تُعدّ صناعة الصابون من التقاليد القديمة جداً في الشرق الأوسط وهي تعتمد أساساً على إنتاج زيت الزيتون. في البداية، كانت صناعة الصابون منزلية، ثم تطورت في المراكز الحضرية. وكانت مدن حلب في سورية، وطرابلس في لبنان، ونابلس في فلسطين الأكثر شهرة في هذا المجال. وطوال الفترة العثمانية، استحوذت كبرى العائلات البورجوازية الحضرية على مصانع الصابون الرئيسية الواقعة في وسط مدينة نابلس. وفي القرن التاسع عشر، أصبحت صناعة الصابون القطاع الاقتصادي السائد في المدينة؛ فامتلاك مصنع للصابون كان رمزاً للثروة، والوجاهة، والانتماء الحضري.
عملية صنع الصابون
تعتمد مصانع الصابون القليلة المتبقية في نابلس عملية التصنيع ذاتها تقريباً التي كان قد تم تطويرها قبل قرنين (باستثناء بعض التغييرات الطفيفة). وتتكون هذه العملية، التي تنجزها أربع فرق من العمال، من خمس خطوات هي: الطهي، والبسط، والتقطيع، والتجفيف، والتغليف.
في الطبقة الأرضية من مصنع الصابون، يوضع زيت الزيتون (المكوّن الرئيسي) الممزوج بالصودا الكاوية والماء في وعاء كبير (الحلّة)، ويتم "طهيه" مدة ثلاثة أيام. وكانت الصودا الكاوية المستورَدة من الإسكندرية وأوروبا قد حلّت في النصف الأول من القرن العشرين محلّ القلو [الصودا القلوية الطبيعية]، وهو مادة تُستخرَج من رماد نبتة الحُرض. ويساعد مرجل موجود أسفل الحلّة في عملية التصبين، وبمجرد أن يصبح الخليط جاهزاً، يتذوق رئيس الفريق الصابون، أو يفتته بيده للتحقق من قوامه. بعدها يحمل الحمالون الخليط في دلاء ويسكبونه في قسم مخصص في الطبقة الأولى يُسمى المفرَش، حيث يُترك مدة يوم كي يجف قبل أن يقوم فريق مكوّن من ثلاثة إلى أربعة عمال مدربين بتقطيعه إلى مكعبات صغيرة مختومة بالعلامة التجارية لمصنع الصابون. وفي اليوم التالي، يقوم العمال بتجميع قطع الصابون وترتيبها على شكل أهرامات تُسمى التنانير. ثم يُترك الصابون ليجف مدة تتراوح من شهرين إلى ثلاثة أشهر. وبعدها يقوم فريق آخر بتعبئة الصابون ولفّه في ورق يحمل العلامة التجارية لمصنع الصابون. وعادة يغلّف هؤلاء العمال ما بين 500 إلى 1000 قطعة من الصابون في الساعة.
كانت المصانع، في ذروة إنتاج الصابون في نابلس، شركات مسجلة تحمل أسماء تجارية وشعارات مطبوعة على ورق تغليف الصابون. وكانت هذه العلامات التجارية، في الغالب، رموزاً أو أسماء حيوانات؛ منها مثلاً: المفتاحيْن، الجمل، النعامة، النجمة، البقرة، البدر والأسد. كما كانت الشعارات تُضاف على غلاف الصابونة مثل عبارة الصابون النابلسي الممتاز أو المعروف.
تراجع إنتاج الصابون في نابلس قبل سنة 1948
شهد إنتاج الصابون في نابلس أول انتكاساته الكبيرة بحلول سنة 1930. ويُعزى هذا التراجع في الإنتاج، إلى أسباب متعددة؛ فقد قامت سورية ومصر، اللتان كانتا سوقين رئيسيتين للصابون النابلسي (وخصوصاً مصر)، بفرض الضرائب على الصابون المستورَد، وكان الصابون النابلسي ينافس الصابون المصري. ولأن الاسم التجاري "النابلسي" المرفق بالصابون لم يكن محمياً، كان يتم تقليده. وقد ساهم هذا الأمر، إضافة إلى ارتفاع أسعار زيت الزيتون النقي بعد كساد سنة 1929 الكبير، في رفع سعر الصابون النابلسي، الأمر الذي جعل منافسة الصابون المستورَد أمراً في غاية الصعوبة على المنتجين في نابلس. وبالإضافة إلى ذلك، شكّلت الصناعة الآلية اليهودية، والتي نجحت أيضاً في الحصول على مزايا جمركية من الانتداب البريطاني، منافساً محلياً للصابون النابلسي.
تكشف أزمة الصابون الأولى، ولو بشكل غير مباشر، عن آثار الهجرة اليهودية في منطقة نابلس، التي كانت حتى ذلك الحين محمية، نسبياً، من تبعات الاستعمار الصهيوني. وبصورة عامة، فإن غياب الدولة ذات السيادة القادرة على ضبط الحدود والضرائب جعل الصابون النابلسي بلا حماية، في الوقت الذي منحت سلطات الانتداب البريطاني التجار الصهيونيين مزايا جمركية، وفرضت مصر وسورية الحواجز لحماية منتوجاتهما المحلية.
بعد سنة 1948، أُغلقت سوق فلسطين التاريخية، وكذلك الحال بالنسبة إلى السوق المصرية. وأصبحت الضفة الشرقية لنهر الأردن (الأردن) السوق الرئيسية لصابون نابلس. واضطر منتجو الصابون بالتدريج إلى استيراد زيت الزيتون من سورية ولبنان، وعلى نحو ثانوي من إسبانيا وإيطاليا.
التحوّل والتراجع الأخير لصناعة الصابون
في خمسينيات القرن الماضي، أدخل حمدي كنعان، صهر منتِج الصابون والتاجر أحمد الشكعة، ما كان يُسمى "الصابون الأخضر" إلى نابلس، وهو صابون مصنوع من زيت الجفت منخفض الجودة (والجفت هو بقايا الزيتون الصلبة بعد أول عَصرة، ويتكوّن من البذور بصورة رئيسية)، وكان يُستخدم لتنظيف الأرض وغسل الملابس. وكان هذا بمثابة ثورة صغيرة في مجال صناعة الصابون؛ فاستخدام هذا النوع الجديد من الزيت الأرخص ثمناً سمح للعائلات الأقل ثراء باستئجار مصانع الصابون، وإنتاج كميات كبيرة من الصابون المعدّ للأعمال المنزلية. وخلال السبعينيات، شهد إنتاج الصابون "من الدرجة الثانية" (الذي سرعان ما أُطلق عليه اسم كنعان) تطوراً سريعاً. وساعد هذا بعض عمال مصانع الصابون في التحوّل إلى مصنّعين صغار؛ إذ استأجروا مصانع الصابون في المدينة القديمة، وبدأوا عملية الإنتاج. في هذا الوقت، حاول بعض المصانع مكننة الصابون النابلسي، وتطوير شكله وتغليفه ومكوّناته. وكان التغيير الآخر الذي طرأ على صناعة الصابون (نتيجة الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967) هو بدء استخدام جميع أنواع الزيوت.
وعلى الرغم من المحاولات التي قام بها بعض العاملين في مجال صناعة الصابون لإدخال التغييرات على هذه الصناعة، والتأقلم وفق الأوضاع المتغيرة، فإنها واصلت تراجعها المطّرد في النصف الثاني من القرن العشرين، ووصلت إلى مرحلة التدهور النهائي خلال الانتفاضة الأولى [1987 – 1993]. وكانت المصانع الصغيرة المنتجة للصابون الأخضر قد تعرّضت، هي أيضاً، للتهميش بسبب بدء استخدام الغسالات والمنظفات الأجنبية الأرخص ثمناً (مثل لوكس وبالموليف)، ولهذا لم يعد في إمكانها المنافسة، كما أنها لم تتحمل الضرائب الجديدة المفروضة على الصابون، وقد منعها عدم توفر رأس المال من مواصلة الإنتاج. وعلاوة على ذلك، أصبح الحفاظ على إنتاج الصابون أشد صعوبة منذ اندلاع الانتفاضة الأولى، لأن المدينة القديمة كانت هدفاً للهجمات الإسرائيلية، وبالتالي شهدت فترة التسعينيات إغلاق العديد من مصانع الصابون.
في المحصلة، أدى استخدام المنتوجات الأجنبية الرخيصة، وإدخال أنماط استهلاك جديدة، إلى تراجع صناعة الصابون في نابلس. وقد تسبب الاجتياح الإسرائيلي للمدينة سنة 2002 بتضرّر العديد من مصانع الصابون، التي كان عددها يتجاوز الثلاثين، وبتدمير اثنين منها تدميراً كاملاً؛ فتم التخلي عن معظمها، أو تحويلها إلى استخدامات أُخرى. فعلى سبيل المثال، تحوّل مصنع صابون عرفات إلى مركز ثقافي للأطفال؛ كما لجأ بعض المنتجين إلى إضافة العطور، ومكننة صناعة الصابون، من أجل إنتاج أنواع جديدة، بهدف الإبقاء على هذه الصناعة تقليداً حياً في نابلس. ومنذ سنة 2007 لم يعد في المدينة سوى مصنعين في قيد الإنتاج، يعودان إلى عائلتي الشكعة وطوقان اللتين حافظتا عليهما كتراث. ويتم تصدير أغلبية إنتاج الصابون إلى الأردن، نظراً إلى العلاقات القائمة منذ أمد طويل بالموزعين في الضفة الشرقية، وإلى العدد الكبير للسكان الفلسطينيين في الأردن، ومن هناك يتم تصدير جزء صغير من الإنتاج إلى الكويت ودول الخليج.
بهجت، محمد، ورفيق التميمي. "ولاية بيروت القسم الجنوبي". بيروت: مطبعة الإقبال، 1916.
دوماني، بشارة. "إعادة اكتشاف فلسطين: أهالي جبل نابلس 1700 - 1900". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الثانية، 2002.
الشريف، حسام. "صناعة الصابون النابلسي". نابلس: مكتبة بلدية نابلس العامة، مركز الوثائق والأرشيف، 1999.
طاهر، علي نصوح. "شجرة الزيتون. تاريخها، زراعتها، أمراضها، صناعتها". يافا: مكتبة الطاهر، 1947.
Bontemps, Véronique. “Soap-Factories in Nablus. Palestinian Heritage (Turâth) at the Local Level.” Journal of Balkan and Near-Eastern Studies, vol. 14, no.2 (2012), pp. 279–295.
Bontemps, Véronique. Ville et patrimoine en Palestine. Une ethnographie des savonneries de Naplouse. Paris: Karthala, IISMM (Collection terres et gens d’islam), 2012.
Graham-Brown, Sarah. “The Political Economy of the Jabal Nablus, 1920–1948.” In Studies in the Economic and Social History of Palestine in the Nineteenth and Twentieth Centuries. Edited by Roger Owen. Carbondale: Southern Illinois University Press, 1982.
Jaussen, Antonin. Coutumes palestiniennes 1: Naplouse et son district. Paris: Paul Geuthner, 1927.