مرّ الملصق الفلسطيني بعصر ذهبي في الفترة الممتدة من أوائل ستينات القرن العشرين حتى سنة 1982، وهي الفترة التي شهدت عودةَ انبثاق الهوية الفلسطينية بعد اختفائها عن الأنظار في إثر النكبة، وتأسيسَ منظمة التحرير الفلسطينية، والتعبئةَ الدولية المناهضة للإمبريالية من أجل دعم "الثورة" الفلسطينية. تُجسِّد هذه الفترة، فضلاً عن محوريّتها وفرادتها، واحدة من مراحل تاريخ الفنون الغرافيكية الفلسطينية التي تميّزت بتشعّب مساراتها منذ عهد الانتداب، حينما كانت الملصقات تُستخدم كوسيلة إعلانية وكأداة سياسية، وصولاً إلى حقبة ما بعد أوسلو، عندما عادت الملصقات كوسيلة إعلان مع تهميش دورها كحاملٍ لرسائل سياسية.
تختلف دراسة الملصقات عن سواها من الفنون الفرعية في تاريخ الفن، لأن الملصقات هي عبارة عن تقاطع بين العمل الفني وصناعة الإعلان. فالملصق وسيلة يتم إنتاج طبعات متسلسلة منها عن طريق طباعة الأوفست، والطباعة اللوحية (الليتوغرافيا)، والطباعة على القماش (السيريغرافيا)، ولا يمكن لتلك الوسيلة أن تحقق ربحاً مادياً كالعمل الفني. مع ذلك يمكن للملصق أن يكون إنجازاً متقناً مثله كمثل أي عمل فني، ونظراً لطابعه التسلسلي فإن أساليب ترويجه تجعله في بعض الأحيان أشد تأثيراً وتمرّداً. تحظى الملصقات بمكانة خاصة في عوالم الممارسة الفنية النضالية السياسية، لأن الفنانين يعتبرونها مثالاً عن التعبير الإبداعي الموجَّه نحو التعبئة الشعبية. وفي أعراف تصميم الملصق، يجب أن يخاطب المركَّبُ البصري وعناصرُ الرسم المخيلةَ الجمعية، وذلك عبر استخدام الرموز المعروفة على نطاق واسع، والتباينات الشديدة، وإضفاء الأسلوب الخاص للفنان.
خلال فترة الانتداب البريطاني، كانت معظم الملصقات تُنتج من أجل الدعاية والتسويق. ولكن بمناسبة المعرض العربي الثاني الذي أُقيم في القدس سنة 1934، صدرت سلسلة من الملصقات والطوابع البريدية التي تصوّر معالم القدس (لا سيما المسجد الأقصى)، وذلك بهدف تجسيد الدعم العربي للنضال الوطني الفلسطيني. وصدرت سلسلة أخرى خلال الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936، مع استمرار التركيز على المعالم الرئيسية، لكن أحد الطوابع حمل رسماً لخريطة فلسطين. السلسلة الثالثة صدرت سنة 1938، وكانت طبعات المعالم ممهورة بشعار "فلسطين للعرب" (بعد عقود أعادت منظمة التحرير الفلسطينية طباعة مجموعة طوابع من تلك الفترة. واستمر استخدام الرسومات المعبِّرة عن المعالم بأساليب وإصدارات مختلفة، وكانت في بعض الأحيان شبيهة جداً بالإصدارات الأولى المنقوشة على الطوابع البريدية.)
أحدثت النكبة حالة قطعاً جذرياً، بحيث بات شبه مستحيل الكشف عن مخزون من الجمال الغرافيكي الدفين، وافتراض انتقال الخبرة الفنية من جيل إلى جيل. سنة 1955 بدأ مكتب بيروت لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) طباعة ملصقات باستخدام تقنية الشاشة الحريرية. وكانت الملصقات الأولى من تصميم الفنان الفلسطيني جميل شمّوط، وقد أُعدّت من أجل نشر الإرشادات الخاصة بالصحة العامة وقضايا الرعاية الاجتماعية الأخرى في وسط اللاجئين. كما بدأ إسماعيل شمّوط (1930- 2006) شقيق جميل، بتصميم الملصقات، وبعدها تولّى في سنة 1965 رئاسة قسم الثقافة الفنية في دائرة الإعلام والتوجيه القومي (التي باتت تُعرف فيما بعد باسم دائرة الإعلام والثقافة) الذي أنشأته منظمة التحرير بعد تأسيسها. قام شمّوط بتصميم أول مجموعة ملصقات لم يسبق أن صدر مثلها، ضمّت أربعة، هدفها الإعلان بأبسط الطرق أن منظمة التحرير الفلسطينية هي ممثّل الشعب الفلسطيني، وأنها كيان سياسي منبثق من الجماهير. وقد حملت عبارة "كلنا أبناء فلسطين". وأُعيدت طباعة التصاميم نفسها سنة 1967 مع عبارة جديدة تقول "كلنا للمقاومة".
كانت أواسط ستينات القرن العشرين، هي الفترة التي شهدت أغزر إنتاج للملصقات. عندما نقلت منظمة التحرير مقرّها إلى بيروت، استقطبت الكثير من الفنانين والمثقفين المتمرّدين والموهوبين والمبدعين. البعض منهم تبرّع بأعماله، وآخرون تقاضوا أجوراً، وهناك من كانوا موظفين مهمتهم تنظيم الفعاليات وإدارتها. وقد قاموا بإنتاج وترويج الأفلام والصور الفوتوغرافية والتحقيقات الصحفية والكتيّبات، غير أن الملصق كان وسيلة الاتصال البصري والأيقونوغرافي الأشد فعاليّة، والأخف وزناً، والأقل تكلفة. كانت دائرة الإعلام والثقافة مكلّفة بإنتاج الملصقات، ومثلها كان مكتب الإعلام الموحّد، والاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين، ووحدة الفيلم الفلسطيني، والفصائل الفلسطينية في منظمة التحرير، لا سيما الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بالإضافة إلى ذلك، كان الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي تأسس سنة 1955، يستخدم الملصقات من أجل تعبئة الطلاب في جامعات الدول التي كانت فروعه منتشرة فيها.
قائمة الفنانين والشعراء العرب الذين ساهموا في إنتاج الملصقات مثيرة للإعجاب، منهم: محي الدين اللباد (1940- 2010)، وحلمي التوني (1934- )، وعدلى رزق الله (1939- 2010) من مصر؛ ضياء عزاوي (1939- )، وكاظم حيدر (1932- 1985) من العراق؛ محمد مليحي (1936- )، ومحمد شبعة (1935- 2013) من المغرب؛ نذير نبعة (1938- 2016) من سوريا. معظم الفنانين الفلسطينيين الذي مارسوا الرسم خلال تلك الحقبة رسموا ملصقات، ومن بينهم على سبيل المثال، سمير سلامة (1944- 2018)، وجمانة الحسيني (1932- 2018)، ومنى السعودي (1945- )، وكمال بلاطة (1942- 2019). وبدورهم، وجد الفنانون عالماً مؤسّساتياً، إضافة لكونه مصدر دخل، جرّبوا فيه بشكل فنيّ مفردات بصرية جديدة، وشاركوا في مشروع سياسي قام بتحفيز المخيّلة الشعبية. لم يكن هناك توجيهات جماليّة، فكوادر منظمة التحرير المكلفين بأمر الملصقات لم يكونوا واعظين ولا عقائديين. كان هناك خطوط حمراء واضحة بالنسبة لمنظمة التحرير، تَشاركها إلى حد كبير الفنانون فيما بينهم، وهي بالتحديد انتهاك قدسية الرموز الدينية أو إظهار المعاداة للسامية، سواء عن طريق اللغة أو الأيقونوغرافيا.
تولّت قيادة المنظمة رعاية التضامن الدولي المناهض للإمبريالية بفاعلية. فقد عبّأت قصة حركة تحرّر وطني مخيلةً إبداعيةً عابرةً للحدود القومية منذ نهاية الستينات. فكان عزّ الدين القلق، ممثّل منظمة التحرير في فرنسا (1972- 1978)، يحرص بشكل خاص على التواصل مع الفنانين الموجودين في فرنسا، وقد جمع كلّ الملصقات التي أُنتجت عن النضال الفلسطيني. اغتيل القلق في باريس سنة 1978، وتكريماً له أصدرت منظمة التحرير مختارات من مجموعته في كتاب. أما عبد الله حجازي، ممثّل منظمة التحرير في بولندا في ثمانينيات القرن العشرين، فقد كان ينظّم مسابقة سنوية يدعو إليها الفنانين البولنديين من أجل إنتاج ملصقات تمثّل النضال الفلسطيني. وأحد أشهر الملصقات "الفلسطينية" ملصق على شكل ظرف رسالة بريد مطبوع عليه اسم "فلسطين" وممهور بختم يقول "يُعاد إلى المرسِل، لا يوجد عنوان كهذا"، وهو من تصميم الرسام البولندي جاك كوالسكي سنة 1979. وكذلك كان فتحي عبد الحميد، ممثّل منظمة التحرير في اليابان في الفترة نفسها، يدعو الرسامين اليابانيين لتصميم الملصقات.
جسّدت الملصقات، التي أُنتجت خلال فترة وجود مقرّ منظمة التحرير في بيروت في سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن العشرين، شعارات وأهداف الثورة الفلسطينية. فقد أظهرت اللاجئين، نساء ورجالاً، وقد نهضوا من بؤس الخيام كمقاتلين من أجل الحرية، ليتعلموا القراءة والكتابة، ويكتسبوا مهارات حرب الفدائيين. وذكّرت بأن الفلسطينيين كانوا فلاحين، وعمال، ومعلمين وشعراء، وبأنهم أمناء على ثقافة غنيّة ومتنوعة. كما شكّلت الملصقات أيضاً وسيلة لمواجهة صدمة شتات الفلسطينيين: فإذا كانت البيوت قد ضاعت، فهناك سجلّ إبداعي قام بتصوير امتلاك بيت فيما مضى، وإذا لم يعد هناك أرض تلوح في الأفق، فهناك مخيلة فنية عن الوطن أبقت رباط الانتماء حياً. وكذلك استُخدمت الملصقات للترويج للمعالم الوطنية (مثل قبة الصخرة وكنيسة المهد)، والرموز الوطنية مثل شجرة الزيتون، ومفتاح العودة، ونقوش التطريز في الثوب الشعبي. وكانت بعض الملصقات ترجمة بصرية لأبيات شعرية، مثل "العرس الفلسطيني" الذي تمت استعارته من قصيدة لمحمود درويش، تروي كيف استشهد الفدائي والتحم جسده بالأرض.
بكل تأكيد، كان تصوير الفدائي أحد أبرز الموضوعات. والفدائي بالدرجة الأولى رجل، نادراً ما تظهر ملامح وجهه، وفي العادة يرتدي كوفية، وهو أيّ شخص وكلّ شخص، وقامته منتصبة دائماً، إنه إنسان قرّر مصيره بنفسه، ومستعدّ للتضحية بحياته في سبيل تحرير وطنه. ومن الموضوعات الأخرى اللافتة للنظر هناك الاحتفاء بالأبطال الوطنيين الذين سقطوا في المعارك، ابتداء بعزّ الدين القسّام مروراً بكوادر منظمة التحرير الفلسطينية البارزين، مثل كمال عدوان ومحمود الهمشري. وكانت الملصقات تستخدم أيضاً لإعداد تقويم وطني للمناسبات، أو "محطات الذاكرة" الزمانية، والاحتفالات الدينية، وأخذت معظمها شكل إحياء ذكرى المجازر والمعارك والثورات، مثل مجزرتي دير ياسين والطنطورة، ومعركة الكرامة، ويوم الأرض، ويوم النكبة، وما إلى ذلك.
كانت تُعاد، في معظم الأحيان، طباعة الملصقات على شكل بطاقات بريدية أو أغلفة كتب، كما كانت اللوحات تتحول أحياناً إلى ملصقات. وكانت دار الفتى العربي للنشر حريصة بشكل خاص على تشجيع الابتكار والإبداع. وهي دار أسستها منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت سنة 1974، وتولّى إدارتها محي الدين اللباد، وقد شكّلت ثورة في مجال أدب الطفل والتربية. كان الكُتّاب العرب المعروفون يؤلفون القصص القصيرة التي تعكس الواقع السياسي والاجتماعي في العالم العربي، في حين دُعي الفنانون لتقديم رسوم توضيحية للكتب. وقد أنتجت الدار ملصقات تظهر صفحات كاملة من كتب بأحجام صغيرة نسبياً، أو تركّز على موضوع راهن بأحجام جدارية كبيرة.
قد تكون الإحاطة بالفصل الثالث من تاريخ الملصق الفلسطيني هي الأصعب. يبدأ هذا الفصل سنة 1983 بعدما أُرغمت منظمة التحرير على الرحيل عن بيروت إلى تونس، ويمتد حتى التوقيع على اتفاقيات أوسلو. حدث الرحيل في ظروف قاسية، وكان هروباً من أجل البقاء. وفي تونس، تمت إعادة ترتيب الأولويات، فلم تعد الكثير من الفعاليات الثقافية ممكنة. وعلاوة على ذلك، لم ينتقل إلى تونس أيٌّ من الفنانين الذين كانوا يقودون مهمات تنظيم الفعاليات والإشراف على الملصقات والمعارض. بعد فترة وجيزة، في سنة 1987، اندلعت الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية وغزة، فأثارت حماسة الفنانين الفلسطينيين في الشتات لإعادة تصوير الحركة الشعبية. وُجّهت الدعوة إلى فنانين بولنديين من أجل الإقامة بعض الوقت في تونس، وكُلّفوا بإنتاج ملصقات. كان إنتاج الملصقات ممنوعاً بشكل صارم في الضفة الغربية، غير أن المناضلين كانوا يطبعون المنشورات والمطبوعات الأخرى ويوزعونها سراً.
يبدأ الفصل الرابع والأخير بتوقيع اتفاقيات أوسلو وتأسيس السلطة الوطنية في الضفة الغربية وغزة. مع ظهور القنوات التلفزيونية الفضائية حدثت تحوّلات كبرى، وتغيّرت الحاجة إلى صناعة الملصقات جذرياً. ومنذ ذلك الحين، لعب الملصق دوراً مزدوجاً مرة أخرى، وأخذت قصة الملصق الفلسطيني مساراً متفرّعاً جديداً. إذ طغى الملصق الدعائي، من أجل تسويق وتصنيف المنتجات والمناسبات والخدمات، على الملصق السياسي والنضالي. وصار الفنانون يقومون بتصميم وصناعة هذا الأخير بشكل مستقلّ من أجل الاحتفاء بالشهداء أو الاحتجاج على الاعتداءات الإسرائيلية (مثال جدار الفصل أو الاستيطان) أو على سياسة السلطة الوطنية الفلسطينية (كمواصلة المفاوضات السلمية). واكتسبت فنون الرسم على الجدران، الغرافيتي المرسوم والمكتوب، شهرة شعبية في السنوات الأخيرة، بحيث حلّت، بعض الشيء، محلّ الملصق في المواجهة وتخطّي الحدود، كما حال جدار الفصل الذي يمتد اليوم كأكبر وأطول مساحة مغطاة بالغرافيتي والجداريات.
لم يحظَ، لحد الآن، جمع ونقل الملصقات بوصفها مجالاً محورياً للرسم والأيقونوغرافيا، وخصوصاً في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، باهتمام المؤرشفين والدارسين. فقد تبعثرت الملصقات في العديد من المكتبات الجامعية (جامعة بيرزيت والجامعة الأميركية في بيروت، بشكل خاص)، ومراكز الأبحاث (مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، والمجموعات الخاصة (أرشيف دان والش على شبكة الانترنت). يثير موضوع تصنيف وفهرسة الملصقات الفلسطينية أسئلة مثيرة للاهتمام حول التأليف، والهوية الوطنية، والتراث الثقافي، لأن هذا الإرث يتخطّى حدود التأليف الفلسطيني، وهو مخزون يضمّ ما مثّلته فلسطين للفنانين العرب والفنانين العالميين على حد سواء. بالإضافة إلى ذلك، سيكون من الخطأ ربط تاريخ الملصق الفلسطيني بتاريخ الملصق الصهيوني واعتماد نظرة تختزل التعقيد والتشابك في التواريخ المتضمَّنة في الملصق الفلسطيني. قد تتقاطع التصويرات الإبداعية الفلسطينية والإسرائيلية في مجالات أخرى (السينما، الأدب، وغيرها)، لكنها في مجال الملصق بالتحديد لا تتقاطع. يقدم الملصق الفلسطيني بالفعل فرصة نادرة وخصبة لإعادة النظر في تواريخ الفنون الغرافيكية في جميع أنحاء العالم.
رضوان، شفيق. "الملصق الفلسطيني، مشاكل النشأة والتطور". دمشق: منظمة التحرير الفلسطينية، دائرة الثقافة، 1992.
"الملصق الفلسطيني: مجموعة الشهيد عز الدين القلق". بيروت: منشورات فجر، 1979.
L'Affiche palestinienne: Collection d'Ezzeddine Kalak. Paris: Le Sycomore, 1979.
Boullata, Kamal. Palestinian Art: From 1850 to the Present. London: Saqi Books, 2008.
Lionis, Chrisoula. “Peasant, Revolutionary, Celebrity: The Subversion of Popular Iconography in Contemporary Palestinian Art”. Middle East Journal of Culture and Communication, vol 8, special issue, 2015.
Makhoul Bashir and Gordon Hon. The Origins of Palestinian Art. Liverpool: Liverpool University Press, 2013.
Walsh, Dan. “The Palestine Poster Project”, at palestineposterproject.org.