شكّل مصير الجليل، بأرضه وسكانه العرب، خلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين هاجساً رئيسياً للحركة الصهيونية، وظهر ذلك من خلال مواقف وخطط تمثلت ذروتها في احتلال الجليل وتفريغ القسم الأكبر من سكانه العرب سنة 1948. وعلى الرغم من فرض السيادة الإسرائيلية عليه، استمر الوجود العربي المتبقي وتناميه الديموغرافي والنضالي عبر السنين يقلق المسؤولين الإسرائيليين ويجعلهم يبتكرون الخطط حتى يومنا هذا تحت مسميات مختلفة، منها "تهويد الجليل"، أو "تطوير الجليل"، أو "توزيع السكان"، أو "توطين الجليل القفر".
يعود مشروع "تهويد الجليل" إلى النصف الثاني من ثلاثينيّات القرن الماضي حين طرحت لجنة "بيل" البريطانية الموكلة بالتحقيق في أحداث الثورة الفلسطينية، في تموز/ يوليو 1937، خطة لتقسيم فلسطين إلى دولتين: واحدة عربية وأخرى يهودية، بالإضافة إلى منطقة تبقى خاضعة مباشرة للانتداب، ووضعت معظم لواء الجليل (بأقضيته الخمسة: عكا، الناصرة، صفد، طبرية، بيسان) ضمن الدولة اليهودية.
أما لجنة وودهيد، فقد اقترحت في التقرير الفني الذي قدمته في تشرين الثاني/ نوفمبر 1938 ثلاثة خيارات ممكنة: الخيار أ، وهو عملياً اقتراح لجنة بيل؛ الخيار ب، الذي يضع الجزء الأكبر من قضائي عكا والناصرة ضمن المنطقة التابعة للانتداب ويبقي قضائي صفد وطبرية وبيسان ضمن الدولة اليهودية؛ الخيار ج، الذي يضع لواء الجليل بكامله ضمن منطقة الانتداب.
ومع أن أي من اللجنتين لم يقترح إدخال أي جزء من الجليل ضمن حدود الدولة العربية، إلا أن التداول الانتدابي بشأن التقسيم ومستقبل الجليل أثار اهتمام الحركة الصهيونية، فعملت على تقويض أي إمكانية لأن يخرج الجليل من حدود الدولة اليهودية المرجوة، أكان ذلك كلياً، أو جزئياً (الخيار ب). ولذلك وضعت القيادات الصهيونية خطّة "سور وبرج"، التي قامت على تسريع الاستيطان الصهيوني وتكثيفه، وصولاً إلى فرض واقع سكاني مختلف عمّا هو قائم.
لم تستطع الحركة الصهيونية حتى سنة 1947 توسيع سيطرتها في منطقة الجليل أو تعديل الميزان السكاني فيها بشكل ملموس، باستثناء قضائي صفد وطبرية إلى حد معين. وربما انعكس هذا الأمر في خريطة التقسيم التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 181 الذي ادخلت فيه أجزاء من قضائي عكا والناصرة ضمن حدود الدولة العربية. لكن هذه الخريطة لم تثن القيادة الصهيونية عن وضع أحد أهداف "الخطة د" التي أطلقتها في نيسان/ أبريل 1948 (احتلال الجليل بكامله)، وذلك من أجل استحداث تواصل جغرافي بين مختلف المستوطنات اليهودية الجديدة المنتشرة فيه، وطرد السكان العرب وتدمير البلدات العربية القائمة في هذه المنطقة.
على الرغم من عملية التدمير الواسع النطاق والطرد الجماعي، بقي في الأراضي التي قامت عليها إسرائيل، في أعقاب النكبة، قرابة 160 ألف مواطن فلسطيني، أقام معظمهم في منطقة الجليل، وخضعوا جميعاً للحكم العسكري حتى سنة 1966. ومنذ مطلع الخمسينيّات من القرن العشرين، وفي إطار تقويض الكيان العربي في الجليل وللحؤول دون أي مطالبة بالعودة إلى حدود قرار التقسيم، وُضعت الخطط للتضييق على السكان العرب ومصادرة سبل حياتهم ومنعهم من الوصول إلى حقولهم، وارتكبت مجازر لخلق حالة من الهلع والذعر بين صفوفهم وبالتالي دفعهم إلى الهجرة، وجرى الاستعانة بالرصاص الحي لمنع "تسلل" الفلسطينيين الراغبين في العودة من وراء خطوط وقف إطلاق النار.
في الوقت ذاته، طوّرت إسرائيل الأدوات "القانونية" التي تسمح بانتزاع أكبر قدر من الممتلكات العربية وتقليص مساحة القرى العربية ومنع امتدادها الطبيعي. فاستولت، في عقدها الأوّل، على جميع أراضي القرى والمدن العربية التي كانت مسجّلة في عهد الانتداب باسم المندوب السامي البريطاني، لغياب سلطات محلّـية تديرها وخرائط هيكلية لها، علاوة على استيلائها على أراضي وأملاك المهجَّرين داخلياً الذين اصطُلح على تسميتهم في المعجم الإسرائيلي بـاسم "الغائبين الحاضرين". وقُدّر عدد الدونمات التي صادرتها دولة إسرائيل واستولت عليها في عقدها الأوّل، بحجج "أمنية" أو باسم "المصلحة العامة"، بمليون دونم. ولاحقاً، صُنّف معظم هذه الأراضي، العائدة إلى ملكيات خاصة فلسطينية أو إلى مُلكية عامة ("أراضي القرية")، ضمن "أراضي الدولة" قبل أن تتحوّل، بعد فترة وجيزة، إلى مستوطنات يهودية أو توضع في تصرف هذه المستوطنات. كما نقلت سلطات الدولة ملكية بعض هذه الأراضي إلى الوكالة اليهودية وإلى الصندوق القومي.
يمثل الاستيطان الركن الثالث في تهويد الجليل، إلى جانب ركني التضييق على السكان الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم. فمباشرة بعد انتهاء الحرب، أقامت إسرائيل بؤراً استيطانية على الحدود الشمالية (مثل ييرون، وشوميرا، ومالكيا، وسعسع) للفصل بين السكان العرب الذين بقوا في الجليل عن إخوانهم في ما وراء الحدود. لم يكن عدد هذه البؤر كبيراً أو ذا كثافة عالية في السنوات الأولى بعد قيام إسرائيل بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي مرّت بها الدولة. ولكن ابتداء من منتصف الخمسينيات، عملت الدوائر المختلفة في إسرائيل على إحاطة القرى العربية بحزام من المستعمرات. فأنشأت المدن الاستيطانية (نتسرت عيليت/ الناصرة العليا – 1956؛ معالوت – 1957؛ كرميئيل 1964)، وطورت كتلاً استيطانية مثل كتلة "سيغف" في محيط قرى سخنين، وعرابة، وشعب، وكوكب، وكفر مندا.
استمر الجهد الإسرائيلي لاستيطان الجليل في مطلع الستينيات، ودفعت دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية الدوائر الحكومية إلى اتّخاذ قرار رسمي بتوطين سكان يهود في المنطقة الجليل، نظراً إلى ازدياد مطّرد بنسبة السكّان العرب فيها، وانخفاض نسبة اليهود، الأمر الذي أدّى في نهاية الأمر (1966) إلى بلورة مشروع استيطاني كبير في الجليل أُطلق عليه اسم "سامخ سامخ" (وهو اختصار للتعبير العبري "سُوف سُوف" الذي يعني بالعربية "وأخيراً..."). وقد تبنّى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ليفي إشكول، هذا المشروع، ودفع باتّجاه تنفيذه، وشجّع الدوائر شبه الحكومية (الصندوق القومي والوكالة اليهودية) على تحقيق أهدافه، وصادقت عليه لجنة وزارية لشؤون التخطيط والاقتصاد برئاسة رئيس الوزراء في سنة 1967. إلاّ أنّ نتائج حرب 1967 حدّت من إمكانية تنفيذه، وأدّت إلى تحويل جلّ الجهد الاستيطاني إلى الضفّة الغربية، بما فيها القدس على وجه خاص، وقطاع غزّة.
في تموز/ يوليو 1972، أقدم البرلمان الإسرائيلي على تعديل قانون ضريبة الأملاك (التعديل رقم 8)، وأصبح على مالكي الأرض- زراعية كانت أم مُعَدّة للبناء- دفعُ ضريبة نسبتها 2,5% من قيمة الأرض سنويًّا (وهذا يعني أنّ صاحب الأرض يدفع خلال أربعين عاماً ثمن الأرض مجدّداً). ورمى هذا التعديل إلى تحويل الأرض إلى سلعة شرائية وجعل الملاّكين العرب يضطرون إلى بيع أراضيهم.
أثارت حرب 1973 مجدداً الهواجس من إمكانية انفصال الجليل، وتنبّه القائمون على رسم الخطط الرسمية في دولة إسرائيل والوكالة اليهودية إلى حقيقة أنّ "الجيوب العربية" الداخلية في حاجة ماسة إلى "معالجة"، لا سيّما أنّ أهمّها يقع في الجزء الشمالي من البلاد، ويشكّل امتداداً طبيعيّاً لسوريا ولبنان. وبعد أن استكملت الوكالة اليهودية رسم خططها للاستيطان في الجليل (1974)، باشرت في الضغط على الدوائر الرسمية لتقويض الوجود العربي في هذه المنطقة، عبر الاستيطان في محيط البلدات العربية القائمة فيها وفي داخل هذه البلدات أيضاً.
وفي سياق تهويد الجليل، اتخذت الحكومة الإسرائيلية برئاسة يتسحاق رابين، في مطلع سنة 1975، سلسلة من القرارات الهادفة إلى مصادرة العديد من الأراضي أو الإعلان عنها مناطق عسكرية مغلقة، كخطوة أولى على طريق مصادرتها وإلحاقها بمستوطنات يهودية.
وفي خريف 1975، صادقت الحكومة على مشروع "تهويد الجليل" (التعبير الرسمي المعتمد هو: "تطوير الجليل"، الذي أُعلن عنه في النشرة الشهرية لوزارة الزراعة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1975). وقد استند هذا المشروع إلى استراتيجية تهدف إلى "خلق حاجز في قلب مناطق واسعة ومكتظّة يسكنها غير اليهود"، وهي الاستراتيجية نفسها التي اتبعت في عمليات الاستيطان اليهودي التي شهدتها الضفّة الغربية منذ مطلع السبعينيّات.
وبموازاة ذلك، كانت "لجنة العمل في الكنيست" قد أوصت في منتصف كانون الثاني/ يناير 1975 بتكثيف الجهود لنقل "المصانع العسكرية من وسط البلاد إلى الجليل الأوسط لأن نقل هذه المصانع، التي تعتمد جميعها على العمل اليهودي، سوف يؤدي إلى انتقال آلاف المستخدمين اليهود وعائلاتهم إلى الجليل،" الأمر الذي سيساهم في تغيير التركيبة السكانية في الجليل.
وفي 1 آذار/ مارس 1976، رفع يسرائيل كنيغ، متصرف لواء الشمال في وزارة الداخلية الإسرائيلية، مذكرة سريّة إلى رئيس الحكومة يتسحاق رابين، بشأن "اقتراح لمعالجة عرب إسرائيل". وتضمنت المذكرة التي صارت تعرف باسم "وثيقة كنيغ" (بعد نشرها في أيلول/ سبتمبر 1976)، وصفاً للأخطار، من وجهة نظر إسرائيل، التي يشكلها الفلسطينيون في الجليل، وتقدم جملة من التوصيات منها: تكثيف الاستيطان اليهودي؛ تشجيع المشاريع الاستثمارية اليهودية مع تقييد نسبة العمالة العربية فيها؛ "تمييع" الكتل السكانية العربية؛ معاقبة البناء غير المرخص؛ الامتناع عن دفع المنافع الاجتماعية للعائلات العربية الكبيرة؛ تشجيع الطلبة العرب على الدراسة في الخارج ووضع العراقيل أمام عودتهم.
وكما هو معروف، فقد واجهت الهيئات والمؤسسات العربية الفلسطينية مشاريع تهويد الجليل بالإعلان عن إضراب شامل في 30 آذار/ مارس 1976 للدفاع عن الأراضي العربية، وأسفرت المواجهات التي دارت خلاله عن سقوط ستة شهداء برصاص الشرطة الإسرائيلية.
استمرت الجهود الإسرائيلية لتهويد الجليل بعد يوم الأرض وحتى يومنا هذا، وقد اعتمدت السلطات الإسرائيلية خطّة مكثّفة لإقامة مستوطنات في جميع أنحاء الجليل، من خلال إنشاء "مناطق" استيطانية (وهي نقاط مراقبة هدفها منع التمدد العربي)، وما يطلق عليه المجلس الإقليمي "مسغاف"، بحيث يضم العديد من المستوطنات المقامة في محيط البلدات العربية الكبيرة، وخلق الحوافز من أجل استقطاب مستوطنين يهود إلى هذه المنطقة.
لكن على الرغم من هذه الجهود، تواصل تنامي دور القوى الوطنية والقومية بين أبناء الأقلّـية العربية وتعزّزت نزعة الوطنية الفلسطينية بين صفوفها، واستمرت غلبة الوجود العربي في الجليل.
سكان الجليل (بالآلاف): سنوات مختارة ونسبة العرب فيها
القضاء
|
2016
|
2008
|
1995
|
1983
|
1972
|
1961
|
08/ 11/ 1948
|
|||||||
|
||||||||||||||
مجموع السكان
|
352.41
|
|
201.71
|
|
916.5
|
|
636.2
|
|
473.4
|
|
337.1
|
|
144.0
|
|
صفد
|
116.0
|
|
104.5
|
|
82.0
|
|
64.8
|
|
56.7
|
|
45.6
|
|
10.8
|
|
طبرية
|
114.0
|
|
101.4
|
|
82.5
|
|
62.6
|
|
49.6
|
|
43.3
|
|
19.5
|
|
مرج ابن عامر (والناصرة)
|
498.1
|
|
441.9
|
|
340.3
|
|
232.5
|
|
173.7
|
|
120.1
|
|
59.0
|
|
عكا
|
624.3
|
|
553.9
|
|
411.7
|
|
276.3
|
|
193.4
|
|
128.1
|
|
54.7
|
|
|
||||||||||||||
عرب
|
|
%
|
|
%
|
|
%
|
|
%
|
|
%
|
|
%
|
|
%
|
مجموع السكان
|
727.3
|
53.78
|
633.8
|
52.74
|
458.0
|
49.97
|
316.0
|
49.67
|
217.5
|
45.94
|
142.8
|
42.36
|
90.6
|
62.92
|
صفد
|
12.4
|
10.69
|
10.9
|
10.43
|
7.5
|
9.15
|
5.3
|
8.18
|
4.1
|
7.23
|
3.0
|
6.58
|
1.9
|
17.59
|
طبرية
|
33.6
|
29.47
|
29.8
|
29.39
|
22.1
|
26.79
|
15.7
|
25.08
|
11.2
|
22.58
|
7.9
|
18.24
|
5.1
|
26.15
|
مرج ابن عامر (والناصرة)
|
272.3
|
54.67
|
238.2
|
53.90
|
171.6
|
50.43
|
117.4
|
50.49
|
81.4
|
46.86
|
53.5
|
44.55
|
34.9
|
59.15
|
عكا
|
409.0
|
65.51
|
354.9
|
64.07
|
256.8
|
62.38
|
177.6
|
64.28
|
120.8
|
62.46
|
78.4
|
61.20
|
48.7
|
89.03
|
يهود
|
|
|||||||||||||
مجموع السكان
|
581.6
|
|
531.4
|
|
447.4
|
|
320.1
|
|
255.7
|
|
194.3
|
|
53.4
|
|
صفد
|
99.4
|
|
88.8
|
|
72.8
|
|
59.5<
|