باختصار، بقيت الصورة الإجمالية على جبهة غزة - إسرائيل إلى حد كبير كما كانت منذ حرب 2008/2009، أي جمود من دون تبدّل يُذكر في قدرة "حماس" على إحداث تغيير في الوضع القائم.
إسرائيل
فُوجئت إسرائيل إلى حد كبير بضربة "حماس" الأولى، وبدا أنها أساءت تقدير استعداد قيادة "حماس" للتحرّك دفاعاً عن القدس وسعياً لتحقيق أهداف سياسية – إستراتيجية أوسع. لكن، من حيث الشكل، كانت مقاربة إسرائيل أقرب إلى تلك التي اعتمدتها في ’عملية عمود السحاب ’ (2012) منها إلى تلك التي اعتُمدت في ’عملية الرصاص المسبوك ’ (2008/2009) أو ’عملية الجرف الصامد ’ (2014)، بحكم أنها كانت بالدرجة الأولى منازلةً بين القوة الجوية الإسرائيلية وصواريخ المقاومة، مع قدر محدود من العمليات البرّية أو البحرية. وبدا أن إسرائيل بذلت جهداً خاصاً لاستهداف كبار الكوادر والخبراء الفنيين لـ"حماس" وحركة الجهاد الإسلامي في إطار حملة لــ ’قطع الرأس’، كما بذلت جهداً واسعاً لتدمير ’المترو’. لكن، على الرغم من ادعاءات إسرائيل، يبدو أن حملة تدمير الأنفاق لم تكن بمستوى توقّعاتها. وبحسب ما قاله قائد "حماس" في قطاع غزة يحيى السنوار، فإن الأنفاق ممتدّة على 500 كيلومتر، وبقي 95 بالمئة منها سليماً بعد الحرب. وجذبت حرب غزة، مرةً أُخرى، الانتباه إلى العلاقة بين الإعلام (ووسائل التواصل الاجتماعي) والبُعد القانوني للحرب الحديثة. فإثر الحرب، أطلقت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في احتمال ارتكاب كلّ من "حماس" وإٍسرائيل جرائمَ حرب، بما في ذلك احتمال استخدام إسرائيل قوة غير متكافئة وإطلاق "حماس" صواريخَ عشوائية. ومهما يكن، فإن وجهاً معبّراً عن مواجهة غزة شكّله عدم التلاؤم الإستراتيجي بين أهداف إسرائيل العسكرية والعملياتية المحضة لإضعاف قدرات "حماس" العسكرية، وأهداف "حماس" المرتكزة على الإعلام لنزع الشرعية عن حملة إسرائيل لدى الرأي العام العالمي، وبالنتيجة لإضعاف ركائز التفوّق العملياتي للجيش الإسرائيلي. وقد أدت زلّة إسرائيل الكبيرة في هجومها على مقرّات الصحافة الدولية في ’برج الجلاء’، واستخدامها لموقع ’تويتر’ كأداة للخداع، دوراً مهمّاً في تقويض صدقيتها الدولية وحملتها الإعلامية. وتبقى إسرائيل بشكل دائم في وضعية ليست لمصلحتها على الصعيد الأخلاقي/البسيكولوجي (النفسي)، لأنه إذا ما كانت "حماس" منظمةً "إرهابية"، كما تدّعي إسرائيل، فليس متوقعاً منها سوى القيام بأعمال "إرهابية"، ولا يمكن توقّع أن تتصرّف مثل الدول "المتحضّرة" (التي تدّعي إسرائيل أنها واحدة منها). وهكذا فإن التذمّر من "إرهاب" "حماس" لا يجد صدىً جدياً، وخصوصاً في ضوء عدم التناسب في القوى وفي التكلفة البشرية والمادية النسبية. وفي مفارقةٍ أُخرى ملتوية، فإنه بقدر ما تكون دفاعات إسرائيل أكثر فعالية، تضعف إمكانية ادعائها صفة الضحية أمام الرأي العام العالمي.
وكجزءٍ مما يبدو أنه عملية اختبار دورية في مجال استخدام القوة، يظهر أن إسرائيل أعادت إحياء ثقتها بدور سلاح الجو خلال مواجهات أيار 2021. ويعود سبب أساسي لذلك كون إسرائيل طوّرت وسائل الاستكشاف والرقابة الاستخبارية الإلكترونية وتقنيات الاستهداف، كما تزايدت ثقتها في قدرة ’القبة الحديدية’ والأنظمة المرتبطة بها على التقليل من التأثيرات الأكثر سلبية لضربات قذائف الهاون وصواريخ المقاومة الفلسطينية، بما يُبطل حاجتها إلى هجوم بري على نطاق واسع. وفي هذا الصدد، كشفت عملية ’حارس الأسوار’، في الواقع، بعض التطويرات العسكرية الملموسة في الجانب الإسرائيلي. فقد أشارت المصادر الإسرائيلية إلى أن الجيش لجأ أول مرة إلى وسائل الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، لتحديد مواقع أهداف المقاومة ومهاجمتها، مستخدماً مسيّرات موجّهةً ذاتياً وعربات قتالية أُخرى، بما يُنذر بعصر جديد من الحرب الروبوتية. كما تمّ نشر وسائل الدفاع الليزرية ضد الصواريخ للمرة الأولى، في تخفيض كبير محتمل لتكلفة ومهلة الردّ على نيران المقاومة، وبما يتيح احتمال التمكّن من إبطال نيران الهاون، والصواريخ، وهو ما كان أمراً صعباً حتى ذلك الحين. وربما يتّضح أن احتمال تملك نظام دفاع مرتكز على أشعة الليزر وأكثر فعالية بكثير في تخفيض التكلفة سيكون أحد أهم التحدّيات التكنولوجية التي ستواجهها قوى المقاومة الفلسطينية في المستقبل القريب.
كما أتاحت تكنولوجيات القتال الإسرائيلية الجديدة تطوير قوات خاصة متقدمة جداً ("وحدات الشبح") المسلّحة بأحدث تجهيزات التحرّي والقيادة والسيطرة (مع أنه لم يتّضح بعد ما إذا كانت هذه القوات قد اختُبرت فعلياً في المعركة في أيار 2021). والأهم من ذلك كان تطوير رؤية قتالية جوية-برية-بحرية متكاملة تكون بموجبها المعلومات الحيوية لساحة المعركة متاحة بصورة آنية لكل الوحدات، بحيث يكون بإمكانها أن تتفاعل بسرعة غير مسبوقة وبالأسلوب القاتل الملائم مع التطورات الجارية لحظةً بلحظة على أرض المعركة.
وقد يزيد نظام مُدمج بالكامل وعلى أساس "الأرض المكشوفة"، معزّزاً بالتدريع، والذكاء الاصطناعي، وقدرات في مجال المسيّرات والروبوتات وأسلحة المواجهة عن بُعد، من إغراء إسرائيل باللجوء إلى حرب برّية شاملة في المستقبل. وفيما تسعى إسرائيل للحصول على صورة كاملة عما يجري "فوق السطح" (جواً، وبراً، وبحراً)، من المرجّح أن تنقّب المقاومة بشكل أكبر "تحت الأرض" (وتحت البحر) وأن تندمج أكثر وأكثر في التجمعات السكانية. وفي ظل غياب فرص المناورة من "فوق"، من المحتمل أن يكون ما تحت الأرض هو الفضاء الوحيد الحرّ نسبياً الذي يبقى لها للتهيُّؤ للهجوم المضاد. ومن المحتمل كذلك أن تذهب المقاومة نحو تركيز أكبر على نقاط ضعف إسرائيل واستهداف مواقعَ اقتصادية ومدنية حسّاسة، ونحو السعي لتطوير أسلحة دقيقة بهدف الاقتصاد في استخدام طاقاتها وترشيد إستراتيجياتها الاستهدافية، بما في ذلك بذل جهود أكبر لضرب أهداف عسكرية، والتوجّه نحو تطوير أكبر لقدراتها في مجال "التعطيل النوعي" كعلاج مضاد لقدرة إسرائيل على "التدمير الكمّي"، كما هو واضح من الجولات المتعددة منذ 2008/2009.
وفي حين تلجأ المقاومة بشكلٍ متزايد لما تحت الأرض (لكن من دون التخلّي الكامل بالضرورة عن "السطح")، من المحتمل أن يسعى الإسرائيليون للقصف بعمق أكبر في غزة ولتطوير وسائلَ جديدة في الحرب ما تحت الأرضية. وفي هذه الأثناء، فإن سعي إسرائيل لرؤية استخباراتية/ استكشافية متكاملة للمعركة، بحيث يكون كلُّ موقع لـ "حماس" معروفاً وكل حركة معادية قابلة للتوقّع وللردع، قد يدفعها إلى التفكير، مرةً أُخرى، في إمكانية شنّ حرب سريعة تكون كلفتها محدودة نسبياً. وقد تكون هي المرحلة التالية من المعركة الطويلة على غزة.
أحد الآثار الجانبية البارزة لحرب غزة في أيار 2021 تمثّل في تبلور تلمّس إسرائيلي لتهديد جديد نجم عن هبّة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1967 للاحتجاج على أفعال إسرائيل في غزة. فقد أثارت التظاهرات والصدامات العنيفة في البلدات والمدن العربية/اليهودية "المختلطة" اعتقاداً إسرائيلياً بأن تهديداً داخلياً محتملاً قد يكون له عواقب ليست أقل خطراً من تأثير التهديدات الخارجية، ويمكن أن يعيق حركة وانتشار القوات الإسرائيلية الساعية لمواجهة تهديد خارجي من نمط حرب على الجبهتين الشمالية والجنوبية. وهذا ما يضيف بُعداً جديداً، لم يكن مأخوذاً بشكل كاف بالاعتبار حتى الآن في النقاشات الأمنية الإسرائيلية، لا يتعلّق فقط بالتهديد الذي يشكّله السكان العرب الفلسطينيون، وإنما بالحاجة إلى عقيدة أمنية أكثر شمولية تستوعب كافة جوانب سيطرة الدولة على السكّان وأساليب تطبيقها الفعلي.