لجأ الفلسطينيون، خلال فترة الانتداب، إلى المذياع للاستماع إلى برامج العديد من محطات الإذاعة الأوروبية، وبعض المحطات العربية، بالإضافة إلى محطة الإذاعة الفلسطينية التي تديرها الحكومة، ومحطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية، الأقل رسمية، والتي كانت تديرها وزارة الخارجية البريطانية. وعلى الرغم من أن قلّة من الفلسطينيين الناطقين بالعربية كانت تمتلك مذياعاً حينها، فإن الأخبار والبرامج الترفيهية في هذه الإذاعات وغيرها كانت جزءاً رئيسياً من المشهد السمعي.
تاريخ المحطة
في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، بدأت حكومة الانتداب البريطانية في فلسطين، والحكومة البريطانية، التخطيط لإنشاء محطة إذاعية على الموجة المتوسطة تابعة للدولة في فلسطين، وتم حجز التردد في مؤتمر الإذاعات الأوروبية سنة 1933 في لوسيرن. تصوّر المسؤولون الإذاعة الفلسطينية نسخة مصغّرة عن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وأبرزوا أهميتها إلى لجنة الانتدابات الدائمة التابعة لعصبة الأمم، كجزء من التزام بريطانيا دعم مسار فلسطين نحو الاستقلال.
انطلق عمل المحطة في نهاية آذار/ مارس 1936، ببرامج ترفيهية، وموسيقية، وإخبارية، وكانت جميع البرامج وفرق العمل مقسّمة إلى ثلاثة أقسام: العربية والعبرية والإنكليزية. وكما العديد من محطات تلك الفترة، عملت إذاعة فلسطين بضع ساعات فقط يومياً، وتوسّعت من فترة واحدة تمتد ما بين 4 إلى 5 ساعات في نيسان/ أبريل 1936، إلى فترة مدة كل منها 9-11 ساعة خلال الحرب العالمية الثانية، ليتقلص عدد فترات البث بالتدريج إلى ثلاث، صباحية، وما بعد الظهر، ومسائية، مدتها في المجموع 5-7 ساعات في اليوم، وذلك بحلول أيلول/ سبتمبر 1947. وعلى الرغم من أن نسبة زمن البث باللغة الإنكليزية زادت خلال الحرب، فإن البرامج العربية حظيت بأطول زمن للبث عموماً. ففي 6 أيلول/ سبتمبر 1943، على سبيل المثال، بثت الإذاعة الفلسطينية برامجها على مدى 10 ساعات، كان ما يقرب من 4-5 ساعات منها باللغة العربية.
اندلعت الثورة العربية الكبرى بعد أقل من شهر على إطلاق الإذاعة الفلسطينية، وهو ما أدى إلى تعقيد عمل المحطة، واتساع اهتمام المستمعين الذي رافقه أيضاً شعور بالإحباط لإحساسهم بأنها لم تقدّم سوى معلومات محدودة عن الوضع في فلسطين. غير أن عدد مستمعي المحطة، لجميع لغات البث، ارتفع في أواخر الثلاثينيات، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى السمعة الطيبة للفلسطينيين الذين عملوا في القسم العربي بإشراف إبراهيم طوقان، بالإضافة إلى زيادة عدد المقاهي، والبيوت، والمَضافات في القرى، وغيرها من الأماكن التي توفّرت فيها أجهزة المذياع. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ازداد الإشراف الحكومي البريطاني المباشر على المحطة، وازداد معه بالتالي التحكّم في المحتوى الإخباري، وأصبحت نشرات الأخبار تُذاع بمختلف لغات جنود الحلفاء المتمركزين في المنطقة، في حين أن البرامج الترفيهية الموجهة إليهم كانت تُبث بالإنكليزية. ومرة أُخرى، استمر القسم العربي -بإدارة عجاج نويهض حينها- في جذب المستمعين ببرامجه القومية المعَدّة بعناية، والتي تضمّنت أحاديث تاريخية، وبرامج عن المرأة، والدين، والموسيقى. ومع انتهاء الحرب، قدّمت المحطة برامج جديدة، واتبعت خططاً توسعية، فأضافت جهاز إرسال ثانٍ في كانون الأول/ ديسمبر 1945، فبات في الإمكان بث البرامج العربية والعبرية في الوقت نفسه على ترددات منفصلة. وقدّم عزمي النشاشيبي، الذي ترك مكتب الإعلام الحكومي الانتدابي ليصبح مديراً للقسم العربي خلال السنوات الأخيرة من عمر المحطة، برامجَ جديدة مثل برنامجه "بيني وبين المستمعين". كما أنه أمضى عدة أشهر في سنة 1946 في مقرّ إذاعة بي بي سي (B.B.C.) في لندن ليجلب إلى إذاعة فلسطين التقنيات والرؤى البرمجية المناسبة.
واصلت الإذاعة بثها حتى نهاية الانتداب، على الرغم من ازدياد الخلافات بشأنها. وفي سنواتها الأخيرة، وُضعت تحت الحراسة العسكرية لمنع الجماعات الصهيونية المسلحة من الاستيلاء على مرافقها.
برنامج المحطة
يبدو أنه لم يكن لدى المسؤولين البريطانيين في فلسطين والمملكة المتحدة سياسات واضحة ومتماسكة بشأن المحطة، على الرغم من كونها قد أُنشئت بمبادرة بريطانية، باستثناء قناعتهم بضرورة وجود ثلاثة أقسام لغوية منفصلة تبث إلى المجتمعات التي اعتبرتها الحكومة البريطانية مميزة ومنفصلة. وكان همهم الأكبر هو تأثير البرامج الإخبارية – وخصوصاً الأخبار التي تذيعها محطات معادية مثل راديو باري الإيطالي. وترافق شعور الحكومة البريطانية بأنها غير قادرة على بث المشاعر المؤيّدة لبريطانيا على محطة الإذاعة الفلسطينية -وهو ما أدى جزئياً إلى إنشاء إذاعة بي بي سي العربية في سنة 1938- مع القلق الكبير الناتج من المخاوف السياسية الانتدابية بشأن الأخبار التي تبثها المحطة، فاقتصرت نشرات الأخبار على خمس أو عشر دقائق في كل لغة، مرة أو مرتين في كل فترة بث.
نتيجة ذلك، شكّلت البرامج الثقافية والتعليمية والترفيهية والدينية الجزء الأكبر من وقت بث المحطة. يوضح جدول برامج يوم 4 كانون الثاني/ يناير 1940 المأخوذ من جريدة "فلسطين" نسبة الوقت المخصص للموسيقى، والأحاديث، والأخبار.
4 كانون الثاني 1940:
1:30 : إشارة الوقت ثم موسيقى عبرية
1:40 : نشرة الأخبار الأولى بالعبرية
1:45 : إشارة الوقت
1:50 : برنامج ما يطلبه المستمعون العرب - أسطوانات
2:00 : إشارة الوقت ثم نشرة الأخبار الأولى بالعربية
2:10 : برنامج موسيقى أوروبي أسطوانات
2:20: نشرة الأخبار الأولى بالإنكليزية
2:30: إشارة الوقت وختام
برنامج المساء
5:00: إشارة الوقت ثم برنامج عبري
البرنامج العربي
6:15 : حفلة غناء بلدي - محمد الحفني وفرقة الإذاعة العربية
6:30 : ديالوجات فكاهية - حسين ونعمات المليجي - أسطوانات
6:40: حفلة غنائية - فهد نجار وفرقة الإذاعة العربية
6:55 : المجتمع البدوي - (4) حديث لأمير اللواء غلوب باشا
7:10 : حفلة غنائية - يحيى السعودي وفرقة الإذاعة العربية
7:30: النشرة الجوية ثم نشرة الأخبار الثانية بالعربية
7:45 : إشارة الوقت
8:00-9:00: البرنامج العبري [فعلياً الساعة 9:00]
البرنامج الإنكليزي
9:30: النشرة الجوية ثم نشرة الأخبار الثانية بالإنكليزية
9:50: موسيقى أوروبية
10:00 : ختام
وتُظهر قائمة البرامج هذه تصوّر الجريدة بشأن مستوى الاهتمام الذي يوليه قراؤها لبرامج إذاعة فلسطين بمختلف اللغات. فقد افترضت أن يكونوا أكثر اهتماماً بالبرنامج العربي، مع اهتمام أقل بكثير بالبرنامج الإنكليزي، وأقل منه بالبرنامج العبري. (عرضت جريدة Palestine Post جدول برامج أقسام المحطة الثلاثة بالتفصيل؛ على سبيل المثال، عند الساعة 5:30 مساءً، وخلال الساعة العبرية المخصصة للأطفال سيتم بث برنامج "الكشّافة في المخيم"، وعند الساعة 9:15 مساءً، سيتضمن البرنامج الإنكليزي بثاً لموسيقى باليه "البهجة الباريسية" (Gaîté parisienne) التي عزفتها أوركسترا لندن الفيلهارمونية.) فيما عدا هذه الافتراضات، من الصعب معرفة عدد الأشخاص الذين استمعوا إلى برنامج محدّد عند بثه، كما أنه من الصعب معرفة عدد الأشخاص الذين استمعوا إلى برامج إذاعة فلسطين بلغاتها الثلاثة -فربما تُرك المذياع مفتوحاً على المحطة على أمل الاستماع إلى الموسيقى، أو ربما تم الانتقال إلى محطة أُخرى.
المستمعون وتأثير المحطة
يشكّل تحديد حجم الجمهور تحدياً لوسائل البث الإعلامي. وقد اتبعت حكومة الانتداب النهج البريطاني بفرض رسوم ترخيص سنوية على مالكي أجهزة المذياع. لم يكن ذكر الهوية مطلوباً في الاستمارة، لكن كان في الإمكان ملؤها بالعربية أو الإنكليزية أو العبرية، فكان هذا، على ما يبدو، البديل الذي يتيح تحديد هوية طالب الترخيص، إن كان عربياً فلسطينياً، أم بريطانياً، أم يهودياً. وقد ارتفع إجمالي عدد التراخيص المُبيعة كل سنة من 20.338 إلى 115.334 ترخيصاً، وذلك خلال الفترة 1936 و1947. وكانت جريدة Palestine Post، الموالية للتجمع اليهودي في فلسطين، تذكر باستمرار في تقاريرها الصادرة خلال تلك الفترة أن أجهزة المذياع المرخّصة مملوكة لليهود بنسبة 75-80 في المئة. لكن هذه النسبة لا تعكس نسبة المستمعين الإجمالية بحسب هويتهم. فمن جهة، لم يكن هناك تقدير لعدد الأجهزة غير المرخصة المستخدمة. ومن جهة أُخرى، لم يكن هناك توافق على عدد الأشخاص الذين يستمعون إلى كل جهاز في المتوسط. لكن من الممكن التخمين، بشأن أي برنامج بث معين، أن 2-8 أشخاص قد استمعوا إليه عبر مذياع موجود في منزل، و10 أشخاص أو أكثر في مضافة قروية أو مكان عمل، و20 شخصاً أو أكثر في مقهى، أو مدرسة، أو أي مكان عام آخر. وهكذا، مع أن أقلية صغيرة من العرب والفلسطينيين الناطقين بالعربية كانت تمتلك أجهزة مذياع، إلاّ إن عدداً أكبر بكثير كان في مقدورهم الاستماع إلى الإذاعة، وإن لم يكن لديهم إمكان اختيار البرنامج أو المحطة التي يستمعون إليها. وكانت إذاعة فلسطين إحدى الخيارات العديدة المتاحة لمالكي أجهزة المذياع في فلسطين، الذين كان في إمكانهم الوصول إلى 15-25 محطة متوسطة الموجة، العديد منها يبث من أوروبا والباقي من جميع أنحاء المنطقة: بوخارست، والقاهرة، وليون ووارسو، وزيسن (ألمانيا)، بالإضافة إلى خدمة بي بي سي ، وبي بي سي العربية.
الفلسطينيون في محطة الإذاعة الفلسطينية
اجتذبت الإذاعة الفلسطينية العديد من الشخصيات الفلسطينية والإقليمية اللامعة كمذيعين ومديرين للمحطة. وتم توظيف البعض، مثل إبراهيم طوقان وعجاج نويهض، على الرغم من معارضتهم حكومة الانتداب. وهناك آخرون، مثل أكرم الحسيني الذي عمل مذيعاً في القسم العربي حتى سنة 1939، أغضبوا الحكومة، فتم فصلهم من العمل. وآخرون، مثل خليل السكاكيني - الذي رفض العمل في المحطة واستلام المنصب الذي شغله لاحقاً إبراهيم طوقان، ودان استخدام القسم العبري عبارة "أرض إسرائيل" في تعريف المحطة- أصبحوا أكثر دعماً للمحطة مع مرور الوقت، وقدّموا أحاديث إذاعية فيها أوائل الأربعينيات.
قدّم المؤرّخ المعروف عبد اللطيف الطيباوي أحاديث حول التاريخ الفلسطيني والعربي. وقاد الموسيقي السوري جميل عويس فرقة التخت الشرقي في المحطة، بينما عمل كلٌّ من واصف وتوفيق جوهرية عازفَين فيها. وعمل في المحطة كذلك الشاعر المعروف عبد الكريم الكرمي، وأسمى طوبي، عضو الاتحاد النسائي الفلسطيني في عكا خلال الثورة العربية الكبرى، التي قدّمت برنامجاً أسبوعياً موجهاً للنساء. كما اكتسبت شخصيات أُخرى شهرتها من خلال العمل في المحطة، مثل الكاتب المسرحي نصري الجوزي، وقدسية خورشيد التي قدّمت أحاديث عن الإسلام موجَّهة إلى النساء والفتيات. وعمل موسيقيون لبنانيون وسوريون مثل يحيى لبابيدي فيها، لكن معظم مذيعيها وموسيقييها ومسؤوليها كان من الفلسطينيين، وشكّلت الموضوعات والأنماط الفلسطينية جوهر الموسيقى، والأحاديث، والبرامج الترفيهية في القسم العربي، وكثيراً ما تم استعمال اللهجات الفلسطينية، وخصوصاً في الأغاني.
وإلى جانب راديو القاهرة، وبدرجة أقل محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية وإذاعة بي بي سي العربية، أدت محطة الإذاعة الفلسطينية دوراً حاسماً في جعل الإذاعة منصة رئيسية للمثقفين، والكتاب، والشعراء، والموسيقيين، والمطربين في العالم العربي.
إرث المحطة
بعد انتهاء الانتداب رسمياً، أصبحت محطة الإذاعة الفلسطينية تحت سيطرة مزدوجة. فقد استولت الحكومة الإسرائيلية الوليدة على محطة البث في القدس، وتسلّم الأردن أجهزة الإرسال، والمعدّات الهندسية، ومرافق البث في رام الله. ووجد مسؤولو المحطة والمذيعون والموسيقيون الفلسطينيون وظائفَ في الأردن ولبنان وسورية -مثل حازم نسيبة، الذي عمل في محطة رام الله وانتقل لاحقاً للعمل في الحكومة الأردنية، والملحن وعازف الأرغن سلفادور أرنيتا، الذي حصل على عمل في الجامعة الأمريكية في بيروت. وعلى الرغم من توقّف المحطة عن البث المباشر في إثر النكبة، فلم ينقطع تأثير موظفيها السابقين في التطورات الثقافية والموسيقية والأدبية في جميع أنحاء بلاد الشام.