خاضت إسرائيل إثر بدئها حرب لبنان سنة 1982، الذي هدفت منه إلى إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية عسكريّاً وسياسيّاً وتحويل الحرب الأهلية اللبنانية لصالح حلفائها من اليمين اللبناني، صراعاً امتد لثلاثة أشهر أُقحمت فيه قوى عسكريّة أخرى في قلب بيروت ، من بينها القوات السورية ومختلف الميليشيات اللبنانية، وفي نهاية المطاف قوة متعدّدة الجنسيّات لحفظ السلام. كانت الحرب مدمّرة بشكل هائل، سواء من حيث الضحايا في الأرواح أو الخسائر في الممتلكات أو من حيث تمزيق نسيج لبنان السياسيّ، الممزّق أصلاً بفعل الحرب الأهليّة.
أسفرت الحرب عن احتلال إسرائيليّ أجزاء من جنوب لبنان استمر حتى سنة 2000، محقّقة نكسة كبرى لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة وزعيمها ياسر عرفات ، الذي اضطر إلى مغادرة لبنان وإنشاء مقر جديد لمنظمته في تونس . ومن بين لحظات الحرب الأكثر بروزاً وتميّزاً مجزرة صبرا وشاتيلا المشينة، التي قام خلالها مقاتلو قوات الكتائب اللبنانية ("القوات اللبنانية ")، تدعمهم إسرائيل، بقتل ما يزيد على ثلاثة آلاف من المدنيّين الفلسطينيّين.
كان الاجتياح الإسرائيلي واستمرار احتلال جنوب لبنان مثار جدلٍ كبير، سواء في إسرائيل أو في الخارج، وشكّل نقطة تحوّل في ما يتعلّق بالتصوّرات العالميّة لإسرائيل والفلسطينيين. وأخيراً، أدّت الحرب إلى نقل مركز المقاومة الفلسطينيّة من الخارج وإعادته إلى فلسطين التاريخية نفسها، بينما ساعدت على الصعيد الدولي في حفز البحث عن السبل الدبلوماسية لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
في أعقاب طردها من الأردن بين عامي 1970-1971، بدأت قوات منظّمة التحرير الفلسطينيّة تنظيم صفوفها في ساحة جديدة، في لبنان، وجعلت من بيروت مقرّها الجديد. وعندما اندلعت الحرب الأهليّة اللبنانيّة في سنة 1975، شارك الفلسطينيّون إلى جانب ائتلاف القوى اليساريّة، وكان معظمها من المسلمين والدروز، في قتال الميليشيات اليمينيّة (التي يهيمن عليها حزب الكتائب)، ومعظمها من المسيحيين الموارنة.
حدَّت سيطرة القوات السورية، منذ حزيران/ يونيو سنة 1976، على أجزاء من لبنان، من غلواء الفترة الدمويّة الأولى من الحرب الأهليّة في لبنان، لكنها لم تنهِها. وبحلول أواخر السبعينات، تموضع مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية في معظم أنحاء البلاد، ولا سيّما في جنوب لبنان، ومن هناك انطلقوا لشنّ هجمات داخل الاراضي الإسرائيليّة. وفي محاولة لإبعاد مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية عن المنطقة الحدوديّة وإقامة منطقة عازلة تخضع لسيطرة ميليشيات موالية، غزت القوات الإسرائيليّة جنوب لبنان في آذار/ مارس سنة 1978، وأقامت شريطاً عازلاً سلّمت إدارته إلى ميليشيا لبنانية موالية لإسرائيل. غير أن المقاتلين الفلسطينيّين أعادوا تنظيم صفوفهم واستمروا في شن الهجمات على المواقع الإسرائيلية.
وبعد أن أزالت معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية سنة 1979، التهديد الاستراتيجيّ للجيش المصريّ من الجبهة الجنوبية لإسرائيل، ونظراً لهدوء الجبهتين الأردنية والسورية شرقاً، شعرت الحكومة الإسرائيليّة بزعامة رئيس الوزراء مناحيم بيغن ووزير الدفاع أريئيل شارون ، بالحرية في إطلاق يد الجيش الإسرائيلي ليس فقط لتدمير ما يُقدّر بما بين 15,000 إلى 18,000 من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وإزالة خطرهم إلى الأبد، بل وتخليص حدود إسرائيل الشماليّة من قوة معادية شكلت على الدوام إزعاجاً لها، وإضعاف نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلَّين، اللذين كانت حكومة بيغن منهمكة في تكثيف إقامة المستوطنات اليهوديّة فيهما بغية إبقاء السيطرة عليهما. كانت لدى شارون آمال طموحة باقتلاع ما يقارب الـ 30,000 من عديد القوات السوريّة التي تواجدت في أجزاء من لبنان منذ سنة 1976، وبدعم زعيم "القوات اللبنانية" بشير جميّل ليصبح رئيساً للبنان، لدفع لبنان إلى توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل.
وعلى رغم اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية كانت رعته بشكل غير مباشر الحكومة الأميركيّة في تموز/ يوليو 1981 وأدى إلى فترة من الهدوء على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية، اتخذت إسرائيل في 6 حزيران 1982 محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في
خاض مقاتلو منظمّة التحرير الفلسطينيّة والميليشيات اللبنانية المتحالفة مع المنظمة معارك ضارية مع الإسرائيليين، في حين أسفرت معارك الدبّابات والحرب الجويّة بين القوات الإسرائيلية والسورية على أرض لبنان، إلى فقدان ما يزيد على 80 طائرة سورية.
ووصل الإسرائيليون بسرعة إلى بيروت الغربية ، حيث يقع مقر منظمة التحرير الفلسطينية، وطوّقوها وفرضوا عليها حصاراً دامَ طوال فصل الصيف، قامت خلاله الطائرات والدبّابات وقطع المدفعية والسفن الإسرائيلية بقصف مدمر للمدينة قارَبَ الاثني عشر أسبوعاً، في محاولة لإجبار منظمة التحرير الفلسطينية على الاستسلام، ولم يتراجع الحصار على رغم الأضرار التي لحقت بصورة إسرائيل عندما شاهد العالم الصور المتلفزة للحصار والتدمير الشديدين للمدنيّين المحاصرين في بيروت الغربية وأملاكهم.
وافق رئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية المحاصرة في نهاية المطاف على إخلاء لبنان بموجب اتفاقية بوساطة أميركيّة دخلت حيز النفاذ في 19 آب/ أغسطس 1982، فغادر تحت حماية قوة متعدّدة الجنسيّات من الجنود الفرنسيّين والإيطاليّين والأميركيّين مع نحو 14,000 من مقاتلي المنظمة المدينة إلى تونس وبلدان عربية أخرى، وأنشأ عرفات في العاصمة التونسية مقر منظمة التحرير الفلسطينية الجديد، وبموجب الاتفاقية أيضاً كان من المفترض بهذه القوة ضمان سلامة اللاجئين الفلسطينيّين في المدينة وعدم السماح للقوات الإسرائيليّة بدخول بيروت الغربية.
في الشهر ذاته، انتُخب حليف إسرائيل بشير جميّل رئيساً للبنان، بيد أنّه اغتيل في 14 أيلول/ سبتمبر، بعد أيام فقط من مغادرة القوة متعددة الجنسيّات، ليقوم الجيش الإسرائيلي في اليوم التالي مباشرة باحتلال بيروت الغربية بعد أن لم تعد ثمّة قوة مسلحة تمنعه من ذلك إثر مغادرة المقاتلين الفلسطينيين، فسمح لميليشيا "القوات اللبنانية" التي حمّلت الفلسطينيّين المسؤولية عن اغتيال جميّل، بدخول مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيّين وحي صبرا في 16 أيلول وارتكاب مجزرة في حق المدنيين الفلسطينيين العزّل ذهب ضحيتها أكثر من 3,000 لاجئ فلسطيني ومئات المواطنين اللبنانيين والعرب، بينما كان الجنود الإسرائيليّون يحاصرون المخيّمين لمنع اللاجئين من الهروب، ويطلقون القنابل المضيئة لإنارة المنطقة مع تواصل المذبحة طوال الليل. وفي إسرائيل، اضطرت الحكومة إلى تشكيل لجنة خاصة للتحقيق في المسؤولية الإسرائيليّة عن المذبحة (لجنة كاهان )، فوجدت أن القوات الإسرائيليّة "مسؤولة بشكل غير مباشر" عن المجزرة، واضطر شارون إلى الاستقالة من منصبه وزيراً للدفاع. وتبقى مجزرة صبرا وشاتيلا في سنة 1982، إلى جانب مجزرة قرية دير ياسين في سنة 1948، في الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني والعربي من أحلك أيام الشعب الفلسطينيّ وأكثرها إيلاماً.
تختلف التقديرات بشأن عدد قتلى اجتياح إسرائيل لبنان في سنة 1982، إذ من الصعب تحديده بدقة، وتشير أقرب التقديرات إلى أن ما بين 17,000 و19,000 من اللبنانيّين والفلسطينيين والسوريّين - مدنيّين ومسلحين - لقوا حتفهم في الحرب، بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيّين الذين قُتلوا في صبرا وشاتيلا، وأن الجيش الإسرائيلي فقد 376 جنديّاً في الفترة من حزيران إلى أيلول 1982.
لم تستطع منظمة التحرير الفلسطينيّة إثر حرب 1982 العودة مرة أخرى إلى تنظيم صفوفها وتشكيل قوة عسكرية معتبَرة، ولذا بدأت على نحو متزايد بالتطلع إلى حلول دبلوماسيّة للصراع العربيّ- الإسرائيليّ. لكن المفارقة المهمة بالنسبة إلى إسرائيل، أن الحرب واستمرار احتلالها جنوب لبنان، أدّيا إلى تشكيل ميليشيا "حزب الله
"، التي استطاعت مع نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين، الحلول محل منظمة التحرير الفلسطينية وتشكيل تهديد استراتيجي أكبر لشمال إسرائيل، إضافة إلى أن إنزال ضربة شبه قاصمة بمنظمة التحرير الفلسطينية وتشريدها نقَلا المقاومة الفلسطينيّة إلى الضفة الغربيّة المحتلّة وقطاع غزة، اللذين ستتصاعد فيهما في وقت لاحق التحركات النضالية الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى. كما دفعت الحرب أيضاً كلاً من الحكومة الأميركيّة و
درويش، محمود. "ذاكرة ... للنسيان؛ الزمان: بيروت، المكان: يوم من أيام آب 1982". بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987.
خوري، إلياس. "زمن الاحتلال". بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1985.
سليمان، جابر. "15عاماً على حزيران/يونيو 1982: شهادات عن معركة "برج الشمالي" ومجازر القصف الإسرائيلي". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 32، خريف 1997.
صايغ، يزيد. "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
مؤسسة الدراسات الفلسطينية، "الاجتياح الإسرائيلي للبنان، 1982: دراسات سياسية وعسكرية". نيقوسيا: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984.