يأتي الإعلان في وقت يعلن قادة الحزب (اليهود) موافقتهم على الشروط التي وضعتها الأممية الشيوعية/ الكومنترن: تغيير اسمه من "حزب العمال الاشتراكي" (وهو اسم كانوا قد تبنوه في تشرين الأول/ أكتوبر 1919) إلى الحزب الشيوعي؛ اتباع سياسة "تعريب"؛ قطع العلاقة مع الصهيونيين الاشتراكيين.
تشكّلت أول نواة "شيوعية" في فلسطين، في تشرين الأول/ أكتوبر 1919، على أيدي بعض الناشطين اليساريين اليهود الذين قدموا إلى فلسطين، في إطار الهجرات اليهودية، وكانوا واقعين تحت تأثير ما سمّي "الصهيونية الاشتراكية"، أو "البروليتارية". واتّخذت هذه النواة الأولى اسم "حزب العمال الاشتراكي"، الذي كان مرتبطاً باتحاد يهودي يساري عالمي باسم "بوعالي تسيون". وقد سعت هذه النواة الأولى، بعد ظهورها بفترة قصيرة، للانضمام إلى الأممية الشيوعية/ الكومنترن، التي كانت قد تشكّلت في آذار/ مارس 1919 بمبادرة من لينين لتكون إطاراً سياسياً وتنظيمياً يوحّد نضالات الشيوعيين في العالم. وقد اشترطت قيادة الكومنترن على النواة "الشيوعية" الأولى في فلسطين، قبل الموافقة على قبول عضويتها، أن تقوم بتبنيّ سياسة "التعريب"، على صعيد العضوية والتوجّه، وأن تقوم بتغيير اسمها وتقطع صلاتها بتيارات "الصهيونية الاشتراكية". وبعد صراعات شديدة شهدت العديد من الانقسامات، أُعلن رسمياً في التاسع من تموز/ يوليو 1923 تشكيل "الحزب الشيوعي الفلسطيني"، وموافقة قيادته على شروط الانتساب إلى الكومنترن.
نضالات الشيوعيين الوطنية والاجتماعية في العشرينيات
عارض الحزب الشيوعي الفلسطيني بحزم، منذ تأسيسه، الحركة الصهيونية ومشروعها، وهو ما تجلّى لدى زيارة اللورد بلفور إلى فلسطين في نيسان/ أبريل 1925، إذ دان الحزب تلك الزيارة بشدة، ورأى فيها "مظاهرة إنكليزية ضد النهضة الوطنية العربية"، وساهم بنشاط في تنظيم التظاهرات والإضرابات التي اندلعت في المدن الفلسطينية احتجاجاً على تلك الزيارة. والواقع، أن الحزب الشيوعي الفلسطيني تميّز، في عشرينيات القرن العشرين، بوقوفه الحازم ضد الاحتلال البريطاني ومناداته باستقلال فلسطين، وانتقاده السياسات المهادنة لبريطانيا التي كانت تتّبعها قيادة الحركة الوطنية العربية، ممثلة في اللجنة التنفيذية العربية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، دعا الحزب الشيوعي الفلسطيني العمال العرب واليهود إلى التوحد في النضال من أجل حقوقهم الاجتماعية، وسعى لسلخ العمال اليهود عن جسم الحركة الصهيونية، وذلك عبر تشجيعهم على تصعيد نضالاتهم المطلبية وتطوير حركتهم الإضرابية. كما سعى لتنظيم العمال العرب ورفع مستوى وعيهم الطبقي، ودعاهم، في البدء، إلى الانضمام إلى صفوف النقابات التابعة لاتحاد نقابات العمال اليهود (الهستدروت)، بغية تحويل هذه النقابات من "منظمات قومية" يهودية إلى "منظمات أممية". وعلى الرغم من نجاح الشيوعيين، في مطلع سنة 1926، في تشكيل حركة عمالية يهودية-عربية تحت اسم "حركة إيحود" (حركة الوحدة)، فإن "التناقض القومي" بين العمال العرب واليهود بقي طاغياً على المصلحة الطبقية الواحدة، وظلت الأغلبية الساحقة من العمال اليهود مرتبطة بالمشروع الصهيوني. ومن ناحية ثانية، أعار الحزب الشيوعي الفلسطيني اهتماماً كبيراً للمشكلات التي كان يعاني جرّاءها الفلاحون العرب، ومن أهمها مشكلة طردهم من الأراضي التي يعملون فيها بعد أن يقوم المتمولون الصهيونيون بابتياعها من كبار الملاك العرب، وما كان ينجم عن عمليات الطرد تلك من صدامات بين الفلاحين العرب والمستوطنين اليهود، كالصدامات العنيفة التي اندلعت في قرية العفولة في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 1924.
تداعيات موقف الحزب من اضطرابات البراق
في الأسبوع الأخير من شهر آب/ أغسطس 1929، شهدت فلسطين، في إطار اضطرابات حائط البراق/ الحائط الغربي صدامات عنيفة بين المواطنين العرب والمستوطنين اليهود في عدة مدن فلسطينية، سقط فيها عشرات القتلى والجرحى من الجانبين، وتخللتها اشتباكات مع قوات الشرطة البريطانية. وقد فاجأت تلك الأحداث قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، التي كان جميع أعضائها من اليهود، وجعلتها تتخذ، في البدء، موقفاً سلبياً منها، بذريعة أنها اكتست طابعاً "دينياً" و"عنصرياً"، الأمر الذي دفع السكرتاريا السياسية للجنة التنفيذية للكومنترن إلى انتقاد هذا الموقف، وإرجاعه، في القرار الذي أصدرته في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1929 "حول حركة الانتفاضة في عربستان"، إلى عجز قادة الحزب الشيوعي الفلسطيني عن سلوك نهج واضح باتجاه تعريب صفوفه وتوظيف نشاطه الرئيسي في اتجاه العمال والفلاحين العرب. وقررت قيادة الكومنترن، في ضوء ذلك، إنهاء فترة دراسة بعض الكوادر العربية في "الجامعة الشيوعية لكادحي شعوب الشرق" في موسكو وإعادتهم إلى فلسطين، وكان من أبرزهم محمود الأطرش. وعقب عودتهم، بدأت حملة واسعة للتحضير لمؤتمر حزبي جديد، عقد في مدينة القدس في النصف الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 1930، وانتقد مندوبوه "الأخطاء السياسية" التي ارتكبتها القيادة السابقة للحزب، وانتخبوا لجنة مركزية جديدة ضمت، لأول مرة، أغلبية من الشيوعيين العرب، وانبثق منها سكرتارية حزبية من ثلاثة أعضاء هم نجاتي صدقي ومحمود الأطرش وجوزيف بيرغر. وفي سنة 1934، وبناء على توجيهات جديدة من قيادة الكومنترن، تسلّم رضوان الحلو، وهو أحد الموفدين العرب ما بين سنتَي 1930 و1933 إلى موسكو، منصب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني.
موقف الحزب من الإضراب العام والثورة الكبرى
بعد اندلاع الإضراب العام والثورة الكبرى، تبنت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، في ضوء توجهات المؤتمر العالمي السابع للكومنترن في صيف سنة 1935، سياسة "الجبهة الشعبية الموحدة"، وأصدرت، في 5 حزيران/ يونيو 1936، العدد الأول من صحيفة "الجبهة الشعبية" التي نشرت، في 7 آب/ أغسطس 1936، مبادئ ميثاق الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهي: "النضال الثوري التحريري ضد الاستعمار والصهيونية؛ العمل لاستقلال فلسطين استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية؛ مصادرة أراضي الشركات الصهيونية وأراضي الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين الفقراء توزيعاً عادلاً؛ تأهيل المعامل والفبارك والمواصلات البرية والبحرية والجوية ووضعها تحت سيطرة سلطة الشعب؛ مصادرة كل أملاك وعقار المهاجرين البعيدين." وعقب قيام الحكومة البريطانية بتشكيل لجنة تحقيق ملكية في الأحداث الفلسطينية برئاسة اللورد بيل، رأت قيادة الحزب في هذه اللجنة "خدعة استعمارية"، ودعت الشعب الفلسطيني إلى الرد على هذه السياسة الاستعمارية البريطانية باللجوء إلى التعبئة العامة، وطالبت الشيوعيين بالانخراط في مجموعات الثوار المسلحة، معتبرة أن الحركة الوطنية العربية في فلسطين "لا يمكنها أن تقتصر في نضالها على الإضراب العام، كشكل نضالي وحيد، خصوصاً وأن إضراب الشعب العربي في فلسطين لن يكون شاملاً، كما في سوريا، بسبب الدور التخريبي الذي يلعبه الصهاينة."
الانقسام القومي في صفوف الحزب
تسبب موقف قيادة الحزب هذا من الثورة وقيادتها في بروز خلافات سياسية بين أعضائه العرب واليهود، اتخذت بعداً جديداً بعد قيام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني بتشكيل هيئة تنظيمية باسم "القسم اليهودي"، ولا سيما بعد أن تعزز، في ظروف الثورة، الاستقلال الذاتي والسياسي والاقتصادي، لليهود في فلسطين. وشيئاً فشيئاً، صارت الروابط تضعف بين قيادة الحزب وبين سكرتارية "القسم اليهودي"، الذي راح ينتهج سياسة مغايرة للسياسة العامة التي أقرتها لجنة الحزب المركزية. ففي صيف سنة 1937، أقرت سكرتارية "القسم اليهودي" مبدأ انخراط الشيوعيين اليهود في نشاط المنظمات الصهيونية بغية سلخ "العناصر الثورية" منها، ودعت إلى إقامة "جبهة شعبية" مع بعض القوى والأحزاب الصهيونية "المعتدلة"، معتبرةً أن التجمع الاستيطاني اليهودي "الييشوف" لا يمثّل تجمعاً متجانساً.
وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، اشتدت الخلافات داخل قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني بشأن الموقف من الأقلية اليهودية في فلسطين، إذ اعتبر أعضاء القيادة من اليهود أنه راحت تنشأ في فلسطين وضعية ثنائية القومية، وصارت تبرز، إلى جانب القومية العربية، "قومية يهودية" في طور التكوين. وفي كانون الأول/ ديسمبر 1939، ساهم القرار الذي اتخذته لجنة الحزب المركزية بحل "القسم اليهودي" في تكريس الانقسام القومي داخل صفوفه، وهو الانقسام الذي أفضى بعد سنوات، ولا سيما بعد صدور قرار حل "الكومنترن" في موسكو في أيار/ مايو 1943، إلى انشقاق الشيوعيين العرب وقيامهم بتشكيل تنظيم يساري عربي جديد باسم "عصبة التحرر الوطني في فلسطين"، بينما بقي الحزب الشيوعي الفلسطيني مقتصراً على أعضائه من اليهود.
عصبة التحرر الوطني في فلسطين
أدت الحرب العالمية الثانية إلى تحويل فلسطين إلى محتشد للجيوش البريطانية وإلى قاعدة لتموينها في المنطقة، الأمر الذي دفع الحكومة البريطانية إلى إقامة العديد من المعسكرات والمشاغل وإلى تشجيع قيام العديد من الصناعات المحلية، وهو ما ساعد على زيادة عدد العمال واختفاء ظاهرة البطالة في صفوفهم، وانتعاش حركتهم العمالية النقابية. وترافق هذا التطور مع ظاهرة تنامي الاتجاهات التقدمية والديمقراطية في صفوف الطلاب والمثقفين العرب، الذين شكّلوا، في أيلول/ سبتمبر 1941، "رابطة المثقفين العرب في فلسطين". وبدأت تظهر في مدن فلسطين الرئيسية العديد من النوادي الاجتماعية والسياسية، كنادي "شعاع الأمل" ونادي "الشعب". كما راحت تتشكّل مجموعة من الحلقات والخلايا الماركسية.
وهكذا، كان قد تشكّل في فلسطين، عشية وقوع الانقسام القومي في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، تيار وطني يساري ديمقراطي عريض يبحث عن الأشكال التنظيمية الملائمة لتوحيد قواه. فأعلن الشيوعيون العرب رسمياً، في شباط/ فبراير 1944، ولادة عصبة التحرر الوطني في فلسطين. ومع أن العمال والمثقفين شكّلوا القاعدة التي قام عليها تنظيم عصبة التحرر الوطني، إلا إن استنادها إلى هاتين الفئتين الاجتماعيتين لم يحل دون سعيها لطرح برنامج سياسي يكون متجاوباً، في نظرها، مع مصالح كل الشعب العربي الفلسطيني، الذي كان، بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية، مهدداً في وجوده بفعل تسارع وتيرة تنفيذ المشروع الصهيوني، المدعوم من الاحتلال البريطاني.
وقد حاولت عصبة التحرر الوطني، منذ تأسيسها، أن ترسم حدوداً واضحة بين الصهيونية، من جهة، والسكان اليهود في فلسطين، من جهة ثانية، إذ رفضت ادعاءات الصهيونيين بأنهم يعبّرون عن مصالح كل اليهود، وأكدت أن الصهيونية تتعارض مع مصالح اليهود أنفسهم، وانتقدت، في هذا السياق، مواقف القيادة الوطنية العربية التقليدية التي كانت تعلن دوماً أنها "لا يمكن أبداً أن تعيش بسلام مع السكان اليهود في فلسطين، وأن تؤمن لهم أي حق ديمقراطي من حقوقهم، أو الوصول إلى تفاهم معهم"، محذرة من مخاطر هذه "السياسة غير العملية، التي قد تقود إلى تقسيم فلسطين. وفي المذكرة التي وجهتها إلى هيئة الأمم المتحدة، في آب/ أغسطس 1947، دعت العصبة إلى إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وسحب الجيوش الأجنبية منها وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة، تضمن حقوقاً متساوية لجميع سكانها من العرب واليهود.
وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين الدولي في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، جابهت عصبة التحرر الوطني أوضاعاً شديدة التعقيد. فباستثناء البند المتعلق بإنهاء الانتداب البريطاني، لم ينطوِ قرار التقسيم، في نظر قادتها، على الحل الأمثل للقضية الفلسطينية بل ألحق إجحافاً كبيراً بالشعب العربي الفلسطيني وحقوقه الوطنية فوق أرضه. وبقيت العصبة تعارض قرار التقسيم إلى شهر شباط/ فبراير 1948، عندما قررت أغلبية مندوبي الكونفرانس الذي عقدته في مدينة الناصرة، وانسجاماً مع الموقف السوفياتي المؤيد لذلك القرار، الموافقة عليه وتعزيز النضال في سبيل قيام الدولة العربية الفلسطينية، معتبرة، في بيان أصدرته بعنوان: "والآن... ما العمل؟" وتوجهت به إلى الشعب العربي الفلسطيني، أن قيام هذه الدولة العربية "هو الطريق إلى إنقاذ المشردين [الفلسطينيين] من تشردهم، وهو الطريق للاحتفاظ بحدود فلسطين ضمن وحدة اقتصادية ثابتة ومنع تجزئتها وإضاعة معالمها إلى الأبد، وهو الطريق لأن يحكم الشعب [الفلسطيني] نفسه بنفسه."
وبعد اندلاع الحرب العربية-الإسرائيلية في 15 أيار/ مايو 1948، نظّمت عصبة التحرر الوطني حملة واسعة لإقناع الفلسطينيين بالبقاء فوق أرضهم وعدم النزوح عنها، وعارضت دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، ووجهت في تموز/ يوليو 1948 "نداء إلى الجنود [العرب]" تدعوهم فيه "إلى العودة إلى أوطانهم وتوجيه ضرباتهم إلى المستعمر المحتل وإلى أذنابه"، ثم أكدت في بيان وجهته "إلى الشعوب العربية" في تشرين الأول/ أكتوبر 1948، بالاشتراك مع الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي السوري والحزب الشيوعي اللبناني، أن حكام الدول العربية "لم يعلنوا الحرب لمنع التقسيم، كما زعموا، بل لتنفيذ التقسيم كما تريده بريطانيا." أمّا الحركة الصهيونية، فقد استغلت حرب فلسطين "لتوطيد حكمها والتوسع في القسم العربي، ولتبرر ارتمائها في أحضان الاستعمار الأميركي وفتح المجال لتغلغله الاقتصادي والعسكري في أراضي الدولة اليهودية وفي كل فلسطين".
خاتمة
أسفرت النكبة عن تمزق الكيان الفلسطيني وتوزع الشعب الفلسطيني على عدة مواقع، تميّز كل منها بظروفه الخاصة، الأمر الذي فرض على الشيوعيين الفلسطينييين، أعضاء عصبة التحرر الوطني، الانضواء في أطر تنظيمية متعددة. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 1948، توحّد أعضاء العصبة العرب، الذين بقوا فوق الأراضي التي قامت عليها دولة إسرائيل، مع الشيوعيين اليهود في إطار الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وفي أيار/ مايو 1951، أُعلن تأسيس الحزب الشيوعي الأردني، الذي جمع أعضاء العصبة الذين بقوا في الضفة الغربية مع عدد من الماركسيين الشرق أردنيين، بينما شكّل أعضاء العصبة الذي بقوا في قطاع غزة، في آب/ أغسطس 1953، الحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة.