على مدار فترة الانتداب، وضعت السلطات البريطانية في فلسطين نظاماً قانونياً جزائياً يهدف إلى منع التنظيم السياسي الفلسطيني، وتقليل الإنفاق الحضري والقوة البشرية البريطانية، وتسهيل مرونة المسؤولين الاستعماريين من خلال منحهم سلطات واسعة للعمل "الوقائي" وفرض العقاب الجماعي. وعلى غرار البيئات الاستعمارية الأُخرى، غالباً ما كان يتم وصف السياسات المبنية على هذه الأهداف بأنها تتماشى مع التقاليد المحلية، أو أنها تشكل ردوداً "طارئة" استلزمت التعطيل الموقت لنظام جزائي هو مستنير في الأصل. وفي الواقع، عندما حل قانون عقوبات جديد محل قانون الجزاء العثماني في سنة 1937، كان هذا القانون الأخير قد تم تعديله من خلال تشريعات بريطانية متتابعة أُدخلت عليه، إلى درجة أنه أصبح يشبه إلى حد كبير القوانين المرعية في المستعمرات البريطانية الأُخرى أكثر مما يشبه القوانين التي واكبها مسؤولون عثمانيون. وفي أغلب الأحيان كانت هذه التعديلات الجوهرية التي أدخلتها السلطات الانتدابية على القانون الجزائي في فلسطين ردوداً مباشرة على التعبئة الفلسطينية المناهضة للاستعمار، مثل التوسيع المتواصل لصلاحيات الشرطة، والتشديد المتصاعد للعقوبات، الأمر الذي شكّل النموذج الذي سوف تتبناه دولة إسرائيل مع الفلسطينيين بعد سنة 1948.
تم وضع الأساس لنهج بريطانيا في مراقبة الفلسطينيين في أوائل عشرينيات القرن العشرين، حتى قبل دخول "مرسوم دستور فلسطين" حيز التنفيذ. وقد أعطى مرسوم منع الجريمة، الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 1920، والذي تم تعديله في العام التالي، الحكومة سلطة احتجاز أو فرض القيود على الأفراد الذين قد يعكّرون السلام في رأيها. من جهته، أتاح مرسوم الشرطة الفلسطينية لسنة 1921 إنشاء قوة الشرطة المدنية التي ستظل قائمة طوال فترة الانتداب، ووضع هيكلها، وسلطتها، وواجباتها (تم استكمالها في أوقات مختلفة بقوات الدرك الفلسطينية، وشرطة الاستيطان اليهودي، وقوة حدود شرق الأردن، والوحدات العسكرية البريطانية). ومُنحت السلطات صلاحية إعلان أي منطقة على أنها في "حالة مضطربة أو خطرة"، وهو ما يستدعي زيادة وجود الشرطة، التي كانت تكلفتها تُفرض على سكان المنطقة، والذين كان من الممكن مطالبتهم أيضاً بدفع غرامات جماعية من أجل تعويض الأفراد إذا ما تعرضوا لإصابات جسدية أو خسائر في الممتلكات خلال "حالة الاضطراب". كما كان لدى السلطات ("حسبما تقتضي المناسبة") صلاحية تنظيم وتوجيه جميع التجمعات والمواكب العامة. وكان لهذه الصلاحية أولوية في نظر سلطات الانتداب لأن التجمعات والمواكب كانت تتحول في كثير من الأحيان إلى مناسبات يعبّر فيها الفلسطينيون بعنف عن استيائهم من الانتداب البريطاني ودعمه المشروع الصهيوني خلال سنوات الانتداب المبكرة، كما حدث بعد موكب النبي موسى في سنة 1920، وتظاهرات عيد العمال في سنة 1921. وكان القانون العثماني الخاص بالتجمعات يخوّل المسؤولين تفريق التجمعات العامة، والقبض على الأشخاص الذين يرفضون الالتزام، وفرض عقوبات على المجتمعين، وعلى من يخاطبون التجمعات العامة، ومن يقومون بتوزيع أو نشر مواد "بهدف تحريض الناس على التجمع مع سلاح أو من دونه". وقد استخدمت سلطات الانتداب المراسيم العثمانية والانتدابية معاً للقبض مثلاً على أعضاء النادي العربي من فرع يافا، ومحاكمتهم، ومعاقبتهم بتهمة تحريضهم الجماهير خلال اضطرابات سنة 1921.
عزز مرسوم المسؤولية الجماعية عن الجريمة لسنة 1921، ومرسوم منع الجريمة (المناطق القبلية والقروية) لسنة 1924، وقانون العقوبات المشتركة [بحسب الترجمة الرسمية، والمقصود العقوبات الجماعية] لسنة 1926، الأساس القانوني للعقاب الجماعي في فلسطين الانتدابية. وقد رسخت هذه المراسيم ممارسات الشرطة في تقدير الغرامات الجماعية، وإيواء قوى شرطة إضافية في القرى المضطربة (على حساب القرويين)، وفرض قيود على الأفراد "وقائياً". وفي غضون ذلك، سعى مرسوم منع الجريمة (المناطق القبلية والقروية) لتجنيد زعماء القبائل في النظام القانوني، وتفويضهم سلطات الشرطة في الاعتقال والتحقيق، مع التهديد بالاعتقال وفرض الغرامات ومصادرة الماشية إذا لم تتعاون القبائل مع سلطات الانتداب. وعندما اعتُمدت هذه المراسيم، تم تقديمها بوصفها وسائل ضرورية تمنع الاضطرابات الريفية، وتراعي في الوقت ذاته التقاليد الأصيلة للقبائل والقرويين الفلسطينيين. فقد ساوت السلطات، بصورة مضللة، بين محاولاتها تجنيد وسطاء محليين ومعاقبة الفلسطينيين المتمردين، وبين الأساليب الفلسطينية المجتمعية المتمثّلة في الصلح والقضاء العشائري، مستعينة في ذلك بالممارسات الاستعمارية الراسخة. ونظراً إلى عدم إدراكها الديناميات الاجتماعية والسياسية المحلية، وإلى انتشارها المحدود خارج المناطق المدينية، بررت الدولة الاستعمارية محاولاتها الاستبدادية للسيطرة على السكان المستعمَرين بإلقاء اللوم على التخلف المزعوم لهذه المجتمعات.
أصبح قانون العقوبات المشتركة بصورة خاصة وسيلة متعددة الأغراض في أيدي سلطات الانتداب. وعلى الرغم من أن تطبيقه كان يقتصر أصلاً على "المناطق القروية والقبلية"، فقد تم تعديله في سنة 1928 كي يُطبّق على المناطق البلدية أيضاً. فكان يكفي السلطات أن تعلن على العموم إضافة قرى معينة أو مناطق قبلية أو أحياء بلدية محددة إلى "جدول" المواقع الخاضعة للعقاب الجماعي. وفي أيلول/ سبتمبر 1929، عندما هزّت هبة البراق القدس والخليل وصفد ومناطق أُخرى في مختلف أنحاء فلسطين، أضاف المندوب السامي منطقة القدس، واللواء الجنوبي، واللواء الشمالي إلى الجدول، الأمر الذي جعل فلسطين كلها عملياً عرضة للعقاب الجماعي. وفي سنة 1935، تم تعديل قانون العقوبات المشتركة مرة أُخرى، بحيث لم يعد إثبات ارتكاب جريمة في المنطقة الخاضعة للعقاب الجماعي يحتاج إلى أي شرط. وقد أدى ذلك إلى إضفاء الطابع الرسمي على الطبيعة النزوية للحكم الاستعماري، الأمر الذي جعل فلسطين بأسرها بحكم الواقع وبحكم القانون عرضة للعقاب الجماعي وفقاً لأهواء السلطات البريطانية.
أدت هبة البراق سنة 1929 إلى عدد من التغييرات الشاملة في النظام القانوني للانتداب، كان في مقدمها تبني قانون العقوبات (جرائم إثارة الفتنة)، الذي صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 1929، تعريفاً واسعاً لـ "جرائم إثارة الفتنة" وفرض العقوبات الشديدة على أولئك الذين يُعتقد أنهم ارتكبوها. فباتت أي معارضة للحكم البريطاني في فلسطين (بما في ذلك معارضة التزام الانتداب تمكين مشروع الصهيونية، والذي تم تكريسه في صك الانتداب نفسه) تعرّض الفلسطينيين لخطر السجن. كما قامت الحكومة البريطانية في لندن، بعد أن توقّعت مزيداً من الاضطرابات نتيجة انتهاجها سياسات مؤيدة للصهيونية في مواجهة الإرادة الشعبية الفلسطينية، بإصدار المرسوم الملكي للدفاع عن فلسطين لسنة 1931 الرامي إلى توفير إطار لحكومة الانتداب يسمح لها باتخاذ إجراء سريع وحاسم في حالة حدوث "حالة طوارئ" أُخرى. ومنح هذا المرسوم الملكي المندوب السامي في فلسطين سلطة الرقابة على المنشورات وقمعها، وفرض السيطرة على التجارة والإنتاج، والاستيلاء على الممتلكات، واحتجاز الأفراد وترحيلهم أو محاكمتهم أمام محاكم عسكرية، فضلاً عن عقوبات أُخرى. وقد وُضع هذا المرسوم الملكي موضع العمل من تشرين الأول/ أكتوبر 1933 لغاية شباط/ فبراير 1934، عندما اجتاحت البلد موجة جديدة من التظاهرات الفلسطينية ضد الاستعمارين البريطاني-الصهيوني.
خلال ثورة 1936-1939، لجأت السلطات البريطانية مجدداً إلى المرسوم الملكي للدفاع عن فلسطين، الذي استكملته أيضاً بمراسيم ملكية أعطت الإدارة المدنية في فلسطين صلاحيات موازية لتلك الممنوحة للجيش في حالات الأحكام العرفية. وفي نيسان/ أبريل 1936، أعاد المندوب السامي العمل بالمرسوم الملكي للدفاع عن فلسطين لسنة 1931، فأصدر عدداً من أنظمة الطوارئ التي سمحت لحكومة الانتداب بفرض حظر التجول، وفرض الرقابة على المواد المكتوبة، واحتلال المباني، والقيام باعتقالات من دون مذكرات توقيف، وترحيل الأفراد من دون محاكمة. واستمر البريطانيون في استخدام الوسائل القانونية المتاحة، سواء أذن بها المرسوم الملكي أو تم سنّها في مراسيم صادرة عن المندوب السامي، لقمع النشاط السياسي والنضالي، ومعاقبة الفلسطينيين المشتبه في مشاركتهم في الثورة الناشئة أو دعمها. وقد دار سجال بين المسؤولين البريطانيين في فلسطين ولندن بشأن فرض الأحكام العرفية في فلسطين، وعكست الحجج المتبادلة بينهم الصراع على السلطة بين القيادتين المدنية والعسكرية البريطانيتين في فلسطين، لا القلق بشأن الحقوق القانونية للفلسطينيين. وفي نهاية أيلول/ سبتمبر 1936، طرحت الحكومة البريطانية مرسوم الأحكام العرفية (الدفاع عن فلسطين)، الذي منح المندوب السامي السلطات المرتبطة بصورة عامة بالأحكام العرفية، بما في ذلك سلطة محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية. ولم يكن من الممكن الطعن في أنظمة الطوارئ من الناحية القانونية.
بين المرحلتين الأولى والثانية من الثورة، عقب الدعوة إلى إنهاء الإضراب العام ووصول لجنة اللورد بيل الملكية إلى فلسطين، وضعت إدارة الانتداب قانون عقوبات جديداً، عزز المراسيم التي صدرت بطريقة مجتزأة حتى تلك المرحلة، واستبدل أية بنود عثمانية بقيت واردة في النظام القانوني الجزائي ببنيان يستند إلى الهياكل القانونية المفروضة في الأماكن الأُخرى من الإمبراطورية. وقام المسؤولون الاستعماريون في لندن بتوحيد وتوسيع المراسيم الملكية القائمة من خلال إصدار المرسوم الملكي للدفاع عن فلسطين لسنة 1937. وتجلت "السلطة التقديرية غير المقيدة" التي مُنحت للمندوب السامي في هذا المرسوم الملكي في اللجوء إلى العقاب الجماعي على نطاق واسع، بما في ذلك تدمير المنازل والمنشآت، ومصادرة الممتلكات المنقولة وتدميرها، وفرض حظر التجوال ونظام تصاريح خانق، والاعتقال الجماعي، والسجن، والأحكام المستعجلة من المحاكم العسكرية، وإعدام الفلسطينيين. وبحلول نهاية سنة 1939، كانت هذه الإجراءات الوحشية البريطانية قد نجحت في قمع الثورة، تاركة تأثيرات عميقة في السياسة والمجتمع الفلسطينيين في العقد الذي أدى إلى النكبة.
خلال الحرب العالمية الثانية، وفّرت التعبئة الناتجة من حالة الحرب للسلطات البريطانية المبررَ للحفاظ على صلاحيات الشرطة الموسعة وللاستمرار في فرض القيود على التعبير السياسي للسكان في فلسطين. وكانت أنظمة الدفاع التي تم فرضها على فلسطين سنة 1939 متسقة مع السياسات التي رسمها قانون سلطات الطوارئ (الدفاع) الصادر عن لندن سنة 1939 على نطاق الإمبراطورية بأسرها. لكن عقب انتهاء الحرب، ومع انقلاب الحركة الصهيونية ضد راعيها السابق، وإطلاقها تمرداً عنيفاً بهدف إجبار بريطانيا على الخروج من فلسطين، لجأت حكومة الانتداب مرة أُخرى إلى المرسوم الملكي للدفاع عن فلسطين لسنة 1937، مستخدمة السلطة التي منحها لها المرسوم كي تقوم بوضع أنظمة الدفاع (الطوارئ) في سنة 1945. وكما حدث خلال ثورة 1936-1939، مكّنت أنظمة الطوارئ (التي فُرضت الآن على اليهود والعرب على حد سواء)، السلطات البريطانية من إجراء عمليات تفتيش من دون إذن قضائي، ومصادرة الممتلكات وهدمها، وفرض الرقابة على المنشورات وتعليقها، وفرض حظر التجول وتقييد الحركة، واحتجاز الأفراد ومحاكمتهم في محاكم عسكرية.
وحتى بعد انتهاء الانتداب، استمرت أنظمة الطوارئ بملاحقة الفلسطينيين؛ فبعد قيام دولة إسرائيل في سنة 1948، أدرجت الحكومة الإسرائيلية أنظمة الدفاع (الطوارئ) لسنة 1945، إلى جانب جزء كبير من قانون الانتداب القائم، ضمن القانون الإسرائيلي من خلال سنّها قانون أنظمة السلطة والقضاء لسنة 1948. وقد طبّقت إسرائيل هذه الأنظمة على الفلسطينيين الذين تمكنوا من البقاء داخل حدود الدولة الجديدة، ووجدوا أنفسهم تحت الحكم العسكري الإسرائيلي. كما زعمت إسرائيل، بعد سنة 1967، أن القانون الساري في الضفة الغربية وقطاع غزة يتضمن هذه الأنظمة التي لم تبادر الحكومة الأردنية أو الحكم المصري إلى إلغائها رسمياً، الأمر الذي مكّنها من فرضها على الفلسطينيين الخاضعين للحكم العسكري الإسرائيلي. وبهذه الطريقة، ظلت أنماط العقاب الجماعي والسلطات "الطارئة" الموسعة التي استخدمها البريطانيون لاستهداف السكان الفلسطينيين جزءاً جوهرياً من النظام القانوني الذي خضع له الفلسطينيون بعد فترة طويلة من نهاية الانتداب.