كانت الفترة بين حرب 1973 والاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982، مفصلية في التاريخ الفلسطيني، فقد أوحت حرب 1973 التي بدأت بشكل باهر، إضافة إلى حظر النفط في السنتين 1973 و1974، بشعور من الثقة والوحدة العربيتين، في الوقت الذي تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من تحقيق اعتراف إقليمي ودولي متزايد بصفتها ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، ما منح الفلسطينيين صوتاً على الساحة الدبلوماسية العالمية كانوا حُرِموا منه طويلاً.
إلا أن العديد من تلك المكاسب أثبت بداية الثمانينيات أنّه قصير الأمد أو وهمي، حيث ظهرت الانشقاقات داخل منظمة التحرير الفلسطينية في ظل عالم عربي متصدّع بدوره، مع حرب أهلية محتدمة في لبنان، وتوقيع مصر معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل، وترسيخ الاستعمار في الضفة الغربية وغزة مع صعود اليمين إلى سدة الحكم في إسرائيل، وبروز حركات الإسلام السياسي، ما أدى إلى تداعيات على المدى الطويل امتدت إلى ما بعد سنة 1981 بكثير.
في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، أطلقت القوات المصرية والسورية هجوماً مشتركاً مفاجئاً ضد المواقع الإسرائيلية. وعلى الرغم من تعطيل الولايات المتحدة استكمال الانتصار عبر إقامة جسر جوي لإعادة مدّ إسرائيل بالأسلحة، إلا أن العرب شعروا بأن الحرب أعادت إليهم الاعتبار -ولو جزئيّاً- بعد الإذلال الذي أصابهم في سنة 1967، فبادرت الدول العربية المنتجة للنفط إلى إعلان حظر نفطي ضد البلدان التي تؤيد إسرائيل، ما أثر فيها اقتصاديّاً وسياسيّاً بشكل كبير، وأحرزت منظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب الحرب مكاسب دبلوماسية هامة، حيث حازت موافقة رؤساء قمة الجزائر العربية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1973 على الاعتراف بها ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني، إضافة إلى إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1974، حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة في فلسطين، واعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني ومنحها صفة مراقب لدى الأمم المتحدة، الأمر الذي وفر منبراً عظيماً لرئيسها ياسر عرفات.
إلا أن منظمة التحرير دفعت ثمن انفتاح المجتمع الدولي المتزايد عليها، فقد أعلنت "جبهة الرفض"، وهي ائتلاف تشكّل في تشرين الأول/اكتوبر 1974 من تنظيمات منضوية في منظمة التحرير يشمل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وفصائل أصغر حجماً ترعى أكثرَها سوريا والعراق، رفْضَها "برنامج النقاط العشر" الذي أصدره المجلس الوطني الفلسطيني وأقرّه في حزيران/ يونيو 1974، وتضمّن القبول بتحقيق السيادة الفلسطينية على أي جزء من فلسطين يتم تحريره، الأمر الذي اعتبرته الجبهة قبولاً ضمنياً بهيمنة إسرائيل على بقية الأجزاء.
وإلى اهتزاز استقرارها بسبب الانقسامات الداخلية، تورطت منظمة التحرير في الحرب الأهلية الطويلة والقاسية في لبنان ابتداء من نيسان/ أبريل 1975، بعد أن شيّدت قبيل الحرب بنية عسكرية ومدنية صلبة، وكانت تملك حق تسيير شؤون المخيمات الفلسطينية وسكانها، معتمدة على اتفاق القاهرة التي وقعته مع الحكومة اللبنانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1969. ومع اندلاع الحرب الأهلية، أصبحت المنظمة شريكاً أساسيّاً في صراع مباشر مع جزء من الشعب اللبناني أولاً ومع القوات السورية لاحقاً. وفي آذار/ مارس 1978، اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان في عملية سمّتها "عملية الليطاني"، وبسطت سلطتها على شريط حدودي جنوب نهر الليطاني بالاشتراك مع قوات عميلة أطلقت على نفسها تسمية "جيش لبنان الجنوبي".
تفاقمت الصراعات الداخلية في العالم العربي مع زيارة الرئيس المصري أنور السادات القدس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، بعد ستة أشهر من فوز حزب الليكود تحت قيادة مناحيم بيغن في الانتخابات. وأسفرت المفاوضات المصرية- الإسرائيلية المنفصلة، تحت إشراف الرئيس الأميركي جيمي كارتر، عن اتفاقيتي كامب ديفيد في أيلول/ سبتمبر 1978 (كانت إحداهما "اتفاقية إطار" بشأن حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة) وعن معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في آذار/ مارس 1979.
وفي ما يتعلق بالفلسطينيين في المفاوضات، رفض الأردن الانضمام إلى محادثات الحكم الذاتي، فوافقت مصر وإسرائيل على البدء بالتفاوض الثنائي في هذا الشأن، وعقدتا أكثر من 12 جولة تفاوضية بين أيار/ مايو 1979 وتشرين الثاني/ نوفمبر 1981، ولكن من دون أي تقدم حقيقي، عدا إبداء كل طرف وجهة نظره في موضوعات مثل: الانتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة، مشاركة فلسطينيي القدس الشرقية في الانتخابات، صلاحيات سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني (إدارية فقط أم تشريعية أيضاً)، ولايتها الإقليمية... وغيرها، غير أن إسرائيل لم تعد تشعر إثر توقيعها مع مصر -أكبر بلد عربي- معاهدة سلام منفصلة وبالتالي تحييدها عن الصراع ، بأيِّ حوافز لتقديم تنازلات في الموضوع الفلسطيني، بل على العكس تماماً، فبدل التنازل سرّعت إسرائيل وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية وغزة مع استمرارها في المفاوضات العبثية مع مصر: ففي نيسان/ أبريل 1979 بدأ الاستيطان اليهودي في البلدة القديمة في الخليل، وفي تموز/ يوليو 1980 رسّخت إسرائيل ضم القدس الشرقية بسنّها قانوناً أعلن القدس "كاملة وموحدة" وعاصمة لإسرائيل، ورفعت وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية وغزة حتى بات عدد مستوطنيهما اليهود في سنة 1981 أكثر من 100,000، مستفيدين من دعم الدولة المؤسساتي ومجموعات أهلية، مثل غوش إيمونيم (كتلة المؤمنين)، وهي منظمة دينية- قومية تأسست سنة 1974 ونادت بتوطين اليهود في جميع أنحاء الأراضي المحتلة. ومن أجل تثبيت سيطرتها على المناطق المحتلة، أنشأت إسرائيل في الضفة وغزة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1981 "إدارة مدنية" كانت بمثابة فرض المفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي من طرف واحد، فيما تبنى الكنيست في كانون الأول/ ديسمبر 1981 تطبيق القانون الإسرائيلي على هضبة الجولان.
أما فلسطينيو إسرائيل، أو ما باتوا يعرفون بـ"عرب 48"، فقد ازدادت فاعليتهم السياسية بشكل ملحوظ خلال السبعينيات، وذلك بعد رفع الحكم العسكري عنهم في سنة 1966 وتجدد اتصالاتهم مع إخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة غداة حرب سنة 1967، ففرضوا صوتهم السياسي مجدداً، وقاوموا محاولات التلاعب بمصيرهم من خلال فرض قيادات عليهم تختارها إسرائيل بالنيابة عنهم، فأنشأوا هيئات خاصة بهم، مثل "لجنة الدفاع عن الأراضي العربية" (في سنة 1975)، وانتخبوا قادة سياسيين بليغين وناشطين (أمثال توفيق زيّاد رئيساً لبلدية الناصرة في سنة 1975)، ووصل نشاطهم السياسي السلمي ذروته خلال "يوم الأرض" في 30 آذار/ مارس 1976، عقب إعلان إسرائيل عن خطة لتوسيع المستوطنات اليهودية في الجليل تتطلب مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي، الذي شهد إضرابات عامة وتظاهرات صاخبة ضمت الآلاف، ليس فقط في المدن والقرى العربية في إسرائيل، بل أيضاً في الضفة الغربية وقطاع غزة والمخيمات الفلسطينية في لبنان، فقمعت قوات الأمن الإسرائيلية الاحتجاجات بعنف شديد، وقتلت ستة متظاهرين عزّل، وأصابت ما يقرب من المائة واعتقلت مئات آخرين.
في ذلك الوقت، وفي الفترة بين 1973 و1981، كان العالم العربي –ومن ضمنه فلسطين- يشهد صعود موجات الإسلام السياسي، حيث أدى فشل القومية العربية والسياسة العلمانية في تحقيق أهداف الأمة العربية (وخصوصاً ما يتعلق بتحرير فلسطين)، إلى خيبة أمل واسعة النطاق لدى الشعوب، زاد منها قمع الحركات الإسلامية في مصر وسوريا على الأخص. وأتى انتصار الثورة الإسلامية في إيران في شباط/فبراير 1979، ليُلهِم الذين آمنوا بإمكان تطبيق سياسة ثورية مستنبطة من الدين الإسلامي. ولم يكن بإمكان فلسطين أن تبقى بمنأى من هذا التوجه، فأصبح عبد الله نمر درويش، مؤسس "الحركة الإسلامية" في سنة 1971 التي انحصرت نشاطاتها بدايةً بتوفير خدمات الرعاية للسكان الفلسطينيين داخل إسرائيل، ناشطاً في "أسرة الجهاد" السرية، التي استوحت مبادئها من الإسلام السياسي النشط لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا ومن الثورة الإسلامية في إيران، وفي غزة كان أحمد ياسين (أحد مؤسسي حركة حماس في ما بعد) ناشطاً في "المجمّع الإسلامي"، وهو جمعية خيرية كانت تمول المؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني، وقام فتحي الشقاقي وعبد العزيز عودة، المتأثران بناشطي الإسلام السياسي المصريين وبالثورة الإيرانية، بتأسيس نواة ما صار يُعرف بـ "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" في مطلع الثمانينيات.
ولم تبرز ملامح هذه التطورات "الإسلامية" وأهميتها بشكل واضح سوى في العقود اللاحقة، ومع ذلك، وحتى بداية الثمانينيات، كان واضحاً أن التفاؤل الذي أثارته حرب سنة 1973 لم يحمل سوى ثمار جزئية، فمع أن منظمة التحرير حققت اعترافاً دولياً غير مسبوق للشعب الفلسطيني، إلا أنها كانت تعاني من الانشقاقات الداخلية والغرق في أتون الحرب الأهلية اللبنانية الدموي، وعلى رغم تصاعد مقاومة الفلسطينيين للتهميش والاضطهاد في إسرائيل، كان استعمار الضفة الغربية وقطاع غزة في ازدياد، وفي الوقت نفسه كان عدم الاستقرار في المنطقة الناتج أساساً عن عدم حل القضية الفلسطينية، يتفاقم ويستمر على هذا المنحى إلى عقود لاحقة.