وقعت معركة الكرامة في 21 آذار/ مارس 1968، داخل وفي محيط بلدة الكرامة
الأردنية الصغيرة، في
وأدّت أخبار صمود الفدائيين وقتالهم وعدم تراجعهم أمام تفوّق الإسرائيليين عليهم في العدد والعتاد، إلى حدوث طفرة هائلة في الدعاية والدعم لحركة المقاومة الفلسطينية، ولا سيّما "فتح "، الأمر الذي مهّد لها تولّي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف.) في العام التالي. شكّلت الحادثة لحظة حاسمة في تطوّر حركة المقاومة الفلسطينية، غير أنها مهّدت في الوقت ذاته الطريق لمواجهة وشيكة بين المنظّمات الفدائية الفلسطينية والدولة الأردنية، التي وصلت ذروتها في أحداث أيلول/ سبتمبر في سنة 1970.
إثر احتلال إسرائيل الضفة الغربية عقب هزيمة العرب الكبرى في حرب حزيران/ يونيو 1967، وجدت بلدة الكرامة ومخيم اللاجئين الصغير المجاور لها، نفسيهما على بعد بضعة كيلومترات فقط من خطوط وقف إطلاق النار الجديدة الفاصلة بين القوات الأردنية والإسرائيلية، فبدأ الفدائيون الفلسطينيون شنَّ هجمات على الأهداف الإسرائيلية انطلاقاً من الضفة الشرقية لـ نهر الأردن ، وسرعان ما أصبحت الكرامة قاعدة رئيسية للفدائيّين المقاتلين من "فتح" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " وتنظيمات فلسطينية أخرى، في سعيهم إلى إعادة المبادرة بمقاومة إسرائيل إلى الفلسطينيين بدلاً من الدول العربية، ومن خلال الكفاح المسلّح. وكانت الهجمات الانتقامية الإسرائيلية ضد الفدائيين على الأراضي الأردنية، تؤدي أحياناً إلى وقوع اشتباكات بين القوات الإسرائيلية وقوات من الجيش الأردني، ما حدا بالأخير إثر معركة وقعت في 15 شباط/ فبراير 1968، إلى تطويق الكرامة ومطالبة الفدائيين بالمغادرة، للحيلولة دون وقوع المزيد من الهجمات الإسرائيلية على الأراضي الأردنية، ولكن بقي الفدائيون من "فتح" و"الجبهة الشعبية" في الكرامة، وانضم إليهم في ما بعد مقاتلون من قوات التحرير الشعبية ، المنشأة حديثاً من جيش التحرير الفلسطيني .
بعد ذلك بوقت قصير، قرّرت إسرائيل التحرك بنفسها بشكل حاسم ضد الفدائيين في الكرامة، ومع مطلع آذار/ مارس 1968، لاحظ الفدائيون والجيش الأردني حشوداً كبيرة للقوات الإسرائيلية عبر نهر الأردن. ومفعماً ومغترّاً بنشوة انتصاره في حرب حزيران، لم يبذل الجيش الإسرائيلي أي محاولة لإخفاء حشوده، مانحاً بذلك القوات الأردنية والفلسطينية متّسعاً من الوقت لإعداد دفاعاتها، فبدأ الجيش الأردني بتحريك الدبابات والمدفعية إلى الموقع. وفي الجانب الفلسطيني، آثر قائدا الجبهة الشعبية أحمد زعرور وأحمد جبريل اعتماد تكتيكات حرب العصابات القياسيّة والانسحاب شرقاً على مواجهة قوات بهذا الحجم. غير أن زعيم "فتح" ياسر عرفات حثّ الفدائيين على الصمود والقتال، بغية إرسال رسالة تفيد بأنّ هناك من العرب من هو على استعداد لمواجهة الإسرائيليين. وفي حين سحبت الجبهة الشعبية قواتها، بقي حوالى 200 من مقاتلي "فتح" و"جبهة التحرير الفلسطينية" وجيش التحرير الفلسطيني لمواجهة الهجوم.
في صبيحة 21 آذار/ مارس، عبر جنود المشاة الإسرائيليون والمظليون جنباً إلى جنب، مع الدبابات والمدرّعات ومركبات أخرى، جسر اللنبي صوب جنوب بلدة الكرامة، وجسر دامية صوب شمالها، في مناورة "الكمّاشة"، بهدف مهاجمة الفدائيين من اتجاهين (وكانت هذه واحدة من عمليّتي توغل إسرائيليتين كبيرتين في الأردن في ذلك اليوم، حيث حدثت الثانية إلى الجنوب من البحر الميت بالقرب من بلدة غور الصافي )، وتم إنزال المظلّيين شرقي الكرامة لقطع الطريق أمام أي تراجع فلسطيني. شارك في العملية حوالى 15,000 جندي إسرائيلي تساندهم الطائرات الحربية، في حين نقل الجيش الأردني العديد من الدبابات وقطع المدفعية إلى المنطقة بهدف وقف ما كان يُخشى أن يكون هجوماً إسرائيلياً كبيراً داخل الأراضي الأردنية، ووُضعت في التلال المطلّة على وادي الأردن لاستهداف القوات الغازية مباشرة، فصبّ نحو 15,000 جندي أردني نيرانهم على القوات الإسرائيلية المتوغّلة، التي استولت قوات المظليين فيها على قاعدة الفدائيين في الكرامة ودمّرتها، وكان عرفات مع مقاتليه من "فتح" فيها، لكنّه نجا في نهاية الأمر. وقُتل في نهاية المعركة حوالى نصف المقاتلين الفلسطينيين، وتمكّن عدد آخر من الفرار، بينما وقع آخرون في الأسر، ودمّرت الطائرات الإسرائيلية 80 دبابة أردنية بين تلك التي حاولت التقدّم إلى ساحة المعركة، وقتلت أكثر من 80 جندياً. أما الإسرائيليون، فتكبّدوا إثر إنجازهم مهمتهم وانسحابهم آخر النهار، عدداً كبيراً وغير متوقّع من الضحايا: 28 قتيلاً و69 من الجرحى، بالإضافة إلى تدمير أربع دبّابات وأربع مركبات ثقيلة أخرى وإسقاط طائرة إسرائيلية.
على رغم الانتصار "التقني" لإسرائيل، بمعنى تحقيق الهدف الموضوع للعملية وهو تدمير قاعدة الفدائيين في الكرامة، فإن الكثيرين اعتبروا معركة الكرامة انتكاسة إسرائيلية ونصراً -وإن معنوياً- للعالم العربي، ولا سيّما للفلسطينيين. وكانت هذه المرة الأولى منذ حرب حزيران 1967 يتم فيها تخطّي قوة إسرائيلية بهذا الحجم حدود عام 1967 . وقد ساهم العدد المرتفع من الخسائر الإسرائيلية في معركة الكرامة، بشيء من تعزيز الروح المعنوية في أنحاء العالم العربي، الذي كان لا يزال يعاني من صدمة هزيمة حزيران.
وعلى رغم أنّ الجيش الأردني، بجنوده ودباباته ومدفعيته، لعب دوراً رئيسياً في المعركة، فإن "فتح" استحوذت على صيت المعركة وصوّرتها أنّها مثال على الصمود الفلسطينيّ: فدائيون مسلّحون تسليحاً خفيفاً يقاتلون باستبسال ضد الجيش الإسرائيلي الجبّار ويلحقون به خسائر فادحة.
ارتفعت مكانة الفدائيين في الشرق الأوسط مباشرة، وتطوّع الآلاف من الشبان للانضمام إلى المقاومة الفلسطينيّة، وبدت الزيادة في هيبة المقاتلين واحترامهم في الأوساط الفلسطينية جليّةً بعد شهرين، وتحديداً في تموز/ يوليو 1968، عندما منح المجلس الوطني الفلسطيني أكثر من ثلث مقاعده لممثلي "فتح". ودفع النمو الهائل للقوات الفلسطينية في الأردن بعد المعركة، والثقة التي منحها "النصر" لقيادة المنظّمات الفدائية الفلسطينية، إلى مزيد من هجمات الفدائيين المتمركزين في الأردن ضد المواقع الإسرائيلية، التي غالباً ما كانت تقابَل بغارات إسرائيلية مضادة، ما رسّخ شعوراً في الأردن بأنّ الفلسطينيين لا يخضعون لسلطة النظام، أو حتى أنّهم في تمرّد مفتوح ضد السلطة. وفي النهاية، حصلت مواجهة ضارية بين الفدائيين والجيش الأردني في أيلول/ سبتمبر 1970 عُرفت باسم "أيلول الأسود "، في الوقت الذي كانت المنظمات الفدائية الفلسطينية أقوى من أي وقت مضى. وهكذا، فإنّ معركة الكرامة غيّرت مجرى التاريخ بالنسبة إلى الفدائيّين ومنظّمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينيّة.
أبو أسوان، هادي. "شهادات من معركة الكرامة". "شؤون فلسطينية"، العدد 8، نيسان 1972.
الشواف، خالد. "معركة الكرامة". "الثورة الفلسطينية"، العدد 4، نيسان 1968.
صايغ، يزيد. "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
كنفاني، غسان. "عائد الى حيفا". بيروت: دار العودة، 1970.
الناطور، محمود. "معركة الكرامة". عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2009.