تحوّل الصراع العربي الإسرائيلي بين السنتين 1950 و1966، من نزاع بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين العرب، إلى صراع إقليمي غدا في عدد من نواحيه جزءاً من الصراع الدولي. ورسّخت إسرائيل مكانتها واقعاً على الساحة الدولية، وعززت النظام الصهيوني الذي كانت أنشأته داخل حدودها بعد سنة 1948.
وبقيت أصداء هزيمة فلسطين تتردد في أنحاء العالم العربي كافة، ما تسبب بسقوط عدد من الأنظمة المدنية القائمة واستبدالها بأخرى يقف على رأسها عسكريون كانوا شعروا بلسعة هزيمة 1948. وفي هذه الأثناء، بدأ الفلسطينيون أنفسهم البحث عن وسائل تخوّلهم لعب دور فاعل في التغلب على الهزيمة.
بعد أن فشلت لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة والخاصة بفلسطين (UNCCP) خلال مؤتمر لوزان (نيسان/ أبريل – أيلول/ سبتمبر 1949) في أخذ إسرائيل والدول العربية باتجاه حل سلمي للصراع العربي- الإسرائيلي، وجدت إسرائيل نفسها طليقة اليد في تعزيز انتصارها العسكري، فعملت على تحويل الوجه السكاني والديموغرافي للأجزاء التي باتت تحت سيطرتها من فلسطين، فضاعفت عدد السكان اليهود في إسرائيل بين السنتين 1948 و1951، حيث تهافت حوالى ستمائة ألف يهودي مهاجر جديد إلى فلسطين، مصدرةً "قانون العودة" في سنة 1950، الذي منح الحق في الجنسية الفورية لكل يهودي في العالم ينتقل إلى إسرائيل. وكان نصف هؤلاء المهاجرين من الناجين من اضطهاد النازية في أوروبا، في حين كان الباقون بغالبيتهم يهوداً من البلاد العربية. وقد جعل هذا الأمر الدولة الجديدة يهودية ديموغرافياً، وخصوصاً لأن حوالى ثمانين في المئة من الفلسطينيين الذين عاشوا على الأرض الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل هُجِّروا أو طُرِدوا أو نزحوا خلال الحرب وبعدها بفترة قصيرة.
وقامت الدولة الجديدة على 20,330 كلم2 من أرض فلسطين التاريخية، التي دمّرت إسرائيل فيها خلال السنوات الثلاث الأولى من قيامها، أكثر من أربعمئة قرية فلسطينية مهجورة، بهدف بناء مدن جديدة للمهاجرين اليهود ومنع اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم، وصادرت ملايين الدونمات من الأراضي التي هجرها مَن سمّتهم "الغائبين"، وفقاً لـ"قانون أملاك الغائبين" الصادر في آذار/ مارس 1950، كما باعت الدولة قسماً كبيراً من هذه الأراضي إلى الصندوق القومي اليهودي لاستعمالها في توطين اليهود. وكما "الغائبون" الذين غادروا فلسطين، اعتبرت الحكومة الإسرائيلية حوالى نصف الفلسطينيين المتبقين والذين لم يقرروا المغادرة "غائبين" أيضاً، وصادرت أرضهم، مدّعيةً لنفسها الحقَّ في الأرض التي صُنِّفَت تحت الحكم البريطاني أرضاً "تابعة للدولة" أو "عامة". ومع سياسة ابتلاع الأراضي تلك، تحوّل حوالى 93 في المئة من الأرض المحتلة في سنة 1962 "أراضي إسرائيلية" تسيطر عليها إمّا الدولة أو الصندوق القومي اليهودي، في حين كانت سيطرة اليهود على أراض في فلسطين قبل الاحتلال لا تتجاوز الـ7 في المئة.
كان للهزيمة تأثير هائل على العالم العربي، الذي كان يترنّح بسبب تحوُّل النصر الموعود ضد الإسرائيليين خسارة فادحة، فتبعت هذا الواقع نتائج سياسية فورية، ففي سوريا أدت خيبة الأمل حيال القيادة المدنية للبلاد، إلى استيلاء ضباط في الجيش السوري على الحكم عبر ثلاثة انقلابات مختلفة ابتداء من أواخر آذار/مارس 1949. وفي مصر، استولى ضباط في الجيش بقيادة الكولونيل جمال عبد الناصر على الحكم في تموز/ يوليو 1952، وألغوا النظام الملكي. وبعد أن ضمّ الأردن الضفة الغربية في نيسان 1950، اغتال فلسطيني في القدس الملك الأردني عبدالله، في تموز/ يوليو 1951، كما اجتاح حماسٌ عقائدي مسعور الشرق الأوسط العربي، فتنافست في بلدانه عقائد "القومية العربية" و"القومية السورية" و"الشيوعية" و"الاشتراكية" و "الإسلام السياسي"... على النفوذ في صفوف الجماهير.
وفي غياب معاهدات سلام رسمية، بقيت إسرائيل عمليّاً في حالة حرب مع أعدائها العرب عقب اتفاقيات الهدنة المعقودة في سنة 1949، وعملت هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة بين إسرائيل ودول المواجهة العربية على تفادي تصعيد الحوادث على الحدود، وأعلنت الجامعة العربية مقاطعة إسرائيل والمنتجات الإسرائيلية وحتى الشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل.
وعلى الرغم من السماح لبعض اللاجئين بالعودة إلى فلسطين، في ظل برامج جمع شمل الأسر، إلا أن إسرائيل رفضت إعادة الجزء الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين رفضاً قاطعاً. ومع أن بعض اللاجئين استطاع التسلل إلى فلسطين عبر الحدود وخطوط وقف إطلاق النار، إلا أن كثيراً من الذين حاولوا العودة قتلتهم القوات الإسرائيلية إثناء محاولتهم دخول فلسطين خلسة.
من جهة أخرى، تابعت لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة والخاصة بفلسطين، جهودها لترتيب تسوية سلام نهائية بين أطراف النزاع العرب والإسرائيليين، فعقدت لهذه الغاية عقب مؤتمر لوزان الفاشل (في سنة 1949)، مؤتمراً آخر في جنيف من كانون الثاني/ يناير إلى تموز/ يوليو 1950، ومؤتمراً ثالثاً في باريس من أيلول/ سبتمبر إلى تشرين الثاني/ نوفمبر 1951، ولم يتوصّل كلاهما إلى تسوية سلمية شاملة، ما دفع لجنة التوفيق بعدها إلى التخلي عن محاولة ترتيب سلام عربي إسرائيلي، والاتجاه عوضاً عن ذلك إلى مسائل محددة، مثل إجراء دراسات عن الخسائر في أملاك اللاجئين الفلسطينيين بهدف ترتيب محتمل لتعويض مستقبلي، وهو مشروع دامَ من سنة 1952 وحتى سنة 1964.
وفي الخمسينيات، تحول الصراع العربي الإسرائيلي بصورة متسارعة، ميداناً للحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة، والاتحاد السوفييتي وحلفائه الشيوعيين من جهة أخرى، فتقربت إسرائيل ودول عربية مثل لبنان والأردن والمملكة العربية السعودية والعراق (قبل انقلاب تموز/ يوليو 1958 الذي أسقط النظام الملكي في العراق) من المعسكر الغربي، في حين كانت لدول عربية أخرى علاقات قوية مع الكتلة السوفييتية، ما ساهم ليس في تسعير التوتر بين العرب في ظل الحرب الباردة بين الجبارين فحسب، بل إلى ازدياد وتيرة التسلح لدى جيوش الشرق الأوسط، إذ تدفقت الأسلحة بشكل هائل من الكتلتين إلى دول المنطقة، وكان لإسرائيل قصب السبق في جنون التسلح، فتلقت شحنة كبيرة من الأسلحة الحديثة من فرنسا في سنة 1955، وفي السنة ذاتها زوّد الاتحاد السوفييتي (عبر تشيكوسلوفاكيا) مصر بأسلحة نوعية شكلت، إضافة إلى رعاية مصر عمليات التسلل الفلسطينية نحو إسرائيل، عاملَي قلق إسرائيلي متزايد، أُضيفا إلى غضب بريطاني من نفوذ الرئيس عبد الناصر المتصاعد ورفضه الانضمام إلى "حلف بغداد" الغربي، في الوقت الذي كان دعمُه الثوار الجزائريين يغضب الفرنسيين، ما أدى إلى اتفاق الدول الثلاث (إسرائيل وفرنسا وبريطانيا) على الهجوم على مصر، فكانت الحرب العربية الإسرائيلية الثانية في سنة 1956.
كان تأميم مصر شركة قناة السويس في تموز/ يوليو 1956 الذريعة المباشرة للحرب، فقامت القوات الإسرائيلية في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1956، باجتياح غزة وشبه جزيرة سيناء في مصر، وقامت القوات الفرنسية والبريطانية، بحجة منع إلحاق الضرر بالقناة في المعركة، باجتياح طول خط القناة واشتبكت مع القوات المصرية فيها، لكن ردود الفعل الدولية، بما فيها الأميركية والسوفييتية، أجبرت البريطانيين والفرنسيين على الانسحاب من القناة بحلول كانون الأول/ ديسمبر 1956، كما اضطرت القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب من سيناء وقطاع غزة في آذار/ مارس 1957.
وعادت إسرائيل ودول المواجهة العربية في أعقاب حرب السويس إلى فترة هدوء نسبي قامت مصر باستغلاله في بناء جيشها بأسلحة سوفييتية إضافية، وبدأت إسرائيل برنامجاً سرّياً للغاية يهدف إلى إنتاج أسلحة نووية في المفاعل النووي الذي بنته في ديمونا بمساعدة فرنسية.
لكن التوترات عادت إلى التصاعد مجدّداً في سنة 1964، حين باشرت إسرائيل ضخ المياه من بحيرة طبريا، ما دفع الزعماء العرب إلى عقد أول قمة لهم في القاهرة في كانون الثاني/ يناير 1964، وقرروا فيها إنشاء هيئة خاصة لتحويل روافد نهر الأردن، كما قرروا تكليف أحمد الشقيري، ممثل فلسطين لدى جامعة الدول العربية، العمل على تنظيم الشعب الفلسطيني كي يقوم "بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره". وفي أيار/ مايو 1964، انعقد "المجلس الوطني الفلسطيني" في القدس الشرقية معلناً تأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية" برئاسة أحمد الشقيري، مع السماح لها بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني من وحدات متمركزة في مصر وسوريا والعراق.
إلّا أن هذه القوات لم تستطع العمل على الأرض سوى كقوات مساعِدة لجيوش البلاد المضيفة، بدل أن تكون قوات مستقلة تحت سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية، ما أشعر الفلسطينيين بالإحباط، إضافة إلى عدم قدرة الدول العربية على تحرير فلسطين، فكان أن شكَّل فريق من الناشطين الفلسطينيين في الكويت منظمة ثورية سرية باسم "فتح" في سنة 1959 كان من ضمن قادتها ياسر عرفات (أبو عمّار) وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وخالد الحسن (أبو السعيد)، وأعلنوا بعد أن نفد صبرهم من الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، أنّهم سيقومون بتحرير وطنهم بأنفسهم من خلال الكفاح المسلح. وفي أول كانون الثاني/ يناير 1965، أعلنت "فتح" أن قواتها العسكرية الملقبة بـ"العاصفة"، نفذت أول هجوم مسلح داخل الأراضي الإسرائيلية. ولم تمض سنوات قليلة حتى وجدت هذه الثلة القليلة من اللاجئين الفلسطينيين نفسها على رأس حركة وطنية فلسطينية تفرض وجودها على الساحة العربية والدولية.
حامد، رؤف عباس، ولطيفة محمد سالم. "حرب السويس بعد أربعين عاماً". القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، 1997.
الخالدي، وليد. "كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائه". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001.
صايغ، يزيد. "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
فيشباخ، مايكل. "سجلات السلب: أملاك اللاجئين الفلسطينيين والصراع العربي-الإسرائيلي". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2013.
هيكل، محمد حسنين. "حرب الثلاثين سنة". القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1986.