التطريز هو فنّ الزخرفة على القماش باستخدام الإبرة والخيط، يضاف إليه في بعض الأحيان مواد كالخرز أو الصدف. وفي فلسطين، نجد أقدم الأمثلة على التطريز على أثواب يعود تاريخها إلى أربعينات القرن التاسع عشر.
كان التطريز الفلسطيني حتى عام 1948 يُستخدم لتزيين ملابس النساء القرويات والبدويات بشكل أساسي، بما في ذلك الثوب والعباءة وغطاء الرأس والسروال، وذلك بأنماط متباينة وفقاً للمناطق الجغرافية. وكان التطريز يزيّن منطقة الصدر والأكتاف والجوانب والأكمام في الثوب، إضافة الى العروق التي تزيّن مقدمة التنورة وخلفيتها وجوانبها وحاشيتها.
تعتبر الغرزة المصلَّبة الأوسع استخداماً والأكثر ارتباطاً بفلسطين، وهي تعرف بالقطبة الفلّاحيّة التي أصبحت الأوسع انتشاراً في نهاية القرن التاسع عشر.
مرّت غُرز التطريز وأنماطه ومواضيعه وألوانه وتنسيقاته بتغيّرات عدّة عبر الزمان والمكان، حيث أثّرت التنويعات الإقليمية وتغيّر الموضة في كل حقبة على شكل الفساتين وطرازها وأشكال التطريز عليها. وكان للاضطرابات السياسية في النصف الأول من القرن العشرين، وما ترتّب عليها من تغيّرات اجتماعية واقتصادية، أثر واضح على شكل وطراز لباس الفلسطينيين، وخاصة النساء القرويات، وطرأت تحوّلات عميقة على استخدامات التطريز ومعانيه حتى وصلت إلى مرحلة تسليعه بشكل كبير.
التطريز الفلسطيني في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين
منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى أربعينات القرن العشرين كان التطريز الفلسطيني يتم باستخدام خيوط الحرير والذهب والفضة على أقمشة محلية منسوجة يدوياً، تتخلّلها فتحات، مصنّعة من القطن والكتّان والحرير المستورَد من مصر
وسوريا
و
لكن بعض الأقمشة القطنية والصوفية كانت تنتَج محلياً في المجدل
وغزة
والناصرة
وبيت لحم
وبيت جالا
. وغالباً ما كانت تتم صباغة الأقمشة والخيوط باستخدام الأصباغ الطبيعية. فكانت النيلة، وهي نبتة شائعة في منطقة
أثّرت التحولات في الممارسات التجارية خلال فترة الانتداب البريطاني على إنتاج الأقمشة محلية الصنع، وأنواع الخيوط وأنماط التطريز. فبدأ استيراد أنواع مختلفة من الأقمشة الأوروبية الأجود المصنوعة من القطن والحرير والمخمل على نطاق واسع، مما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي للأقمشة. وبما أن القماش المستورَد كان أكثر نعومة ودقة، لجأت النساء اللواتي يقمن بالتطريز إلى استخدام "الكنفا" ذات الفتحات العريضة التي توضع فوق القماش لتيسير عملية التطريز، وخصوصاً في تطريز الأنماط ذات الغرزة المصلَّبة. ودخلت خيوط القطن دقيقة الغزل، مثل تلك المصنَّعة من قبل الشركة الفرنسية DMC، في السوق الفلسطيني في العشرينات، وسرعان ما أصبحت أكثر شعبية من خيط الحرير السوري.
أدخلت هذه الخيوط القطنية ألواناً جديدة على التطريز الفلسطيني السائد، ليس ذلك فحسب، بل شاع استخدام الأشكال والمجسّمات الأكثر تعقيداً في الغرزة المصلَّبة خلال هذه الفترة، مثل الجِرار والأشكال البشرية والطيور. ويُعزى ذلك جزئياً إلى المجلات والكتب التي تحتوي مخططات ونماذج مختلفة (ما يصطلح على تسميته بالباترون) والتي كانت تُباع مع خيوط الدي إم سي DMC.
أنماط التطريز المحليّة:
تجلّت الاختلافات ما بين المناطق في الأثواب المطرّزة التي تلبسها النساء القرويات والبدويّات في نوع التطريز ومواضيعه، وتنسيق هذه المواضيع وموقعها على الثوب، وألوان خيوط التطريز والأقمشة وطراز الثوب. كانت الاختلافات في الشكل والزخارف بمثابة مؤشّرات بصرية للدلالة على البلدة الأصلية لصاحبة الثوب، أو ثروتها، أو وضعها الاجتماعي. وقد تغيّرت الأنماط على مدار الزمن، وتدل بعض الأثواب المتبقّية من تلك الحقبة على تقليد مواضيع التطريز ما بين المناطق، نظراً لوجود فرص كثيرة لاختلاط النساء من القرى المختلفة في أيام التسوّق والأعياد، ولا شك أنهنّ كنّ ينتهزن هذه الفرص للتدقيق في نماذج التطريز ونسخ مواضيع وأنماط التطريز غير المألوفة لديهن.
كانت مناطق بيت لحم والخليل معروفة باستخدام التطريز "التحريري"، وهو تقنيّة تسمح بتشكيل نماذج متعرّجة بخيوط القصب على شكل نباتات وأشكال تصويرية أخرى. ومن الغرز والتقنيات المستخدمة أيضاً التشريم والترقيع، وهي إضافة الأقمشة على القماش الأصلي (غالباً باستخدام التافتا الحريرية، وخصوصاً في مناطق الجليل والخليل ونابلس )، وحياكة الإبرة (المعروفة في منطقة الخليل)، والقيطان، وهو نسيج من الحرير أو القطن أو غيرهما يُبرَم فيكون كالحبل الدقيق (في الجليل)، والتفريغ وسحب الخيوط (وهي غير شائعة كثيراً، إلاّ أنه عُثر على بعض الأمثلة منها من أوائل القرن العشرين في مناطق الجليل والخليل). وتقدّم الأثواب المتوفرة من بدايات القرن العشرين أدلة على استخدام غرز السلسلة، والساتان، والبطانية، وعظم السمكة، والعروة، وغيرها من الغرز.
تزيّن بعض أثواب وعباءات منطقة الطيرة (الجليل، شمال فلسطين) تصاميم جميلة للأزهار وأوراق الشجر مطرّزة بخيوط حمراء وزرقاء على ملابس قطنية بيضاء. أما أثواب سيدات قرى نابلس وطولكرم (المنطقة الواقعة بين شمال ووسط فلسطين) فقد كانت استثنائية بافتقارها للتطريز، واقتصارها على استخدام القماش القطني أو الكتّان الأبيض، المزيَّن غالباً بالشرائط الملوّنة على طول الثوب فحسب. ومن غير الواضح سبب اختلاف هذه المناطق عن غيرها في هذا.
ونجد أكثر أشكال التطريز دقّة وتعقيداً في وسط فلسطين، وخصوصاً في بيت لحم والخليل ورام الله . وغالباً ما كانت الأثواب، وأغطية الرأس، والقبعات، والسترات في هذه المناطق مغطاة بالتطريز الجميل الغني بمختلف أنواع الغرز، مع الاعتماد على الغرزة المصلَّبة بشكل رئيسي. وكانت بيت لحم تشتهر بقطبة التحريري، التي غالباً ما كانت تُستخدم فيها خيوط الذهب أو الفضة لتزيين الأثواب والسترات المخملية بزخارف غنية بأشكال نباتية أو بتصاميم على شكل حليّ.
وقد جرت العادة في وسط فلسطين أن تغطّي النساء الأرامل الغرز الحمراء باللون الأزرق، أو أن تقمنّ بصباغة أجزاء الثوب المغطاة بالتطريز الملوّن باللون الأزرق. وكذلك كان اختيار النساء البدويات في الجنوب لألوان التطريز يعكس حالتهن الاجتماعية؛ فالفتاة غير المتزوجة كانت ترتدي الثوب الأسود التقليدي المغطّى بالتطريز الأزرق، ولا ترتدي الأثواب المزيّنة بالتطريز الأحمر إلا بعد الزواج.
التطريز الفلسطيني منذ سنة 1948 حتى الوقت الحاضر:
صدّعت النكبة
عام 1948 كافة مناحي الحياة الفلسطينية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتشير معظم الأبحاث التاريخية عن التطريز الفلسطيني إلى تغيّرات واسعة في الممارسات التقليدية للتطريز في إثر الأحداث المأسوية التي سبقت وتزامنت ولحقت بالنكبة. وقد أدّت الضائقة الاقتصادية، وفقدان إمكانية الوصول إلى الأسواق التقليدية للحصول على الأقمشة والخيوط التي كانت شائعة قبل النكبة، إلى ندرة إنتاج الأثواب الجديدة في أواخر الأربعينات وفي الخمسينات؛ بل إن بعض النساء اللاتي كن بحاجة للنقود اضطررن لبيع أثوابهن. وفي نهاية الخمسينات والستينات ساهمت الحوالات المالية التي كان يرسلها الفلسطينيون والفلسطينيات الذين سافروا للعمل في دول الخليج
حديثة الاستقلال آنذاك، مثل الكويت
و
وفي الستينات من القرن الماضي ظهر في المخيمات شكلٌ جديد من الأثواب سمّي "الثوب الجديد". والجديد في هذه الأثواب هو أنها، في معظم الأحيان، كانت تطرّز بأكملها باستخدام الغرزة المصلَّبة، مع المزج ما بين الرسومات الفلسطينية والأوروبية بأسلوب تجريبي اندمجت فيه الألوان بطريقة جديدة. هذا النمط الفني المختلَط كان انعكاساً للتبادل الثقافي الذي حصل داخل مخيمات اللجوء، حيث بات اللاجئ يعيش في جوار آخرين أتوا من قرى ومناطق أخرى، وبذلك انكشفت للنساء أنماطٌ متنوعة جداً للتطريز ونماذجه وتنسيقاته من مختلف المناطق الفلسطينية، فبدأن بأخذها وإدراجها في أعمالهن اليدوية. وزاد على هذا توافر مجلات الأشغال اليدوية الأجنبية، والألوان الجديدة لخيوط التطريز القطنية، ما أنتج شكلاً جديداً للثوب، الذي وإن بدا فلسطينياً من دون شك، إلا أنه لم يكن من الممكن تحديد منطقته في فلسطين، وكأنه من لا مكان وكل مكان في فلسطين في آن واحد.
كان ظهور "الثوب الجديد" الخطوة الأولى نحو تحوّل التطريز من ممارسة محليّة تعبّر عن البلدة الأصلية والوضع الاجتماعي، إلى رمز يعبّر عن الهوية الوطنية الفلسطينية. ومن أكثر تجليات هذا الثوب الجديد تسييساً كان "ثوب الانتفاضة" الذي صُنع ولُبس خلال الانتفاضة الشعبية في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
فقد تحدّت النساء المنع الإسرائيلي المفروض على رفع العلم الفلسطيني علناً بتزيين أثوابهن الجديدة بتطريز خارطة فلسطين، أو كتابة "م. ت. ف" الاسم المختصر لـ منظمة التحرير الفلسطينية ، أو كلمة فلسطين بالعربية والإنكليزية، أو حتى تطريز العلم الفلسطيني باستخدام خيوط بألوان العلم الفلسطيني الأربعة: الأحمر والأخضر والأبيض والأسود.
بحلول أواخر الستينات وأوائل السبعينات، اتخذت مؤسسات مجتمعية- مثل جمعية إنعاش الأسرة في رام الله، وجمعية إنعاش المخيم الفلسطيني في بيروت - وقيادة الثورة الفلسطينية قراراً بضرورة الحفاظ على التراث الفلسطيني في مواجهة التهديد المزدوج المتمثّل بالاندثار (نتيجة التهجير والحداثة)، وبالسرقة من قبل الإسرائيليين (محاولات الاستحواذ على الثقافة الفلسطينية)، الأمر الذي ساهم في تسييس التطريز وتثبيت مكانته كأحد أهم رموز الهوية الوطنية. وقد قامت هذه المؤسسات بتشغيل نساء من مخيمات اللاجئين في تطريز أصناف عديدة من المنتجات- مثل الأثواب، والسترات، والشالات، والحقائب، والمخدّات، ومفارش الأطباق، وأغطية الطاولات، ولوازم منزليّة أخرى- باستخدام الغرزة المصلَّبة وفق الأشكال الهندسية الرمزية القديمة، ولكن بتشكيلات لونيّة كرّرت نفس النمط المختلَط الخاص بالثوب الجديد.
وفي حين وفّرت هذه المبادرات للنساء دخلاً كنّ في أمسّ الحاجة إليه، إلا أنها أسهمت أيضاً في تسليع أعمال التطريز الفلسطيني، وباتت هذه المنتجات، بكافة مستويات جودتها، تُقتنى من قبل الأثرياء الفلسطينيين أو غيرهم، للتعبير عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية، و/أو كنوع من إبراز الهوية الوطنية. واليوم تغرق المحلات التجارية في مدن مثل عمّان ورام الله بالأقمشة والأثواب الجاهزة المطرزة بالماكينة بالغرزة المصلَّبة أو غيرها بأسعار في متناول الجيل الجديد من النساء الفلسطينيات.