يعيش اللاجئون الفلسطينيّون في لبنان على هامش المجتمع اللبنانيّ، وشكّلت الأزمات والاضطرابات والضغوط المستمرة سمة حياتهم فيه منذ سنة 1948. كانت المزايا التي مُنحت للفلسطينيين في لبنان والمخاطر التي تعرضوا لها حزمة متضاربة ساهمت مجتمعة في تعزيز حضور حركة المقاومة الفلسطينية في سبعينيّات القرن الماضي وثمانينيّاته ثم في قمعها.
في سنة 2014 كان نصف عدد اللاجئين المسجّلين لدى الأونروا، والبالغ 455 ألفاً، يعيشون في اثني عشر مخيماً مكتظة وذات بنى تحتية متهالكة أنشئت لإيواء أجدادهم الذين فرّوا من فلسطين بعد نكبة 1948. ويواجه الفلسطينيون في لبنان التمييز الاجتماعيّ والقانونيّ الشديد في العمل وحيازة الممتلكات والبناء داخل المخيمات وتشكيل الجمعيات الأهلية، وباختصار فإنّهم يعيشون بؤساً ماديّاً وخوفاً وانعداماً للأمن.
خلال نكبة 1948 رحل 110 آلاف فلسطينيّ إلى لبنان معظمهم من القسم الشماليّ من فلسطين، من قرى الجليل والمدن الساحليّة، كيافا وحيفا وعكا، وتعلق اندماجهم في المجتمع اللبنانيّ على خلفياتهم الاجتماعيّة والدينيّة والطبقيّة، حيث استقرّت الطبقتان الوسطى والثريّة منهم في البلدات والمدن. كان في وسع الفلسطينيين الأثرياء، مسيحيّين ومسلمين، الحصول على الجنسية اللبنانية إذا رغبوا، أما اللاجئون الفقراء، من الريف كانوا أم من المدن، فلم يكن أمامهم سوى اختيار أحد مخيّمات اللجوء الرسميّة الخمسة عشر وعدد من التجمعات الريفيّة للاستقرار.
تم خلال الحرب الأهلية اللبنانية تدمير ثلاثة من المخيمات الفلسطينية في لبنان، أبرزها تل الزعتر، ولا يزال فيه حالياً اثنا عشر مخيماً: خمسة في الجنوب، وثلاثة في بيروت، وثلاثة في الشمال، وواحد في وادي البقاع.
مع مرور الزمن تغيّرت معاملة الدولة اللبنانيّة الفلسطينيّين، بعد أن كانوا مرحباً بهم من معظم اللبنانيّين في العقد الأول لنزوحهم، حين حسبوه نزوحاً موقّتاً، ولكن في أعقاب الاضطرابات اللبنانيّة سنة 1958، قام الرئيس فؤاد شهاب باستخدام مكتب الاستخبارات العسكريّة (المعروف أيضاً باسم المكتب الثاني)، فضلاً عن الشرطة، للسيطرة على المخيّمات.
تميّزت هذه الفترة بما اتخذ فيها من تدابير قمعيّة ولاإنسانيّة ومهينة بحق الفلسطينيّين، فقد كانوا مقيّدين بشدة في جميع مناحي الحياة، إلى درجة أنهم كانوا يحتاجون إلى تصاريح من أجل زيارة المخيّمات الأخرى، ولم يكن يُسمح لهم بعقد الاجتماعات ذات الطابع غير العائليّ، كما كان يُحظر عليهم الاستماع إلى الراديو أو قراءة الصحف، وكان بناء أو إصلاح المنازل في حاجة إلى تصريح يتعذّر الحصول عليه، ولم تتوافر الحمّامات الخاصّة أو شبكات الصرف الصحيّ في المخيمات، وكان يتوجّب على كلّ شخص، صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، المشي للوصول إلى المراحيض العامة، سواء في الليل أو النهار، وأخيراً لم يكن يُسمح للاجئين أن يتخلّصوا من مياه الغسيل في مصارف الشوارع المفتوحة خارجاً، وكان ينبغي عليهم السير إلى منطقة محدّدة للتخلّص من المياه المستخدمة. وإضافة إلى هذه الممارسات، كان الفلسطينيّون يتعرّضون للمضايقات اليوميّة والإذلال والابتزاز والاعتقالات، وأحياناً التعذيب على أيدي ضباط الشرطة.
أذكى هذا الوضع المزري لدى الفلسطينيين، إضافة إلى تداعيات طردهم من بلادهم، شرارة التمرد والبحث عن تغيير ظروف حياتهم في ستينيّات القرن المنصرم، بعد أن ولّدت الزيادة في مستويات التعليم، بسبب الخدمات التي تقدّمها "أونروا"، جيلاً من المتعلمين والمهنيّين الشباب الذين سوف يصبحون قادة الثورة على الأوضاع القائمة، وخصوصاً إثر هزيمة الجيوش العربيّة على يد إسرائيل في سنة 1967، فانتشرت في سنة 1969 "ثورة" غير مخطّط لها داخل مخيمات لبنان، عندما قام السكان بطرد المكتب الثاني الذي يكنّون له كراهيةً شديدةً، ما بشّر بتحرير قرار المخيّمات في لبنان، عندها شعر الفلسطينيّون بأنّهم قد استعادوا احترام ذاتهم وعزتهم وكبرياءهم وكرامتهم، وبأنّهم عادوا يسيطرون على مصيرهم ويناضلون ضمن حركة جماهيرية من أجل العودة إلى ديارهم.
قادت انتفاضة الفلسطينيّين الجماهيريّة إلى توقيع اتفاقيّات القاهرة في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 1969 بين ياسر عرفات (الذي تولّى رئاسة منظمة التحرير الفلسطينيّة في الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني في شباط/ فبراير 1969) وبين قائد الجيش اللبنانيّ، إميل البستاني، التي منحت الفلسطينيّين الحقّ في إدارة مخيّماتهم، والانخراط في الكفاح المسلّح بالتنسيق مع الجيش اللبنانيّ.
عندما تطوّرت حركة المقاومة الفلسطينيّة إلى قوة رئيسيّة في لبنان، زادت من هجماتها المسلحة ضد إسرائيل، التي صعّدت بدورها هجماتها الجويّة والبحريّة والبريّة ضد لبنان، متسبّبة بوقوع أعداد كبيرة من القتلى بين المدنيّين اللبنانيّين والفلسطينيّين، والحد الأدنى من الخسائر بين مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينيّة، الذين كانوا هم الهدف المفترض لأيّ هجوم، وكان هذا تكتيكاً إسرائيلياً لتنفير اللبنانيّين من منظّمة التحرير الفلسطينيّة وزيادة حدّة التوتّرات الفلسطينيّة - اللبنانيّة. وبالإضافة إلى ذلك، أصبح الفلسطينيّون هدفاً للميليشيات اللبنانية المسيحيّة اليمينيّة، فإثر اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 نيسان/ أبريل 1975)، حوصر في سنة 1976 مخيما تل الزعتر وجسر الباشا، ووقعت مجازر شعواء في حق الفلسطينيين واللبنانيين، حيث قُدر عدد الذين قُتلوا في تل الزعتر وحده عند استسلامه بنحو 4 آلاف، بما في ذلك 1500 من سكان المخيّم.
وبتحالفهم مع الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، زجّ الفلسطينيّون أنفسهم في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ومع انهيار الدولة اللبنانيّة واصلت منظّمة التحرير الفلسطينيّة توسيع نفوذها، فاتُّهمت بتشكيل "دولة داخل دولة". وفي صيف سنة 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان وطردت قوات منظمة التحرير الفلسطينية منه، لتلي ذلك مجازر وحصارات في حق الشعب الفلسطيني في لبنان، وتدمير جزء كبير من البنى التحتيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، فما بين 16 و 18 أيلول/ سبتمبر 1982، قامت ميليشيا الكتائب بدعمٍ من إسرائيل، بذبح أكثر من 3000 من المدنيّين الفلسطينيّين واللبنانيّين في مخيم وشاتيلا وحي صبرا، وتلا المجزرة سلسلة من الحصارات المُحكمة والتفجيرات العنيفة التي قامت بها ميليشيا أمل في عدة مخيّمات للفلسطينيين في بيروت والجنوب، من العام 1983 وحتى العام 1987، وهو العام الذي شهد قيام البرلمان اللبناني بإلغاء اتفاقيات القاهرة.
وشكلت نهاية الحرب الأهليّة في العام 1990 بشرى سارة للبنانيين، لكنها جلبت للاجئين الفلسطينيين استفحالاً في حالات انعدام الأمن وتهميشاً إضافياً، فتم إخلاؤهم من الأحياء شبه المهدمة التي كانوا لجأوا إليها خلال الأحداث، كما عانوا من تقليصات في خدمات الأونروا. وبالإضافة إلى ذلك، تمّ في العام 1994 تهميش ذكر حقوق اللاجئين الفلسطينيين بعد توقيع اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينيّة وإسرائيل وإقامة السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة على الضفة الغربيّة وقطاع غزة، وابتداءً من ذلك التاريخ تمّ حجب التمويل على نحوٍ خطير عن منظمة التحرير الفلسطينيّة من كلٍّ من القيادة الفلسطينيّة والمجتمع الدوليّ، فحُوِّل بالتالي التمويل من المنظّمة إلى السلطة، وبذلك تمّ دفع اللاجئين، الذين كانوا سابقاً محور الحركة الوطنيّة، إلى الهامش. وشعر فلسطينيو الشتات بالخيانة، وبات اللاجئون يخشون تخلّي قيادتهم عن حقّهم بالعودة وتركهم أمام انهيار شبه كامل لجميع المؤسّسات التي أنشأتها منظّمة التحرير الفلسطينيّة وفجوةِ خدمات جِدّيّة وخطيرة، تضاف إلى محدودية فرص العمل أمامهم.
على الرغم من وجودهم الطويل في لبنان، تم استبعاد اللاجئين الفلسطينيّين من الجوانب الرئيسيّة للحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة في البلاد، وفقاً للمبدأ القانوني القاضي بالمعاملة بالمثل، فهم إذ تم تعريفهم بموجب القانون "أجانب"، فقد تمّ منعهم من مزاولة أكثر من ثلاثين مهنة، منها جميع المهن الحرّة، ولم تضِف تعديلاتٌ أُجريت على أنظمة العمل اللبنانية سنة 2010 شيئاً يُذكر لتغيير وضع اللاجئين الاجتماعي.
نص مبدأ المعاملة بالمثل على أنّ معاملة الأجنبي (والفلسطينيّ اعتُبر أجنبياً) في لبنان محكومة بمعاملة الرعايا اللبنانيّين في الدولة التي أتى منها الأجنبي، ولمّا لم تكن هناك دولة اسمها فلسطين فإنها كانت فرصة لاستبعاد الفلسطينيّين من سوق العمل أولاً ومن حيازة الممتلكات ثانياً، وهما عاملان دفعا الفلسطينيين إلى العمل بصورة غير قانونية والعيش بمقدار كبير من عدم الاستقرار بسبب عدم القدرة على تملك منزل للسكن، ما دفع كثيراً منهم إلى الهجرة، حيث أظهرت دراسة أجريت سنة 2010، أنّ نصف عدد اللاجئين المسجّلين لدى "أونروا" فقط كانوا يقيمون في لبنان، بينما توخّى الباقون العمل في دول الخليج وأوروبا.
وبالإضافة إلى الهم المعيشي، اضطر اللاجئون الفلسطينيّون في أحيان كثيرة إلى عيش خوف دائم على حياتهم التي باتت محفوفة بالمخاطر ويمكن أن تسلب في أيّ لحظة، مع إفلات الجناة من العقاب، ومثال على ذلك تجربتهم سنة 2007 في مخيم نهر البارد، الثاني الأكبر في لبنان، الذي دمرته مواجهة دامت مائة يوم بين الجيش اللبناني وبين مجموعة غير فلسطينيّة تدعى "فتح الإسلام"، وخلّفت سكانه الـ33 ألفاً مشرّدين وبلا مأوى، وعلى رغم ذلك لم يُعَدْ حتى 2014 (إثر مرور سبعة أعوام) بناء سوى أقل من نصف المخيّم.
وعلى رغم القيود، ساهم اللاجئون الفلسطينيّون في لبنان بشكل كبير وهام في الاقتصاد والحياة الثقافية، حيث تشير تقديرات إلى أنّ مساهمتهم تمثّل ما يقرب من 10 في المئة من استهلاك القطاع اللبنانيّ الخاص، وأنّ حجم التحويلات الماليّة المرسلة من الفلسطينيّين في الخارج كان حوالى 62 مليون دولار سنويّاً، و91 في المئة من الأسر كانت تضمّ عضواً واحداً على الأقل منخرطاً في سوق العمل (وإن من دون تصريح ساري المفعول)، كما وفّر الفلسطينيّون المهارات العمليّة في البناء والزراعة والصناعة والتجارة والنقل وتكنولوجيا المعلومات والتعليم والصحة، بالإضافة إلى إنشاء الأثرياء منهم العديد من الشركات، بما في ذلك المصارف الرئيسيّة الكبرى وشركات المقاولات والبناء، التي خلقت فرصاً للعمل وعملت على رواج الاقتصاد اللبنانيّ. كما ساهم الفلسطينيّون أيضاً في الحياة الفكريّة للعاصمة اللبنانيّة بيروت، من خلال تأسيس مراكز البحوث ودور النشر.
حنفي، ساري وجاد شعبان وكارين سيفيرت. "الإقصاء الاجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان: تأملات في الآليات التي تعزّز فقرهم الدائم". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 91، صيف 2012.
صايغ، روزماري. "الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع الى الثورة". تقديم إبراهيم أبو لغد، ترجمة خالد عايد. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1980.
صايغ، يزيد. "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
لجنة المتابعة لعمل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ووكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى. "رسم خريطة سوق عمل اللاجئين الفلسطينيين". لجنة المتابعة لعمل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان،2007.
الناطور، سهيل. "أوضاع الشعب الفلسطيني في لبنان". بيروت: دار التقدم العربي, 1993.
محتوى ذو صلة
عمل شعبي سياساتي - برامجي
مذكّرة فلسطينيّة إلى لجنة الأمم المتحدة للتوفيق بشأن فلسطين، رام الله
1951
تموز 1951
دبلوماسي سياساتي - برامجي
اتفاق القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية
1969
3 تشرين الثاني 1969
عمل شعبي قانوني
اللاجئون الفلسطينيون في الضفة الغربية
تصميم على التأثير بلا هوادة في جدول الأعمال الوطني
نص تاريخي
نص اتفاق القاهرة المعقود ما بين السلطات اللبنانية والمنظمات الفدائية الفلسطينية
3 تشرين الثاني 1969