غدت حيفا مركزاً كوسموبوليتانياً وحاضنة للوطنية الفلسطينية الصاعدة في القرن العشرين، وخصوصاً خلال فترة الانتداب البريطاني. فقد اجتذب إنشاء سكة حديد الحجاز في سنة 1908، ثم الميناء البحري في سنة 1933، مهاجرين من أنحاء فلسطين والعالم العربي إلى حيفا بحثاً عن فرص العمل. وطوّرت المدينة نمط حياةٍ عصرياً، اعتمد على العلاقات المدنية والحريات الفردية المتنامية، بما في ذلك حقوق النساء. واكتسبت النشاطات الترفيهية والثقافية مكانة مركزية في هذه التحوّلات، إذ تبارت الفئات الدينية المحلية، ورجال أعمال القطاع الخاص، وروابط مهنية متعددة في تنظيم الفعاليات الثقافية في فضاءات حيفا العامة. وفسحت نوادٍ فلسطينية متنوعة ومسارح وقاعات سينما ومقاهٍ المجال لتقديم عروضٍ لفنانين محليين ومطربين مشهورين من العالم العربي، بمن فيهم أم كلثوم وفريد الأطرش.
لكن هذه التطورات لم تدم إذ إن حيفا فقدت زهاء 95% من سكانها الفلسطينيين في النكبة، بمن فيهم نخب المدينة الاقتصادية والثقافية، الذين طُرد معظمهم إلى لبنان. ووقعت المدينة تحت الحكم العسكري الإسرائيلي (1948 – 1966)، وحُصر السكان الفلسطينيون الباقون في حيي وادي النسناس والحليصة. وعانى الفلسطينيون المنكوبون الذين بقوا داخل حدود إسرائيل، منقطعين عن بقية العالم العربي والشعب الفلسطيني، عقوداً من التهميش. وكان الحزب الشيوعي التنظيمَ السياسي الوحيد الذي حافظ على حضوره بعد النكبة، غالباً بفعل تكوينه العربي- اليهودي وأجندته الأممية. وجعلت مواقفه اللاصهيونية منه ملجأً للقلة الباقية من المثقفين الفلسطينيين، من أمثال محمود درويش وإميل حبيبي وإميل توما وحنا أبو حنا والعديد غيرهم. وشكّل الشعر، بسبب قدرته على الالتفاف على الرقابة، الوسيلة الأولى للتعبير الثقافي المتاح في ظل الحكم العسكري. فقد جرى تنظيم مهرجانات شعرية في أنحاء البلد، ونُشرت الأعمال الأدبية في الصحيفة اليومية للحزب، "الاتحاد" (1944- ) ودوريته الثقافية "الجديد" (1951-1991)، وكانت طباعة كلا المنبرين تتم في حيفا.
هدفت إسرائيل، في العقد الأول الذي تلى النكبة، إلى عزل الفلسطينيين الذين بقوا داخل حدودها ومحاصرتهم. لكنها بذلت، منذ العقد الثاني، جهداً لاستيعابهم. وقدمت المؤسسات المموّلة من الدولة وبلدية حيفا برامج ثقافية غير مسيّسة لـ"العرب الإسرائيليين" من سكان المدينة. ومن الأمثلة لذلك معهد روبين، وكذلك نادي ’هَنُوعَر هَعُوفيد فـِ هَلوميد’ (الشباب العامل والمتعلم) التابع لاتحاد النقابات الصهيونية، ’الهستدروت’. لكن الأبرز كان ’بيت هَغيفِن’ (بيت الكرمة) الذي أُنشِئَ في سنة 1963 لتقديم التدريب على الموسيقى والمسرح باللغة العربية.
وشهد عقد الخمسينيات بداية الهجرة الفلسطينية الداخلية إلى حيفا، في إطار السعي من أجل فرص العمل والتعليم، وقد ازدادت الهجرة بعد انتهاء الحكم العسكري وتكوّنت بالأساس من المهجّرين داخلياً، والذين استقرّوا في الأحياء الفلسطينية التاريخية للمدينة، فيما انتقل السكان اليهود بالتدريج إلى أحياء حديثة بنيت على جبل الكرمل.
أدت حيفا أيضاً دوراً مهماً في مجال التعليم، والذي كان ضرورياً لتمكين الوضع الاقتصادي لدى الفلسطينيين في الداخل. وكانت الكلية العربية الأرثوذكسية، التي تأسست سنة 1952، المدرسة الأولى التي وفّرت للطلبة الفلسطينيين في الداخل، ذكوراً وإناثاً، تعليماً ثانوياً كاملاً. وبلغ تطور النظام التدريسي للفلسطينيين أوجه في العقدين التاليين مع إنشاء جامعة حيفا سنة 1963، التي ساهمت بشكل كبير في تعليم الفلسطينيين، وخصوصاً النساء، اللواتي أصبح بإمكانهن التنقل بين منطقتي الجليل والمثلث والمدينة. وخلال تلك الفترة، بدأ الفلسطينيون أيضاً باكتساب مهارات وتدريبات في الفنون في المؤسسات الإسرائيلية، لكنهم افتقدوا فضاءات يعبّرون فيها عن مشاعرهم الوطنية بحرية.
وخلال السبعينيات والثمانينيات الماضية، ظهر عدد قليل من المبادرات الفلسطينية المستقلّة في حيفا. فتأسس ’المسرح الحرّ’ في سنة 1973، حين بدأ ممثلون شبّان يشككون في جدوى الشراكة مع المركز الثقافي الإسرائيلي ’بيت هَغيفِن’. لكن هذا المسرح لم يلبث أن أقفل أبوابه بعد عام من ذلك، بسبب صعوبات مالية. وفي حين غادر بعض الممثلين العمل المسرحي ككل، قام آخرون بتأسيس ’المسرح الناهض’، الذي كان يعمل تحت إدارة ’بيت هَغيفِن’ ولجنة مستقلة، لكنه بدوره لم يعمّر سوى أربعة أعوام. وفي أواخر الثمانينيات، التقى ستة من الشبّان ليؤسسوا فرقة موسيقى الروك التي حملت اسم ’الشاطئ’، وغنّوا عن الحياة المدينية حين كان التعبير الاجتماعي والسياسي محدوداً. وبعد تسجيل ألبومين وبضع سنوات من الحفلات الموسيقية الناجحة في حيفا والبلدات المجاورة، توقفت الفرقة عن العمل إذ إن الجمهور لم يعد بإمكانه دفع ثمن التذاكر، كما افتقرت الفرقة إلى المسارح المحلية والعلاقات المهنية التي تتيح لها تنظيم حفلات موسيقية في الخارج.
في نهايات التسعينيات الماضية، أخذ مشهد ثقافي فلسطيني مستقل يظهر في حيفا. وساهمت عدة عوامل في هذا الاتجاه. أولاً، أدى تخلّي الدولة عن نموذج الاقتصاد الممركز منذ الثمانينيات إلى مرونة في سوق العمل، وحسّن من الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في الداخل. وأدّى تزايد أعداد خريجي الجامعات إلى التنوع المهني، وإلى توسّع القطاع الخاص، والأعمال الحرّة. ومع زيادة عدد النساء الفلسطينيات في سوق العمل، ارتفع عدد العائلات ذوات الدخل المزدوج، وتراجعت نسبة الولادة. ومع أن مستوى المعيشة لم يتحسّن بشكل متساوٍ لجميع الفلسطينيين في الداخل، إلاّ إن هذا التغيّر الانتقائي أدى الى تشكُّل طبقة وسطى فلسطينية. وبدأ جيل ثانٍ من هذه الطبقة من سكان حيفا، نشأ في بيئة أكثر رفاهية، يثري المشهد الثقافي للمدينة في أواخر التسعينيات الماضية.
علاوة على ذلك، تغيّر المشهد الثقافي الفلسطيني من مشهد كان يعتمد على الأحزاب السياسية إلى مشهد يعتمد على مؤسسات المجتمع المدني والمشاريع التجارية، وهو ما قاد إلى التنوّع والحريات الفنية. ومع تشكّل السلطة الفلسطينية في أراضي 1967 بعد ’اتفاقات أوسلو’، طالب الفلسطينيون في إسرائيل بحقوق ثقافية جماعية من خلال استقلال ذاتي ثقافي. وأُنشئ المسرح الوطني العربي، ’الميدان’، في سنة 1994 بتمويلٍ حكومي، لكن مطلب الاستقلال الذاتي واجه رفضاً رسمياً من الكنيست الإسرائيلي (وفي النهاية أُغلق المسرح سنة 2015 بعد ملاحقة سياسية). مع ذلك، تحقق السعي نحو الاستقلال الذاتي الثقافي كأمرٍ واقع، إذ قامت منظمات المجتمع المدني الفلسطيني بإنشاء مؤسسات مستقلة خارج سيطرة الدولة المباشرة. وأقيم في حيفا عدد كبير من أبرز المنظمات الفلسطينية غير الحكومية في الداخل، والبعض منها تخصّص في النشاطات الثقافية. إحدى هذه المنظمات، جمعية الثقافة العربية، أُنشئِت في الناصرة سنة 1998، لكنها انتقلت إلى حيفا سنة 2013. وبالتوازي، افتُتح عدد متزايد من المقاهي والحانات بإدارة فلسطينية، والتي فسحت المجال لعروض ومعارضَ صغيرة لفنانين فلسطينيين. وأخذت هذه المشاريع تظهر في الحي الألماني في المدينة في أواخر التسعينيات الماضية، بدءاً بمقهى ومطعم ’فتّوش’، ولم تلبث أن امتدت إلى حي الهَدار، وفي العُشرية الثانية من القرن الحالي امتدت أيضاً إلى منطقة الميناء في وسط مدينة حيفا.
في حين كانت هذه المساحات الترفيهية الجديدة في حيفا تجذب جمهوراً فلسطينياً من المدن والقرى المجاورة في نهاية الأسبوع، انتقل العديد من الفلسطينيين إلى المدينة بحثاً عن الخصوصية، والأجواء المدينية، والانتماء الفلسطيني. من بين هؤلاء المهاجرين الداخليين عائلات فلسطينية شابة، ومهنيون، ونساء عازبات، ومثليّون، وفنانون، وأزواج مختلطة من المسلمين والمسيحيين. وبحلول سنة 2019، كان عدد سكان حيفا نحو 285.317، منهم 33.000 تقريباً (12 بالمئة) من الفلسطينيين. لكن هذا الإحصاء الرسمي يختزل العدد الفعلي. فعدد لا بأس به من الفلسطينيين، وخصوصاً من طلاب الجامعة والشبان، يحتفظون بعناوينهم في بلداتهم الأصلية لأسباب متعددة.
وساهمت الظروف السياسية أيضاً في التغيير الذي طرأ على طابع حيفا. فقد وصل التعارض بين الدولة والمواطنين الفلسطينيين ذروته بعد أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 2000 في بداية الانتفاضة الثانية، حين انطلق الفلسطينيون في جميع أنحاء الوطن يعبّرون عن معارضتهم للاحتلال الإسرائيلي. وفي حين شكّلت هذه الأحداث محطةً فاصلة في ظهور الشرخ بين المواطنين الفلسطينيين واليهود، فهي عزّزت التفاعل بين الفلسطينيين على جانبي خط 1967. وعلاوة على ذلك، شجّعت التغيرات في وسائل الاتصال المنتجين الثقافيين المحليين على السعي من أجل الاعتراف بهويتهم الوطنية وإنتاجاتهم الأصيلة في الساحات الثقافية العربية والغربية الأوسع. وكان لشبكة الإنترنت بصورة خاصة دور مهم في تثبيت الاستقلالية العملية والمفاهيمية للفنانين الشبّان. فهي مكنت المنتجين والمستهلكين من المشاركة في مبادرات ثقافية فلسطينية ودولية بطرق تلتف على الوساطة والرقابة الإسرائيلية. وبينما أدّت التكنولوجيا غير المكلفة إلى دمقرطة الإنتاج والتوزيع الرقمي بعيداً عن الشركات الكبرى ومؤسسات الدولة بصورة عامة، حمل هذا التطوّر لدى الفلسطينيين في الداخل مغزىً سياسياً أيضاً، إذ ساعد الإنترنت في تشكيل أذواق ثقافية جديدة خارج التعبيرات التقليدية والمؤسساتية. وظهر جمهور جديد من المستمعين لأنماط موسيقية جديدة في فلسطين، مثل الراب، والروك، والجاز، والموسيقى الإلكترونية.
إلى جانب الفضاء الرقمي، لعب فضاء حيفا الجغرافي دوراً مهماً في تطوّر الحياة الليلية الفلسطينية. وفي حين ظهر العديد من الفرق الموسيقية الجديدة في حيفا في العقد المنصرم، انتقلت فرق أُخرى إلى حيفا لتصبح جزءاً من المشهد المتبلور في المدينة. وعلى الرغم من هذه التحوّلات الثقافية، كان على الجيل الجديد التغلب على التحديات لإنشاء مساحات للترفيه الليلي في حيفا، والتي تُفسح المجال لتقديم أنماط متنوعة من الموسيقى في أجواء حرة وغير رسمية. وفي حين كانت المؤسسات الثقافية الفلسطينية تخشى تعريض سمعتها في حال دعمها لنشاطات تتيح اختلاط الجنسين واستهلاك الكحول، كان على هذا المشهد الليلي أن ينظّم الفعاليات بشكل مستقل، معرّضاً نفسه لاحتمال مواجهة الشرطة الإسرائيلية والمرجعيات الأخلاقية الاجتماعية الفلسطينية.
مع انطلاق الثورات العربية في سنة 2011، بدأت بعض المجموعات بتنظيم حفلات رقصٍ بوتيرة أسبوعية منتظمة. وقامت، في البداية، باستئجار مساحات إسرائيلية، لكن بعد الحظر على المضمون المسيّس سرعان ما اتّضحت حدود هذه الشراكة. فقاد ذلك الى تنظيم حفلات ليلية في مساحات غير مستخدمة يملكها فلسطينيون، منها مستودعات فارغة وأبنية مهجورة أو أراضٍ زراعية خارج المدينة. وبما أن هذه المساحات لم تكن مرخّصة لفعاليات اجتماعية، فقد خاطر المنظّمون باحتمال اقتحام الشرطة، والذي يؤدي غالباً إلى إنهاء الحفلات وأحياناً فرض غرامة مالية. وعلى الرغم من ذلك، أدى طابع الحفلات الممنوعة إلى التزام المنظّمين والجمهور خلق مساحات حرة، حتى ولو موقتة ومتنقلة، وتحمُّل العواقب المحتملة. وأوجد هدف استصلاح المساحات الجديدة في المدينة مناخاً مسيّساً لدى المشاركين، بحيث اجتذبت هذه الحفلات جمهوراً كبيراً وقادت الى ظهور مشهد ليليٍ فلسطيني في حيفا. وبعد عدة سنوات، تمأسس هذا المشهد مع افتتاح حانات رقصٍ ونوادٍ ليلية ثابتة، مثل ’كباريت’ و’فَتّوش غاليري-بار’. وقد أدى جمهور المستمعين دوراً مهماً في توفير المنصّات لمضامين محلية ثقافية ذات طابع تجديدي وتجريبي، وأيضاً في استقبال موسيقيين محليين وعالميين من خارج المدينة.
تزامنت هذه التغيّرات في المجتمع الفلسطيني في حيفا مع تهميش المدينة في جغرافية إسرائيل الداخلية. فعلى الرغم من كون حيفا المدينة الثالثة من حيث الحجم السكاني في إسرائيل، فإن الجيل الشاب من اليهود هجرها لضعف فرص العمل، وتراجع الفعاليات الثقافية والحياة الليلية الإسرائيلية، والإدارة السيئة للمدينة. فتهميش حيفا، مقارنة مع مركزية تل أبيب الاقتصادية، وأهمية القدس السياسية والدينية، فتح فضاء مهملاً سمح بصعود طبقة وسطى ونشاطات ثقافية فلسطينية في المدينة. وبالإضافة إلى ذلك، يجب ذكر دور سكان حيفا اليهود-الإسرائيليين العلمانيين في احتواء هذا المشهد. فجو التسامح في حيفا يظهر في الشارع أكثر مما هو قائم على المستوى المؤسساتي، وله جذور تاريخية، حيث عاش الفلسطينيون واليهود في حيفا بتجاور وتعاون قبل سنة 1948، حين كانت المدينة تتطوّر كمركز عصري وعالمي.
ويعكس تطوّر الحياة الثقافية الفلسطينية النابضة في حيفا رغبة الفلسطينيين في الداخل في إعادة ربط أنفسهم مع التجمعات الفلسطينية الأُخرى ومع العالم العربي. وظهر هذا التأكيد على الانتماء إلى الشعب الفلسطيني من خلال الفعاليات الثقافية، بعد تهميشهم في المشروع الفلسطيني الرسمي في اتفاقات أوسلو في التسعينيات. فتلقيب حيفا مؤخراً بـ"عاصمة لثقافة فلسطين" يعكس إرادة الأوساط الفنية في المدينة ليس فقط باعتبارها جزءاً من الشعب الفلسطيني، وإنما طليعة ثقافية له.
حسن، منار. "غير مرئيّات: النساء والمدن الفلسطينيّة". القدس: دار النشر معهد فان لير، 2017. (بالعبرية)
شليوط، عفيف. "جذور الحركة المسرحية الفلسطينية في الجليل". البيرة: وزارة الثقافة الفلسطينية، 2018.
مواسي، علي (تحرير). "الثقافة الفلسطينيّة في أراضي 48: الواقع، والتحديات، والآفاق". رام الله: مدار، 2018.
Furani, Khaled. ”Dangerous Weddings: Palestinian Poetry Festivals during Israel’s First Military Rule.” The Arab Studies Journal, vol. 21, no.1 (Spring 2013), pp. 79–100.
Kallus, Rachel. “Reconstructed Urbanity: The Rebirth of Palestinian Urban Life in Haifa.” City, Culture and Society, vol. 4, no.2 (June 2013), pp. 99–109.
Karkabi, Nadeem. “How and Why Haifa has become the ‘Palestinian Cultural Capital’ in Israel.” City & Community, vol. 17, no.4 (December 2018), pp. 1168–1188.