توفّر معدلات المشاركة في سوق العمل في بلد معين مؤشراً إلى درجة المشاركة الاقتصادية للسكان ممن هم في سن العمل (أي الذين تتراوح أعمارهم ما بين خمسة عشر عاماً وخمس وستين عاماً). ويُعتبر الأفراد مشاركين في سوق العمل، أكانوا يعملون أم عاطلين عن العمل. وفي هذا المقال، كلمة مشاركة تخصّ الموظفين، وأصحاب المهن الحرة، وغير مدفوعي الأجر، مثل أولئك الذين يعملون في الشركات العائلية، وكل من عداهم ممن هم في سن العمل يُعتبرون غير مشاركين (على سبيل المثال، الطلاب بدوام كامل، والسجناء، وربات البيوت).
تفاوتت معدلات مشاركة المرأة الفلسطينية في سوق العمل بشكل كبير على مدى المئة سنة الماضية (1918-2017). ويمكن تقسيم تلك الفترة إلى أربع مراحل: الحكم الاستعماري البريطاني (1918-1947)، وفترة ما بعد النكبة مباشرة (1948-1966)، ومرحلة الاحتلال الإسرائيلي المباشر (1967-1993)، ومرحلة ما بعد أوسلو (1994–2017). وقد تميزت هذه المراحل ببنى سياسية استعمارية مهيمنة متعددة، غيّرت، إلى حد كبير، حياة الفلسطينيين الاقتصادية وسبل عيشهم.
خلال فترة الاستعمار البريطاني (1918-1947)، كانت مشاركة المرأة الفلسطينية في سوق العمل شائعة، ولا سيما في قطاع زراعة الكفاف الأُسريّة، التي كانت تقوم على وحدات صغيرة من الأراضي يتولى زراعتها أفراد الأسرة. وبالإضافة إلى الزراعة، كانت الفلاحات ينتجن سلعاً بسيطة للاستهلاك المنزلي، في معظمها منتوجات غذائية، وكنّ يبعن ما يفيض عن الحاجة. ووفقاً لتعداد سنة 1931، وصلت نسبة النساء الفلسطينيات المنخرِطات في سوق العمل نحو 9 في المئة. ومع بداية الحرب العالمية الثانية، ازدادت أعمال النساء مدفوعة الأجر باطّراد، ولا سيما في البلدات والمدن الساحلية الحضَرية؛ فقد ازداد عدد النساء الفلسطينيات في المناصب المكتبية في المؤسسات التعليمية والمكاتب الحكومية. كما جُذبت النساء إلى العمل في مصانع الخياطة في حيفا التي كانت تلبي حاجات الجيش البريطاني المشارك في الحرب بصورة رئيسية.
لا يمكن تحديد ما إذا كان دخول المرأة قطاع التصنيع بأعداد كبيرة ظاهرة قصيرة الأجل، أم أنه كان تغييراً بنيوياً على المدى الطويل، وذلك لأن قيام دولة إسرائيل سنة 1948 أدى إلى طرد الفلسطينيين من مدنهم وقراهم.
في الفترة الثانية (1948-1966)، دُفع مزيد من النساء في فلسطين إلى البحث عن عمل في القطاعات كافة، وخصوصاً في الضفة الغربية وقطاع غزة. وينطبق هذا بصورة خاصة على اللاجئات اللواتي انخرطن بأعداد كبيرة في العمالة الموقتة في القطاع الزراعي. بيد أن زيادة المشاركة هذه تضاءلت مع مرور الزمن؛ فاللاجئات كبيرات السن، ولا سيما ذوات المستوى التعليمي المتدني، انسحبن من سوق العمل بعد تحسن أوضاعهن الاقتصادية، والتحقت النساء الأصغر سناً في سوق العمل، لكن عدد المنسحبات كان أكبر. ومع بداية ستينيات القرن الماضي، أدى انخفاض معدلات مشاركة اللاجئات إلى وضع حد للاتجاه التصاعدي الأولي.
في الفترة الثالثة (1967-1993)، ظلت معدلات مشاركة المرأة في القوى العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة متدنية، وواصلت تراجعها بالتدريج، من 11 في المئة سنة 1969 إلى 6 في المئة سنة 1991. وهذا الانخفاض الكبير في معدلات مشاركة المرأة بعد سنة 1967 يتناقض بشدة مع معدلات مشاركة النساء على المستويين الإقليمي والعالمي، ويتناقض كذلك مع معدلات مشاركة الذكور الفلسطينيين التي أظهرت ارتفاعاً ملحوظاً في تلك الفترة؛ فقد أدت التحويلات المالية الكبيرة من الرجال، الذين انخرطوا في سوق العمل الإسرائيلية وفي الخارج، إلى الحفاظ على نموذج الرجل المعيل للأسرة، الأمر الذي ساهم في انخفاض مشاركة المرأة. لكن العامل الأساسي الذي يفسر تدني معدلات عمل المرأة هو السياسة الإسرائيلية المتعمدة والممنهجة الهادفة إلى تقويض القدرة الإنتاجية للاقتصاد المحلي، والتي أدت إلى تدمير القطاعين الزراعي والصناعي (وهما القطاعان اللذان تعمل النساء فيهما عادة). وكان التقلص في قدرة الاقتصاد الفلسطيني على توفير فرص عمل النساء كبيراً إلى درجة أنه حتى ارتفاع التعليم بعد سنة 1967 لم يؤثر في مشاركة المرأة في القوى العاملة.
بعد سنة 1967، وظّفت الشركات الإسرائيلية عمالاً فلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن الفلسطينيين الذين دخلوا سوق العمل الإسرائيلية كانوا في معظمهم من الرجال. ووفقاً لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، مثّلت النساء أقل من 2 في المئة من عمال الضفة الغربية وقطاع غزة في إسرائيل خلال الفترة 1968 - 1993، ونحو 1 في المئة بعد سنة 1994.
نظر المجتمع الفلسطيني إلى عمالة المرأة في إسرائيل من منظور سياسي، بسبب العلاقة الاستيطانية - الاستعمارية بين إسرائيل والأراضي التي احتلتها سنة 1967؛ فعروض العمل في إسرائيل لم تكن تلقى استجابة لدى النساء، وكانت معارضتهن تندرج في إطار مقاومة التطبيع مع سلطة الاحتلال، وتعدّ تعزيزاً لصمود السكان الفلسطينيين الأصليين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد أشار تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (ESCWA)، لسنة 1980 إلى ما يلي:
يعتقد الفلسطينيون أن انضمام المرأة الفلسطينية إلى زوجها في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي، يعزز قدرة إسرائيل على مواصلة عدوانها على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، بينما يزيد في ضعف مكونات الاقتصاد الفلسطيني المستقل، وبالتالي تماسك المجتمع الفلسطيني، حتى في سياقه الضيق.
في مرحلة ما بعد اتفاقيات أوسلو (1994-2017)، ارتفعت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل من 11.2 في المئة في سنة 1995 إلى 19 في المئة في سنة 2017، ويعود الفضل في معظم هذه الزيادة إلى النساء الحاصلات على تعليم أعلى من المرحلة الثانوية، واللاتي شكّلن، بالتدريج، نسبة كبيرة من السكان. وتعدّ هذه الزيادة في معدلات المشاركة زيادة لا يُستهان بها، لأنها تمثل عكساً لمسار معدلات مشاركة المرأة في سوق العمل التي كانت في انخفاض مستمر منذ عقود. وخلال الفترة نفسها، ولأول مرة منذ عقود، بدأت معدلات مشاركة الرجال تنخفض، ولا سيما بعد اندلاع الانتفاضة الثانية سنة 2000، ثم استقرت بعد سنة 2014.
تعود زيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة بعد سنة 1994 بصورة رئيسية إلى التوسع في قطاع الخدمات، الذي يميل إلى إيجاد عمل متقطّع وغير قابل للاستمرار. وفي ظل سياسات إسرائيل الاستعمارية المستمرة التي تقوّض قطاعي الصناعة والزراعة، ستظل مشاركة المرأة في سوق العمل منخفضة، لأن قدرة الاقتصاد على توفير فرص العمل للمرأة محدودة. ويظهر انخفاض مشاركة المرأة في القطاعات الإنتاجية بوضوح عند النظر إلى التوزيع القطاعي.
توزّع العاملين من الرجال والنساء في مختلف القطاعات في الضفة الغربية وقطاع غزة
1995 - 2016
(بالنسب المئوية)
|
الزراعة |
الصناعة |
الإنشاءات |
الخدمات |
||||
|
إناث |
ذكور |
إناث |
ذكور |
إناث |
ذكور |
إناث |
ذكور |
1995 |
26.9 |
10.3 |
16.2 |
18.3 |
0.7 |
22.3 |
56.2 |
49.1 |
2000 |
34.7 |
10.3 |
11.1 |
14.7 |
0.3 |
23 |
53.9 |
52 |
2005 |
32.9 |
11.4 |
8.2 |
13.8 |
0.3 |
15.3 |
58.6 |
59.5 |
2010 |
21.4 |
9.9 |
7.5 |
12.2 |
0.3 |
15.8 |
70.8 |
62.1 |
2016 |
9 |
7 |
11 |
13.8 |
0.6 |
19.5 |
79.4 |
59.5 |
المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، "مسح القوى العاملة"، سنوات متعددة.
تواجه النساء نظام استغلال متعدد الطبقات في سوق العمل الفلسطينية. فقد وجدت المرأة الفلسطينية المتعلمة والماهرة أن فرصها للوصول إلى سوق العمل تعوقها السياسات الإسرائيلية التي تحدّ من قدرتها على أن تكون جزءاً من الاقتصاد الفعال. وعلى الجبهة المحلية، تواجه المرأة تمييزاً في مكان العمل وأوضاعه السيئة، في القطاعين الرسمي وغير الرسمي. ويتجلى التمييز جزئياً من خلال تفاوت الأجور: حصلت النساء على ما متوسطه 84 شيكلاً إسرائيلياً في اليوم في سنة 2016، بينما حصل الرجال على 114 شيكلاً (متوسط سعر الصرف في سنة 2016: دولار واحد = 3.83 شيكلات). كما أن معدل البطالة عند النساء أعلى منه عند الرجال (45 في المئة في مقابل 22 في المئة). وقد بلغ معدل البطالة عند النساء في قطاع غزة 65 في المئة في سنة 2016، ويعد هذا من أعلى معدلات البطالة على مستوى العالم.
ومن أجل تشجيع مزيد من النساء على الانضمام إلى سوق العمل، سيكون من الضروري القضاء على التمييز في الأجور وأوضاع العمل السيئة التي يتعرضن لها. والأهم من ذلك، يجب تعزيز القدرة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني، وهذا يتطلّب سياسات واستراتيجيات لمواجهة تآكل القطاعات الإنتاجية، بما فيها الزراعة والتصنيع والتكنولوجيا، الناتج من السياسات الاستعمارية الإسرائيلية. ويمكن تعزيز هذه القطاعات من خلال مجموعة من الاستثمارات، بما فيها في مجالي البحث والتطوير، وكذلك من خلال مراقبة الجودة، وإدخال تدابير حماية التجارة، وخصوصاً فيما يتعلق بالبضائع والسلع الأساسية التي يوجد لها بدائل محلية، لكنها عاجزة عن منافسة البضائع الإسرائيلية المدعومة بشدة.
تعدّ مقاطعة السلع والخدمات القادمة من السوق الإسرائيلية استراتيجيا مهمة لتعزيز قدرة سوق العمل الفلسطينية؛ فهي تسمح للسلع ذات الجودة والخدمات، المنتَجة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالوصول إلى الأسواق المحلية.