شكَّل المدنيّون الفلسطينيّون على الدوام، منذ الثورات الفلسطينيّة الأولى ضد هجرات اليهود الجماعيّة إلى فلسطين وإقامة دولة إسرائيل بعد القتال العنيف سنة 1948، الحلقةَ الأضعف التي تدفع الثمن الأكثر كلفة، ومنذ ذلك الحين، يواجه كلّ جيل منهم ظروفاً معيشيّة صعبة للغاية، وخصوصاً أولئك الذين يعيشون في مخيمات اللجوء خلال الأزمات المتكرّرة التي مروا بها، في فلسطين المحتلة والأردن ولبنان والعراق، ومؤخراً في سوريا.
وبات الأطفال الفلسطينيّون اليومَ ورثةَ تاريخ طويل من الحياة في المنافي والتهجير القسريّ والاحتلال، ما شكّل هُويتهم وجعلهم شركاء في صراع يُخضعهم للعنف كلّ يوم، وأوصياءَ على ذاكرة مؤلمة، وشهوداً على الإذلال الذي عانى منه آباؤهم جيلاً بعد جيل، مراراً وتكراراً، ولا يزالون.
مع انتفاضة الشعب الفلسطيني، وجد الأطفال أنفسهم للمرة الأولى يحتلّون مركز الصّدارة في الصراع المديد، وللمرة الأولى لم يعد هؤلاء الأطفال ضحايا الاحتلال والاضطهاد والعنف فحسب، بل ويشاركون أيضاً بفاعلية في انتفاضة شعبية.
فاجأ تسيّس هؤلاء الأطفال (أطفال الحجارة) حتى والدِيهم ومعلّميهم، فعلى رغم أنّ مشاركتهم في الانتفاضة تعزّز قدراتهم على التحمّل والثبات، فإنها من ناحية أخرى تُفقدهم براءة طفولتهم في وقت مبكرٍ جداً، بالإضافة إلى خسائر فادحة في الأرواح والأبدان. ففي الفترة من كانون الأول/ ديسمبر 1987 إلى حزيران/ يونيو 1989، تراوحت أعمار 22.3 في المئة من الضحايا بين 10 و16 سنة، كما جُرح مئات الأطفال أو أصيبوا بإعاقات دائمة، وتوقف تحصيلهم المدرسيّ، وخرج كثيرٌ منهم بمشكلات نفسيّة تم توثيقها بشكل دقيق في منشورات "برنامج غزة للصحة النفسيّة" على سبيل المثال.
وأعقب ذلك فترات متتالية عانى الأطفال الفلسطينيّون خلالها إمّا من صدمات حادة، ولا سيما خلال الانتفاضة الثانية والهجمات العسكريّة الإسرائيليّة على قطاع غزة وحصار مخيم جنين ثم اقتحامه، أو بسبب التراكم الخفي والتدريجي للصدمات والانتهاكات الدائمة لمعظم حقوق الأطفال الأساسيّة، وهي انتهاكات جرى توثيقها بانتظام في تقارير وكالات الأمم المتحدة ("يونيسيف"، و"الأونروا" ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة في الأراضي الفلسطينية المحتلة)، وخصوصاً في تقارير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل، التي يتم جمعها بالتعاون مع المنظمات غير الحكوميّة، مثل "الحركة العالميّة للدفاع عن الأطفال"– فرع فلسطين.
ووُثِّق من سنة 2000 حتى سنة 2014، مقتل 1402 من الأطفال الفلسطينيّين الذين تتراوح أعمارهم بين 10- 17 سنة على أيدي الجيش الإسرائيليّ أو مستوطني الضفة الغربيّة وقطاع غزة، كما وُثّق استخدام الجيش الإسرائيلي في بعض الأحيان هؤلاء الأطفال دروعاً بشريّة.
ولم يكن حق الأطفال الفلسطينيين في الحياة هو الوحيد المعرّض للخطر، بل وحقهم في الصحة أيضاً، فبسبب حواجز الطرق التي كانت تعيق تنقّل السكان، واجه أطفال فلسطين صعوبات في الحصول على الرعاية الطبيّة، كما أن الوضع الاقتصادي العام لدى الفلسطينيين الذين تعيش نسبة 38 في المئة منهم في قطاع غزة و18 في المئة منهم في الضفة الغربية تحت خط الفقر، ساهم في صعوبة تلقي الأطفال التغذية الجيّدة، ناهيك عن المشكلات الناجمة عن الحصارات التي كانت تُفرض على قطاع غزة.
وفي سياق سياسة الهدم التي اتبعتها إسرائيل بعد سنة 1967، هُدم في الأراضي المحتلة حوالى 26,000 مبنى فلسطيني، بحجة عدم وجود تراخيص تارة، وكعقاب جماعيّ تارة أخرى، أو لـ"الردع" أطواراً، ونصف هذه المباني تقريباً (12191 مبنى) تم تدميره بين سنة 2000 وحتى شباط/ فبراير 2012 ("اللجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل" ICAHD). وكانت القدس الشرقيّة وقطاع غزة ووادي الأردن ومنطقة (ج) بشكل عام ومخيّمات البدو في النقب، وحتى في إسرائيل، هي المناطق الأكثر تضرّراً من هدم المساكن، الذي تسبب بتهجير قسري للسكان.
في سنة 2013 هدمت السلطات الإسرائيليّة 98 مبنى في القدس الشرقيّة، ما تسبب بفقد 298 شخصاً منازلهم - من بينهم 153 طفلاً -. ولا حاجة إلى التذكير بالأعداد الهائلة من المباني التي دمرتها العمليات العسكرية: ففي غزة فقط تم تدمير 18000 وحدة سكنيّة في القصف الجويّ الإسرائيليّ خلال عملية "الجرف الصامد" سنة 2014، مخلفةً حوالى 108000 شخص بلا مأوى، ولم تسلم الضفة الغربية من تدمير كبير للمباني السكنية، ما خلف آثاراً جسيمة على الصحة النفسيّة للأسر، ولا سيّما الأطفال، من: انطوائية، وقلق، وأعراض جسدية، ومشكلات انتباه وتركيز وسلوك عنيف. ولا يستطيع الإنسان تصوّر حجم العواقب الكارثية على أطفال مخيم اليرموك في سوريا وحده، الذي أفادت الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين) بأنه تم تشريد 63 في المئة منهم حتى نيسان/ أبريل من سنة 2014.
وفضلاً عن ذلك، يفتقر الأطفال الفلسطينيّون إلى الشعور بالأمان والاستقرار الأُسريَّين، إذ ثمة قوانين وتدابير إسرائيليّة تفرّق العائلات، ولا سيّما الأم عن الأب، فيُبعَد أحدهما من منطقة إلى أخرى داخل فلسطين، أو يُبعد إلى خارج فلسطين، أو ربما يكون التفريق عبر السجن التعسفيّ لأحدهما، أو لكليهما أحياناً، والذي يمكنه أن يستمر سنوات عديدة من دون أي محاكمة.
ويتعرّض حق الأطفال الفلسطينيين في التعليم للخطر بسبب هجمات الجيش الإسرائيليّ على المدارس وهدم كثير منها، بالإضافة إلى الصعوبات في الوصول إلى مراكز التعلّم. ويشير تقرير سنويّ لسنة 2013، نشره دبلوماسيّون من الاتحاد الأوروبيّ في الضفة الغربيّة، إلى أنّ هناك أكثر من 2000 من أطفال المدارس و250 معلّماً ومعلّمةً من القدس الشرقيّة مضطرون لاجتياز حواجز الجيش الإسرائيلي يومياً بغية الوصول إلى المدرسة، أما أطفال الخليل والقرى المحيطة بها، فإنّ طريقهم إلى مدارسهم غالباً ما تكون محفوفة بأخطار اعتداءات المستوطنين. وعلاوة على ذلك، فإنّ انخفاض موازنة التعليم المخصصة للمدارس الحكوميّة والأونروا يهدد جودة تعليم الأطفال الفلسطينيين في فلسطين أو لبنان أو الأردن، حتى أن كثيراً من أطفال اللاجئين الفلسطينيّين الذين نزحوا من الحرب السورية إلى الأردن أو لبنان، لا يتلقون أيّ تعليم على الإطلاق، بسبب النقص في الموارد. وفي إسرائيل، تميّز منظومة التعليم الإسرائيليّ أطفال فلسطينيي 48 عن أطفال اليهود الإسرائيليين.
وأخيراً، يتوجّب أن نشير إلى الاعتقالات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي بحق الأطفال الفلسطينيّين، حيث يُبلّغ كل شهر عن أطفال اعتُقلوا لرميهم –أو الاشتباه برميهم- الحجارة على الجنود الإسرائيليّين أو المستوطنين، ويُحكمون بسبب هذه التهمة بالسجن أشهراً، أو ربما أعواماً. وتشير إحصاءات إلى أن أكثر من نصف عدد الأطفال (53 في المئة) المسجونين تم اعتقالهم من منازلهم بين منتصف الليل والخامسة صباحاً، ويتعرّضون داخل سجنهم في الساعات الـ48 الأولى لاعتقالهم لسوء معاملة منهجيّ، ويُمنعون من حقهم في الوصول إلى محامٍ قبل إنهاء استجوابهم، ويحاكمون أمام محاكم عسكريّة.
وبالأرقام: فقد اعتقل الجيش الإسرائيليّ وقدّم إلى المحكمة في العقد الماضي فقط، نحو 7,000 طفل فلسطينيّ تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عاماً. وفي نهاية آذار/ مارس من سنة 2014، كان هناك 181 طفلاً فلسطينيّاً داخل السجون العسكريّة أو مراكز الاحتجاز، وغالباً في إسرائيل، حيث لا تتمكن أسرهم من زيارتهم.
وتشكّل الظروف المعيشيّة للأطفال الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة وقطاع غزة وفي كل البلدان التي استقبلت لاجئين، تراكماً لعوامل خطر تؤدي إلى إعاقة نموهم المعرفيّ والعاطفيّ، حيث يشكو بعضهم، ممن تعرّض لصدمات شديدة، مشكلات نفسية خطيرة تتطلّب رعاية مستمرة، في حين يُظهر آخرون في كثير من الأحيان زيادةً في وتيرة الاضطرابات السلوكيّة (النشاط المفرط، العدوانية، سرعة الانفعال)، واضطرابات عاطفيّة (الأرق، القلق، أنواع مختلفة من الخوف، الاكتئاب والاضطرابات النفسيّة الجسيمة)، واضطرابات التعلم (الصعوبات في التركيز والفشل في المدرسة)، وهذه ردود فعل طبيعيّة تجاه وضع غير طبيعي.
وبالإضافة إلى الوزارات المعنيّة في فلسطين والمنظمات غير الحكوميّة الدوليّة الكبيرة ووكالات الأمم المتحدة التي تنشط على الأرض في فلسطين، فإنّ الأهم منها تلك المنظمات غير الحكوميّة المحليّة التي توفّر الدعم المناسب، ومنها: "المركز الفلسطينيّ للإرشاد"، و"مركز الإرشاد والتدريب للطفل والأسرة"، و"جمعيّة بيت لحم العربيّة للتأهيل" و"برنامج غزة للصحة النفسيّة في فلسطين".
وتعالج الأونروا احتياجات الصحة النفسيّة ليس في فلسطين فحسب، بل وفي لبنان أيضاً، حيث تعمل بالتعاون مع مراكز الإرشاد والتوجيه الأسري، مثل "جمعية النجدة الاجتماعية"، و"مؤسسة غسان كنفاني" وغيرهما. ومع ذلك، فإنّ الاحتياجات النفسيّة والاجتماعيّة للأطفال الفلسطينيّين لا تزال هائلة.
الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال – فرع فلسطين:
http://arabic.dci-palestine.org/
"حياة مجزأة: نظرة عامة على الأوضاع الإنسانية في عام 2013". مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في:
-شطي، نور الضحى وجيليان لواندو هونت. "الأطفال والمراهقون في الأسر الفلسطينية: العيش في ظل تأثيرات النزاع طويل الأمد والهجرة القسرية: دراسة إقليمية". أكسفورد: جامعة اكسفورد، مركز دراسات اللاجئين، 2001.
منصور، سيلفي. "الطفولة الصعبة في غزة". مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 54، ربيع 2003.
منصور، سيلفي. "يأس أطفال فلسطين: "هيك هيك نِحْنا ميّتين!" مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 73، شتاء 2008.
"نشرة الأطفال والنزاعات المسلحة". تقرير تصدره اليونيسيف كل شهرين:
"وضع الأطفال الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والأردن، وسوريا ولبنان: تقييم في ضوء معاهدة حقوق الطفل" (بالإنكليزية) في:
محتوى ذو صلة
اقتصادي - اجتماعي سياساتي - برامجي
التربية والتعليم لدى الفلسطينيين في إسرائيل
نضال من أجل التحرر من نظام التهميش