وزير الخارجية البريطانيّ
يعدّ
كان الوعد على شكل رسالة قصيرة بتاريخ 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 موجّهة من وزير الخارجية البريطاني
"إنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل أقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنّه لن يُؤتى بأيّ عمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
كان وعد بلفور ثمرة جهود مناصري الصهيونية داخل الحكومة البريطانية (بمن فيهم بلفور، ورئيس الوزراء
من منظور استراتيجي، أمل المسؤولون البريطانيون أن يؤدي "النظر بعين العطف" إلى مسألة إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين إلى كسبهم تأييد يهود الولايات المتحدة
و
تمّ إعداد الوعد وصياغته في خضمّ الحرب العالمية الأولى، عندما كانت بريطانيا العظمى و
تناقض وعد بلفور بشكل مباشر مع وعود بريطانيا للعرب، فبعد وقت قصير من صدوره دخلت القوات البريطانية فلسطين واستولت على القدس في كانون الأول/ ديسمبر 1917، ثم لتكمل احتلال البلد مع حلول تشرين الأول/ أكتوبر 1918.وتمّ فرض حكومة عسكرية في فلسطين، الأمر الذي سمح ببدء تكريس دعائم الوطن القومي اليهودي على الأرض وفق وعد بلفور حتى قبل انتداب بريطانيا على فلسطين رسمياً: ففي تموز/ يوليو 1920، أصبح صهيوني معروف هو السير هربرت صموئيل، أوّل مندوب سامٍ في فلسطين، وفي آب/ أغسطس وافقت الإدارة المدنية الجديدة على أوّل مرسوم هجرة يهودية، فشرَّعت بذلك أبواب فلسطين أمام الهجرات اللاحقة.
في هذه الأثناء، أسس
اشتمل صكّ الانتداب على فلسطين، الذي وافق عليه مجلس عصبة الأمم في 24 تموز 1922، على ديباجة و28 مادةً:
أكّدت الديباجة التزام بريطانيا المشروع الصهيوني بالعبارات عينها المبيّنة في وعد بلفور، وبررت ذلك بحجة لم ترد في وعد وزير الخارجية البريطاني وهي اعترافها "بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين". أما بخصوص الإشارة إلى غالبية سكان فلسطين (حوالى 90 في المئة وفقاً للتعداد البريطاني سنة 1922، وكانت من العرب المسلمين والمسيحيين)، فقد كررت الديباجة عبارة "الطوائف غير اليهودية في فلسطين"، ومبدأ عدم الانتقاص من "الحقوق المدنية والدينية" لهذه الطوائف، وأغفلت هي أيضاً ذكر حقوق العرب السياسية أو الوطنية.
مقابل تقييد الحقوق العربية والإشارة إليها باقتضاب في الديباجة، كانت مواد صكّ الانتداب محشوة بالنصوص التي تفصل مسؤوليات بريطانيا المختلفة لرعاية المشروع الصهيوني في فلسطين: فالمادة الثانية جعلت بريطانيا مسؤولة "عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي"، والمادة الرابعة اعترفت بـ المنظمة الصهيونية
(تحت اسم
دخل الانتداب على فلسطين حيز التنفيذ رسمياً في 29 أيلول/ سبتمبر 1923، وأبدى السكان العرب منذ البداية معارضتهم لسياسة بلفور بطرق عديدة، بما في ذلك التظاهرات والاشتباكات العنيفة في نيسان 1920 وأيار 1921. وقد هيمنت معارضة وعد بلفور على جداول أعمال اجتماعات المؤتمر العربي الفلسطيني (الذي عقد في كانون الثاني/ يناير وفي شباط 1919، وفي أيار 1920، وفي كانون الأول 1920، وفي حزيران 1921، وفي آب 1922، وفي حزيران 1923 وحزيران 1928) والوفود التي أرسلها إلى
وفي إطار الرد على التحركات العربية، شلّت الحكومة البريطانية جميع جهود السكان العرب الفلسطينيين الهادفة إلى تحقيق الاستقلال، حيث كانت في الواقع تعتبر أيّ تحرك للحصول على أي تمثيل داخل الإدارة -ولو كان نسبياً- أو امتيازات ربما تعكس شيئاً من إرادة الأغلبية، تنصلاً من التزامها بمشروع بناء وطن قومي لليهود في فلسطين.
وبقي التوتر الناتج عن التلكؤ البريطاني في المساعدة على "تقرير المصير" الذي وعدت به عصبة الأمم، والتفضيل الذي يبديه الانتداب للتطلعات القومية الخاصة بأقلية غريبة إلى حدّ كبير، مصدراً دائماً للصراع وعدم الرضا طوال فترة الانتداب، تماماً كما التحوّل الذي أحدثه تدفّق المهاجرين اليهود وتطوير المؤسسات الصهيونية. وبينما تلقت المناطق الأخرى الخاضعة للانتداب البريطاني استقلالاً اسميّاً (العراق في سنة 1932 والأردن في سنة 1946)، وضع الانتداب في فلسطين بنًى أتاحت للحركة الصهيونية الهيمنة على السكان الأصليين، ما جعلهم في عام 1948 يذوقون التشرد والطرد بدلاً من الاستقلال.
إذا كان للعرب واليهود أن يتفقوا يوماً على شيءٍ، فعلى الأهمية الحاسمة لوعد بلفور بالنسبة إلى كليهما، ففي حين يستعيد العرب في جميع أنحاء فلسطين منذ سنة 1918، يوم 2 تشرين الثاني (يوم "وعد بلفور") كيوم حداد، ويسيِّرون فيه التظاهرات وينظمون الإضرابات العامة ويفجّرون الثورات (وضع القمع البريطاني لثورة 1936 حداً لها)، يعتبر المجتمع اليهودي في فلسطين هذا اليوم عيداً وطنياً، ويحتفلون به منذ سنة 1918 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية .
ونظراً إلى ما كان يكتنف المشروع الصهيوني في سنة 1917 من احتمالات تعثر، وإلى الوقائع على الأرض، لسنا نبالغ لو قلنا إنه لولا وعد بلفور لما وُجِدَت إسرائيل.