بإذن من رئيس الحكومة إيهود باراك ووزير الأمن الداخلي شلومو بن عامي ، وعلى الرغم من التحذيرات الفلسطينية، يقوم رئيس حزب الليكود أريئيل شارون بزيارة الحرم الشريف ، تواكبه قوة كبيرة من الشرطة، بهدف تأكيد السيادة الإسرائيلية عليه. تشعل الزيارة الاحتجاجات داخل الحرم وفي محيطه؛ فيصاب 24 فلسطينياً من بينهم ثلاثة نواب فلسطينيين في الكنيست وفيصل الحسيني ، جراء استخدام الشرطة الإسرائيلية الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع. وتمتد الاحتجاجات العنيفة لتشمل جميع أنحاء القدس الشرقية ورام الله .
هبّة أكتوبر، التي تُدعى أحياناً هبّة الأقصى، هي سلسلة الأعمال الاحتجاجية الجماهيرية التي قام بها الفلسطينيون في إسرائيل، على امتداد الأيام الأولى من تشرين الأول/ أكتوبر 2000، ضد ممارسات القتل والقمع الإسرائيلية في القدس وباقي المناطق المحتلة في إثر دخول أريئيل شارون، زعيم حزب الليكود في الكنيست آنذاك، محيط المسجد الأقصى. أسفرت هذه الاحتجاجات عن سقوط 13 مواطناً قتلتهم قوات الأمن الإسرائيلية بالرصاص الحي والمطاطي، كما جرحت واعتقلت المئات، على امتداد جميع المناطق الجغرافية التي يسكنها مواطنون عرب في إسرائيل، من النقب جنوباً حتى أقصى الشمال، مروراً بجميع المدن المختلطة.
أسباب اندلاع هبّة أكتوبر وسير أحداثها
كان السبب المباشر لاندلاع أعمال الاحتجاج تلك الخطوة الاستفزازيّة التي تمثّلت في دخول أريئيل شارون مع عدد من أعضاء كنيست إلى محيط المسجد الأقصى وقبّة الصخرة في القدس، صباح 28 أيلول/ سبتمبر 2000، تحت حراسة رجال الشرطة الإسرائيليين. كان المكان يعجّ بالفلسطينيين الذين جاءوا ليدافعوا عن المسجد، ومنهم قيادات فلسطينية من القدس ومن داخل إسرائيل مثل فيصل الحسينيّ، ورائد صلاح، وأعضاء الكنيست محمد بركة، وعزمي بشارة، وعبد المالك دهامشة، وأحمد طيبي، وطلب الصانع، ومحمد حسن كنعان. في أعقاب زيارة شارون، اندلعت في المكان مواجهات مع الشرطة، رافقها رشق بالحجارة من جانب الفلسطينيين ردّت عليه قوات الأمن الإسرائيلية باستعمال مكثّف للرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع، الأمر الذي أسفر عن جرح عشرات الفلسطينيين وبعض رجال الشرطة.
انتشرت سريعاً أخبار وصور دخول شارون إلى الأقصى وما نتج عنه من مواجهات، وأثارت غضباً جرى التعبير عنه بمظاهرات ومسيرات عديدة انطلقت في الكثير من المناطق الفلسطينيّة. في اليوم التالي، وبعد انتهاء صلاة الجمعة، تجدّدت المواجهات بين المصلين في المسجد الأقصى وبين قوات الأمن الإسرائيلية التي استعدّت مسبقاً بكل أدوات قمع المظاهرات، بما في ذلك قيام قنّاصة الشرطة بإطلاق النار على المصلين. وقد أسفر ذلك عن قتل 7 منهم وجرح واعتقال المئات. في اليوم التالي، 30 أيلول/ سبتمبر، امتدت المظاهرات المرفقة برفع الأعلام الفلسطينية والرايات السود إلى القرى والمدن العربية في إسرائيل كالناصرة، وكفركنا، وسخنين، وشفاعمرو، وأم الفحم، وباقة الغربيّة، وكفر قرع، وطمرة، وحيفا. وكان من بين المشاهد التي تركت أثراً هائلاً في مستوى المشاركة في الاحتجاجات، مشهد قتل الطفل محمد الدُرَّة برصاص الجيش الإسرائيلي، قرب مستوطنة نتساريم جنوبي غزّة، مساء يوم 30 أيلول/ سبتمبر.
في ضوء تواصل الاحتجاجات ضد "المجزرة المخطّطة"، التأمت لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية في إسرائيل في قرية كفرمندا، في 30 أيلول/ سبتمبر بمشاركة قيادات سياسية ورؤساء مجالس محليّة وبلديات، وقررت إعلان اليوم التالي يوم إضراب عام يشمل جميع مرافق الحياة العربيّة في إسرائيل.
في الأيام التالية، 1- 3 تشرين الأول، عمّت المظاهرات معظم القرى والمدن العربية في إسرائيل، فجوبهت برد عنيف من قبل أفراد الشرطة الذين استخدموا الغاز المسيل للدموع والرصاص المعدني المغلف بالمطاط والذخيرة الحيّة، فيما فتح القنّاصة النار على المتظاهرين. وتجدر الإشارة الى أن ضراوة القمع الإسرائيلي جاءت تنفيذاً لأوامر رئيس الحكومة إيهود باراك الذي أوعز لقيادة الشرطة، خلال اجتماع خاص شارك فيه وزير الأمن الداخلي شلومو بن عامي، في ليلة 1 تشرين الأول، بألا تتردد في "استعمال كل الوسائل" في التعامل مع المتظاهرين العرب، وفتح محاور الطرق التي من الممكن أن يغلقونها. وقد عُلم في وقت لاحق أن الشرطة كانت قد تدربت على خطط بشأن كيفية التعامل مع مظاهرات واسعة في المجتمع العربي شملت بشكل واضح استعمال وسائل قمع شديدة، بما في ذلك الاستعانة بالقناصة. وكانت أبرز هذه التدريبات خطة "سحر الأنغام" ولعبة الحرب المسماة "رياح العاصفة" التي أجريت في مركز تدريب الشرطة في شفاعمرو، في 6 أيلول/ سبتمبر، أي قبل شهر واحد من هبّة أكتوبر.
قتلت الشرطة خلال الأيام الثلاثة الأولى من تشرين الأول 11 شاباً أعزلاً. ولم تقتصر أعمال القمع على قوات الأمن، بل تعدّتها لتشمل مواطنين يهود مسلحين. فمثلاً، في 8 تشرين الأول، يوم الغفران بحسب الديانة اليهودية، شنّ المئات من السكان اليهود في مدينة نتسيرت عيليت (المقامة على أراضٍ صودرت من الناصرة، وقد تم تغيير اسمها في حزيران/ يونيو 2019 إلى نوف هجليل) هجوماً على سكان الحي الشرقي في الناصرة. وبدل أن تقف الشرطة في وجوه المعتدين وتصدّهم، وجهت أسلحتها باتجاه سكان الناصرة العرب الذين خرجوا للدفاع عن الحي وأهله، فقتلت إثنين منهم وأصابت العشرات.
المواطنون الذين قتلتهم قوات الأمن الإسرائيلية
خلال هبّة أكتوبر
الاسم | السن | المكان | طبيعة الإصابة | التاريخ |
محمد أحمد جبارين | 23 سنة | أم الفحم | عيار معدني مغلف بالمطاط في عينه | 1/10 |
أحمد ابراهيم صيام | 18 سنة | معاوية | عيار حي في أسفل الظهر | 1/10 |
رامي حاتم غرّة | 23 سنة | جت المثلث | عيار معدني مغلف بالمطاط في عينه | 1/10 |
إياد صبحي لوابنه | 26 سنة | الناصرة | عيار في صدره | 1/10 |
علاء خالد نصّار | 18 سنة | عرابة | عيار في صدره | 2/10 |
أسيل حسن عاصله | 17 سنة | عرابة | عيار في عنقه من الخلف | 2/10 |
عماد فرج غنايم | 25 سنة | سخنين | عيار حي في رأسه | 2/10 |
وليد عبد المنعم أبو صالح | 21 سنة | سخنين | عيار حي في بطنه | 2/10 |
مصلح أبو جراد | 19 سنة | دير البلح | رصاص قناصة الشرطة في رأسه (قُتل في منطقة أم الفحم) | 2/10 |
رامز عباس بشناق | 24 سنة | كفر مندا | عيار في رأسه | 3/10 |
محمد غالب خمايسي | 19 سنة | كفر كنّا | رصاص حي | 4/10 |
وسام حمدان يزبك | 25 سنة | الناصرة | عيار حي في عنقه من الخلف | 8/10 |
عمر محمد عكاوي | 42 سنة | الناصرة | عيار في صدره | 8/10 |
تشكيل لجنة تحقيق رسميّة وملابساتها
خلال اجتماع عُقد في 3 تشرين الأول بين رئيس الوزراء إيهود باراك وممثلي لجنة المتابعة لقضايا الجماهير العربية، طالب الممثلون العرب بتشكيل لجنة تحقيق من أجل كشف المسؤولين عن تطوّر الأحداث. فوعد باراك بإجراء التحقيق مقابل عمل القيادات العربية على تهدئة الأوضاع. في 21 تشرين الأول، أُعلن عن تشكيل "لجنة تقصي حقائق" برئاسة القاضي المتقاعد شالوم برنر، من أجل فحص أداء الشرطة أثناء المواجهات مع المتظاهرين العرب. غير أن العائلات المعنية والقيادات العربية ومنظمات حقوقية وأهليّة رفضت هذه اللجنة، لكونها منزوعة الصلاحيات. فاستقال رئيس اللجنة وأعضاؤها وأوصوا بأن يتم تعيين "لجنة تحقيق رسمية" بموجب قانون لجان التحقيق (1968) الذي يمنح مثل هذه اللجان صلاحيات واسعة، بما في ذلك دعوة شهود وإلزامهم بالإدلاء بشهاداتهم أمامها، كما هو الحال في المحاكم. في أعقاب ذلك، في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر، اضطر باراك إلى الموافقة على تشكيل "لجنة تحقيق رسميّة".
في 15 تشرين الثاني، عيّن رئيس المحكمة العليا أعضاء اللجنة وهم قاضي المحكمة العليا ثيودور أور رئيساً، وشمعون شمير من جامعة تل أبيب، وهو سفير سابق لدى مصر، والقاضي سهل جرّاح، نائب رئيس المحكمة المركزية في الناصرة (في حزيران/ يونيو 2001، استقال هذا الأخير لأسباب صحيّة وحلَّ محله هاشم خطيب، قاضي المحكمة المركزيّة في الناصرة). وقد أثار نص التخويل الوارد في التعيين الرسمي للجنة والذي حدّد لها المواضيع التي ستقوم بفحصها، انتقاداً حاداً من قبل لجنة المتابعة، إذ تضمّن، بخلاف النص الذي كانت لجنة تقصي الحقائق المنحلّة قد استلمته في حينه، التحقيق في "تصرف محرّضي ومنظمي المشاركين في الأحداث." وقد أُجري هذا التعديل في مهام اللجنة الرسميّة بضغط من المستشار القضائي للحكومة إلياكيم روبنشتاين، وفي ظل اتهام الشرطة لشخصيات سياسية عربية (الشيخ رائد صلاح وعضوي الكنيست عبد المالك دهامشة وعزمي بشارة) بحض المواطنين الفلسطينيين على المواجهة مع الشرطة.
تقرير لجنة أور
في أواخر آب/ أغسطس 2003، نشرت لجنة أور تقريرها بعد أن استمعت إلى مئات الإفادات وفحصت آلاف المستندات. وقد أقرّت اللجنة بأنه لم يكن هناك أي مبرر للقتل خلال الاحتجاجات، وأنه جرى استخدام القناصة لتفريق المظاهرات بصورة مخالفة للقانون ومخالفة لتعليمات إطلاق النار، وأنه لم يكن هناك، في أي من الحالات، أي إثبات على وجود خطر يهدّد قوات الأمن أو الجمهور. واعترف التقرير بالعقلية العدائية وسوء المعاملة تجاه المواطنين العرب لدى جهاز الشرطة، الأمر الذي وصل إلى القتل بسهولة خلال الأحداث. وأوصت اللجنة بضرورة العمل على تغيير هذه الحال، والتخلّص من ثقافة الكذب السائدة داخل الشرطة للتغطية على التجاوزات التي يرتكبها أفرادها. وبشكل أعم، أوصت اللجنة بالعمل فوراً على معالجة واقع التمييز الذي يعاني منه المواطنون العرب في كافة المجالات.
أمّا فيما يخص المسؤولين عن الأحداث، فحمّلت اللجنة شلومو بن عامي وقادة الشرطة وبعض الضباط مسؤولية الفشل في السيطرة على الاحتجاجات. وأوصت بعدم تولي بن عامي وزارة الأمن الداخلي مرة أخرى في المستقبل، وبمنع قادة الشرطة المعنيين من مواصلة تولي مهام في مجال الأمن الداخلي، وبقيام قسم التحقيقات مع رجال الشرطة (ماحش) بالتحقيق في الأحداث التي أوقعت قتلى للكشف عن المنفذين، وفي جميع حالات إطلاق النار من قبل القنّاصة وحوادث اعتداء على مواطنين لا علاقة لهم بمجريات الأحداث.
على الرغم من هذه الجوانب الإيجابية، سُجّل على اللجنة عدد من الانتقادات، أبرزها: (1) لم تحمّل اللجنة الجهات السياسية مسؤولية مباشرة فيما حدث (أريئيل شارون وزيارته إلى الأقصى ورئيس الوزراء إيهود باراك) واكتفت بتوصية بألا يشغل بن عامي منصب وزير الأمن الداخلي في المستقبل؛ (2) تغاضت عن التحريض ضد العرب الذي صدر عن شخصيات رسمية كانت تشغل مناصب هامّة، في حين اتهمت شخصيات تمثيليّة عربية بالتحريض، وحقّقت معها مع تحذير مسبق بإمكانية توجيه لوائح اتهام ضدها؛ (3) لم تجتهد اللجنة، التي عملت طيلة 3 سنوات، في الكشف عن هوية القاتلين من عناصر الشرطة وحرس الحدود، وتوجيه التهم إليهم مع أنه كان بإمكانها أن تصل إليهم، واكتفت بتحويل هذه المهمة إلى "ماحش"، مع ما يعني ذلك من كسب للوقت وإفساح المجال أمام طي الموضوع. وبالفعل، في أيلول/ سبتمبر 2005، بعد مرور نحو خمس سنوات على هبة أكتوبر، نشرت "ماحش" تقريراً ينص على أنه لا مجال لتقديم لائحة اتهام في أي من حوادث القتل الـ13 التي نفذها أفراد الشرطة. وفي كانون الثاني/ يناير 2008، تبنّى المستشار القضائي للحكومة توصيات "ماحش" وأغلق الملفات.
ختاماً، من الجدير وضع هبة أكتوبر في السياق السياسي– الاجتماعي لمكانة الفلسطينيين في إسرائيل، إذ إن هذا السياق يساعد في فهم انطلاق الهبّة وفي الوقت ذاته في تفسير توقفها، بخلاف ما جرى في الضفة الغربية وقطاع غزة مع انتفاضة الأقصى وتصاعدها. فمن جهة، يعاني الفلسطينيون في إسرائيل من التمييز في كافة مجالات الحياة مثل سياسة تخطيط الأراضي التي تقوم على المصادرة والتضييق المستمرين، وارتفاع معدلات انتشار الفقر والبطالة بين العرب، ومعدلات الأجور المنخفضة، وتدني مستوى التعليم ومعدلات الحصول على شهادات الإنهاء الثانوية (البجروت) وفي مجال التعليم الجامعي. كما أن انسداد الأفق الذي وصلته المفاوضات بين القيادة الفلسطينيّة وبين حكومة إسرائيل في إثر محادثات كامب ديفيد، في صيف سنة 2000 لعب دوراً في نشوء حالة سياسية أغضبت الفلسطينيين عامة، والفلسطينيين داخل إسرائيل خاصة، والذين زاد هذا من قناعتهم بعدم استعداد إسرائيل للاعتراف بحقوق الفلسطينيين، حتى بعد أن قبلوا بالتسوية السياسيّة.
ومن جهة أخرى، يعتبر الفلسطينيون داخل إسرائيل أنفسهم مواطنين في الدولة، ويتصرفون بناءً على ذلك، ولديهم توقعات من دولة إسرائيل يسعون إلى تحقيقها بأساليب تندرج ضمن ما يتيحه القانون. هذا النوع من العلاقة مع الدولة يحدّد أنماط سلوكهم الجماعي السياسي. وقلّما يكون الاحتجاج عفوياً. فغالباً يجري الإعلان مسبقاً عن النشاط الاحتجاجي، وموعده ومدّته وبرنامجه وشعاراته. ومن الجدير بالذكر أن القيادات السياسية الفلسطينية في إسرائيل، على اختلاف توجهاتها، هي التي أسرعت، بعد يومين فقط من إعلانها عن إضراب عام لمدة يوم واحد وبدء مواجهات هبّة أكتوبر، إلى عقد لقاءات مع وزراء ونواب إسرائيليين لتهدئة الخواطر وإعادة الأمور إلى مجاريها. أمّا الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس، فإن نضالهم لإنهاء الاحتلال لا يخضع للقيود ذاتها، مع أن عليهم أيضاً مراعاة ظروف كل مرحلة لدى اختيار وسائلهم النضالية.