في 8 كانون الأول/ ديسمبر، يتسبّب اصطدام ناقلة دبابات تابعة للجيش الإسرائيليّ بسيارات فلسطينيّة شمال قطاع غزة
بمقتل أربعة عمال فلسطينيّين، ما يفجّر في اليوم التالي ثورة شعبيّة كانت أماراتها تتجمع منذ كانون الأول 1986. يعتبر 9 كانون الأول 1987 يوم اندلاع ما سيُصطلح على تسميته بـ"
شهدت الفترة الممتدة بين سنتي 1987 و1993 اندلاع الانتفاضة الأولى والتبدّلَ الأساسي الناجم عنها في تفكير كل من الإسرائيليين والفلسطينيين حول النزاع وحله السلميّ، كما شهدت الفترة ذاتها غزوَ العراق الكويت سنة 1990 والحرب التي تلته بقيادة الولايات المتحدة في أوائل سنة 1991، الأمر الذي أدى إلى رجحان واضح في ميزان القوى في المنطقة لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية، وهو كان مختلاًّ أصلاً إثر انهيار الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي. أما إحدى نتائج هذه التطورات جميعاً، فكانت بداية المحادثات وجهاً لوجه بين العرب وإسرائيل منذ اتفاقية كامب ديفيد في سنة 1979.
اندلعت الانتفاضة الأولى يوم التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 1987، عندما صدمت شاحنة إسرائيلية عدداً من الفلسطينيين في غزة وقتلتهم، فتفجرّت على الفور احتجاجات غاضبة، ثم اتسع نطاقها شيئاً فشيئاً لتتحول في وجه قوات الاحتلال تمرداً مدنياً هائلاً سرعان ما انتشر إلى الضفة الغربية. وردّت القوات الإسرائيلية على مجموعات الشبان رماة الحجارة بالضرب وحظر التجول والاعتقالات الجماعية واستخدام القوة القاتلة، إلا أنها فشلت في وقف الاحتجاجات.
وبهدف تأمين الدعم الشعبي للانتفاضة وتوفير الخدمات الاجتماعية لها، نشأت في بلدات الضفة الغربية وقطاع غزة كافة لجان محلية كانت ناشطة لسنوات في المجتمع المدني. وانتشر العصيان المدني، بما في ذلك الإضرابات، ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية، ورفض دفع الضرائب الإسرائيلية، الذي أعطى بعداً إضافياً للمقاومة الجماعية للاحتلال الإسرائيلي.
وعلى رغم أن الانتفاضة، باندلاعها وبحجم الدعم الشعبي لها، جاءت مفاجئة وعفوية في بدايتها، إلا أنها كانت موضوعياً ذروة عملية تراكمية لنشاط المجتمع المدني، والإضرابات، والتظاهرات، والتعبئة المتصاعدة ضد ممارسات إسرائيل في المناطق المحتلة، وخصوصاً في الأشهر الاثني عشر السابقة. ومع استمرار الانتفاضة حتى سنة 1989، أصبح واضحاً لإسرائيل أن أساليبها التقليدية للسيطرة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لم تعد تُجدِ شيئاً، كما بات الجمهور الإسرائيلي يعي بشكل متزايد التكاليف المالية والاستراتيجية الباهظة التي تنتظره لحكم شعب متمرد.
وفي ما يخص منظمة التحرير الفلسطينية، فقد كشفت عفوية الانتفاضة عن أمرين أساسيين: أولاً أنه لم يعد ممكناً لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة الذين يكابدون عنت الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر وصلفه، انتظار منظمة التحرير الفلسطينية لنجدتهم من خارج الوطن. وثانياً نشوء جيل جديد في الأراضي المحتلة من القادة المستقلين نسبياً عن المنظمة، المرتبطين بها "أيديولوجياً" فقط، والذين على رغم تنسيقهم معها لم يكونوا يخضعون لأوامرها المباشرة.
كانت سنة 1988 محورياً للانتفاضة ولمنظمة التحرير الفلسطينية في آن، ففي 8 كانون الثاني/ يناير أصدرت لجنة تنسيق سمّيت "القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة" بيانها الأول، وكانت مشكَّلة بداية من "فتح" و"الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين"، لينضم إليهما خلال أيام ممثل عن "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ثم عن "الحزب الشيوعي الفلسطيني" [أصبح فيما بعد حزب الشعب] في آذار/ مارس، فغدت الهيئة –التي كانت تمارس العمل السري- رباعية، وانحصرت مهمتها في توجيه الانتفاضة من خلال بيانات دورية في الداخل، وتنسيق سياساتها مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وخصوصاً مع القيادي في حركة "فتح" خليل الوزير (أبو جهاد)، الذي أرسلت إسرائيل قوات كوماندوس لاغتياله في سيدي بو سعيد- تونس في 16 نيسان/ أبريل 1988، اعتقاداً منها أنه المسؤول عن توجيه الانتفاضة.
وشهدت بداية الانتفاضة انعطافاً لدى جماعة "الإخوان المسلمين" في غزة بإنشاء ذراعها العسكرية الموجهة ضد إسرائيل، ففي 18 كانون الأول/ ديسمبر 1987 أعلن بيانٌ إقامةَ "حركة المقاومة الإسلامية" (عُرفت بعدها بـ"حماس")، التي صرحت خلال شهرين من انطلاقتها (في شباط/ فبراير 1988) عن انتمائها الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين، وفي شهر آب/ أغسطس 1988 أصدرت "ميثاقها"، الذي دعا إلى "التحرير الكامل لكل فلسطين وإلى رفض المفاوضات".
مثّل تغريد "حماس" خارج سرب منظمة التحرير الفلسطينية تحدياً للأخيرة، وعلى رغم موافقة "حماس" في تشرين الأول/ أكتوبر 1988 على العمل مع القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، إلا أنها لم تنضمّ رسمياً إليها، واستمرت في إصدار بياناتها الخاصة التي تدعو إلى الإضراب والتظاهر والتحرك الميداني بمعزل عن بيانات القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة.
دبلوماسياً، أدّت الانتفاضة إلى تغييرات أساسية على المستويين الإقليمي والدولي، فبعد انكشاف عمق التعاطف المؤيّد لمنظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية، قطع العاهل الأردني الملك حسين رسمياً كل العلاقات الإدارية مع الضفة الغربية في 31 تموز/ يوليو 1988، متنازلاً عن المسؤولية في ذلك إلى منظمة التحرير. وفي 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، أعلن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر العاصمة، استقلالَ الدولة الفلسطينية على أساس قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، ثم أتبع الأمر بوثيقة ثانية أعلن فيها قبوله قراري مجلس الأمن الرقم 242 والرقم 338. في الشهر التالي، أكد عرفات في 14 كانون الأول/ ديسمبر مجدداً رفضه الإرهاب، فأعلنت الولايات المتحدة على الأثر أنها بدأت للمرة الأولى حواراً مع منظمة التحرير الفلسطينية.
واستمر الحوار الأميركي الفلسطيني حتى 20 حزيران/ يونيو 1990، حين تم قطعه من الأميركيين عقب عملية فاشلة ضد إسرائيل قامت بها مجموعة من "جبهة التحرير الفلسطينية" المدعومة من العراق.
وبينما استمرت انتفاضة الشعب الفلسطيني، قام العراق بغزو الكويت واحتلالها في 2 آب/ أغسطس 1990، فدعمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية المبادرة التي تقدم بها الرئيس العراقي صدام حسين، في 12 آب/أغسطس، بخصوص الربط بين حل أزمة الخليج وحل أزمة الشرق الأوسط، وقدّم عدد من الشخصيات البارزة في منظمة التحرير الفلسطينية آراء مختلفة حول احتلال الكويت وما تبعه من تحريرها الذي قادته الولايات المتحدة بدءاً من كانون الثاني/ يناير 1991، لكن ذلك لم يمنع اعتبار العالم منظمة التحرير داعمة للرئيس العراقي صدام حسين، فقطعت المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى دعمها المالي للمنظمة، وحدثت عمليات طرد "انتقامي" لمئات آلاف السكان الفلسطينيين من الكويت بعد تحريرها، ما زاد في تدهور أوضاع المنظمة، التي تلقت ضربة قوية أخرى أثناء أزمة الخليج، عندما اغتال فلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) في تونس، في 11 كانون الثاني/ يناير 1991.
في أعقاب حرب الخليج، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، قرر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مكافأة التحالف العربي ضد العراق واستخدام النفوذ الأميركي المتزايد في المنطقة لمحاولة حل النزاع العربي- الاسرائيلي دبلوماسياً، فقام وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر بعدة جولات إلى الشرق الأوسط لوضع الأسس لعقد مؤتمر للسلام بمشاركة إسرائيل والدول العربية وفلسطينيين لا ينتمون إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وفي ذلك السياق، أجازت المنظمة، المحجّمة نتيجةَ حرب الخليج، لمجموعة من الشخصيات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة أن تقابل في ربيع وصيف 1991 الوزير بيكر، الذي وضع صيغة لمؤتمر دولي للسلام مقبولة من إسرائيل ويكون المندوبون الفلسطينيون (المعيّنون برضى منظمة التحرير) فيها جزءاً من وفد أردني- فلسطيني مشترك، ويتم بموجبها التفاوض بشأن حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة خمس سنوات. وفي 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1991، افتتِحَ مؤتمر مدريد تحت رعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (قبل شهرين من تفككه حينها).
أدى مؤتمر مدريد والجولات التفاوضية المتتالية التي عقدت في واشنطن في الأشهر اللاحقة، إلى تحسّن صورة الفلسطيني في العالم وتقوية هويته الفلسطينية، ما أدى إلى انفصال الوفد الفلسطيني في كانون الثاني/ يناير 1992 عملياً عن الوفد الأردني، وبدئه محادثات مباشرة مع الإسرائيليين، وأصبحت علاقة الوفد بقيادة منظمة التحرير وتنسيقه معها مرئيَّيْن أكثر فأكثر. لكن الفجوة بين مطالب الوفد الفلسطيني وبين المواقف الإسرائيلية بقيت واسعة حتى إثر انتصار حزب العمل بقيادة يتسحاق رابين في انتخابات حزيران/ يونيو 1992. وجاء إبعاد أكثر من 400 ناشط من حماس والجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان في كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام، ليذكّر بأن ما هو مطلوب لحل جدي للقضية الفلسطينية هو أكبر بكثير مما نصت عليه مرجعية مؤتمر مدريد.
وشهد شهر كانون الثاني/ يناير 1993 بداية قناة تفاوض سري قاد في صيف 1993 إلى اتفاق، لكنه ليس بالضرورة ذاك الاتفاق الذي من شأنه أن يهيئ لحل مُرْضٍ للفلسطينيين.