عرف المسرح الفلسطيني بدايات تشبه بدايات كل المسارح العربية في بلاد الشام. ولكن تاريخه منذ العقود الأولى من القرن العشرين لا يشبه تاريخ المسارح الأخرى في بلاد الشام بسبب خضوع فلسطين والشعب الفلسطيني لتقلبات سياسية وديموغرافية اختلفت جذرياً عما حدث في المحيط. فقد تعثرت ولادة المسرح الفلسطيني، وعرف مخاضاً طويلاً وولد متقوقعاً على نفسه، ثم مر بمراحل من الهزات والعزلة، لكنه صار اليوم حقيقة ملموسة على الأرض، واستفاد من تجاربه السابقة وانفتاح العالم وتطور وسائل الاتصال ومن ظاهرة العولمة.
في تقديمنا هنا للمسرح الفلسطيني، لا نقصد النصوص المسرحية التي كتبها فلسطينيون وغير فلسطينيين والتي تعالج موضوع القضية الفلسطينية، بل نقصد المسرح كتعبير عن فن الإخراج والتمثيل ضمن فرق مسرحية ثابتة ذات الهوية الفلسطينية. وعليه، يمكن تقسيم تطور المسرح الفلسطيني إلى ثلاث مراحل بدأت كل منها بولادة فريدة: ولادة أولى في نهاية القرن التاسع عشر انتهت سنة 1948؛ ولادة ثانية بعد 1967، وبخاصة خلال الانتفاضة الأولى التي اندلعت في 1987؛ ولادة ثالثة بعد 1993.
المرحلة الأولى: ظهور المسرح الفلسطيني
تأتي قصة بداية المسرح ونشأته في المدن الفلسطينية قبل 1948 في سياق قصة دخول المسرح بشكل عام إلى بلاد الشام في منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وذلك في أجواء التنوير التي سادت المنطقة. فظهور المسرح كان في سياق النهضة الحضارية التي عرفتها بعض المناطق والمدن (النوادي الثقافية في حيفا: النادي الأرثوذكسي والنادي الكاثوليكي والنادي الإسلامي)، ثم في القدس (دار المعلمين) ومن خلال المدارس التبشيرية التي انتشرت في العديد من المدن الكبرى. وهنا لا بد هنا من الإشارة إلى النشاط الفني الذي قامت به عائلة الجوزي، وإلى بروز أسماء كتّاب مسرح، اعتباراً من مطلع عشرينيات القرن العشرين، مثل الأخوة صليبا وجميل حبيب بحري والأخوة نصري وفريد وجميل الجوزي. وتؤكد المراجع ومذكرات الفنانين وجود فضاءات أو صالات على شكل كاباريه أو مقاهي كانت تستقبل العروض حتى المدرسية منها. وتم إخراج مسرحيات من مؤلفين عرب مثل "مجنون ليلى" لأحمد شوقي و"السموأل أو وفاء العرب" لأنطون الجميِّل، أو مترجمة من لغات غربية كالفرنسية مثل "البخيل"، أو "طبيب بالرغم عنه" لموليير، أو الإنكليزية مثل "روميو وجولييت" أو "هاملت" لشكسبير.
المرحلة الثانية: 1967- 1993
لم تحدث الولادة الثانية للمسرح الفلسطيني بعد النكبة سنة 1948، إلا في نهاية الستينيات. مع هزيمة سنة 1967 وانطلاق حركة المقاومة الفلسطينية، وبغض النظر عن النتائج التي تحققت على المستوى الفني، كانت هناك رغبة واضحة في بلورة مسرح يحمل الهوية الفلسطينية، جرى التعبير عنها بشكل متزامن في داخل الوطن الفلسطيني وخارجه، لكن دون أي تنسيق.
في الشتات، كانت أول محاولة هي تلك التي قامت بها فرقة "فتح المسرحية" في عمّان ثم في دمشق بعد سنة 1966، ودامت سنتين، قدمت خلالهما مسرحية "شعب لا يموت" من تأليف سعيد المزيّن وإخراج صبري سندس. بعد ذلك، برز اسم خليل طافش، الذي يُعتبر مؤسس المسرح الفلسطيني في الشتات. فبعد أن درس المسرح في القاهرة سنة 1969، أنشأ "المسرح الوطني الفلسطيني" في دمشق وقدم عملاً للمسرحي السوري ممدوح عدوان هو "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" من إخراج المخرج الفلسطيني حسن عويتي. ثم قدم هذا الأخير عرض "الزيارة" عن نص ليوسف القعيد (حول زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمصر). بعد ذلك، قدم المخرج حسين الأسمر عرض "الحلم الفلسطيني" لرشاد أبو شاور، وأخرج المخرج السوري الراحل فواز الساجر عرض "مؤسسة الجنون" عن نص لسميح القاسم. وفي مرحلة متأخرة، صار المخرج العراقي جواد الأسدي هو مخرج أعمال المسرح الوطني الفلسطيني، وكانت آخر مسرحية أخرجها هي مسرحية "الاغتصاب" لسعد الله ونوس في مطلع التسعينيات.
وعلى الرغم من كل هذه النشاطات، فإن المسرح الفلسطيني في الشتات بقي محدود التأثير، وأقرب إلى "مسرح تمثيل دبلوماسي".
في الضفة الغربية، بدأ المسرح يتبلور اعتباراً من سبعينيات القرن العشرين، وبخاصة في مدن رام الله والبيرة والقدس، وذلك على الرغم من كل المعوقات الإسرائيلية (رقابة، ومنع، وتعقيدات الحصول على التصاريح والأذونات). ويعتبر طارق مصاروة أول من شكل فرقة مسرحية قبل سنة 1970 وقدم إعداداً لمسرحية أليخاندرو كاسونا، "مركب بلا صياد".
شكّل هذا المسرح حالة مهمة لأنه توجه إلى جمهور محدد، ولعب، منذ البداية، دوراً اجتماعياً بارزاً، لكنه عانى من مشاكل كثيرة منها: غياب الريبرتوار (الريبرتوار كلمة من أصل فرنسي تعني مجموعة مسرحيات تشكل برنامج مسرح أو فرقة كمخزون مسرحي معترف به)، وغياب المختصين، وغياب المرجعية وغياب الرعاية، ومشكلة الرقابة والمنع.
في سنة 1970 تشكّلت فرقة "عائلة المسرح" التي تحوّلت إلى "فرقة بلالين" في رام الله، ثم تأسست "فرقة دبابيس" سنة 1972 في رام الله أيضاً، ومنها انبثقت "فرقة الحكواتي" سنة 1983، التي لا تزال قائمة إلى اليوم تحت اسم "المسرح الوطني الفلسطيني". كذلك تشكلت "فرقة صندوق العجب" وفرقة "مسرح القصبة" في القدس وفرق أخرى مثل "مسرح السنابل"، و"عناد" في البيرة، إضافة إلى بعض الفرق التي أنشئت في المخيمات. وقد اعتمد معظم هذه الفرق أسلوب العمل الجماعي.
ويمكن أن نطلق على فرانسوا أبو سالم لقب مؤسس المسرح الفلسطيني (مسرح الحكواتي)، ومعه أيضا جاكي لوبيك، راضي شحادة، إدوار المعلم (الذي سينشئ مع زوجته إيمان عون فيما بعد "تجمع عشتار"). وكان قد أقيم أول مهرجان للمسرح والفولكلور الفلسطيني في مدينة رام الله سنة 1973، واستمر المهرجان حتى سنة 1975، فشجّع تشكيل عدد من الفرق المسرحية التي توالدت من بعضها البعض.
عانت هذه الفرق المسرحية، وبخاصة فرقة "مسرح الحكواتي" التي قدمت عدداً كبيراً من العروض (بلغ عدد عروض مسرحية "محجوب محجوب" 120 عرضاً)، من عدم وجود نظام التفرغ ومن غياب الرعاية، وهو ما أنهك هذه الفرقة التي وجدت، بعد بحث شاق، موقعاً لها في سينما محروقة في القدس حولتها إلى مركز مسرحي سنة 1984. أما مسرح وسينماتك القصبة، فقد تأسس في القدس على يد جورج إبراهيم سنة 1970، ثم انتقل، سنة 2000، إلى رام الله وتحوّل إلى صرح ثقافي مزود بالمرافق المختلفة والتقنيات العالية.
المرحلة الثالثة: 1993-
بعد اتفاقية أوسلو، وولادة السلطة الوطنية الفلسطينية، طرأ تحول كبير على شكل المؤسسة المسرحية، إذ أقامت السلطة بنىً رسمية مثل وزارة الثقافة، لكن الميزانية المخصصة لهذه الوزارة بقيت محدودة جداً. كما تشكلت مؤسسات تابعة للمجتمع المدني، صارت تلجأ، بعد أن فشلت في الحصول على المساعدات اللازمة من المؤسسات الرسمية، إلى التمويل الأجنبي لكي تنتج مسرحاً.
ونشير في هذا الصدد إلى "مسرح عشتار"، وهو مؤسسة غير حكومية بإشراف إدوار المعلم وإيمان عون، (كانت في الاصل فرقة طلابية) لها أهداف تنموية وتربوية، تأسست في مدينة القدس سنة 1991، ثم افتتحت في سنة 1995 مقرها الثاني في مدينة رام الله، وعملت على تأهيله كفضاء مسرحي من خلال قاعتين واحدة للتدريب وأخرى للعرض (70 متفرجاً)، وبالتالي تحولت "مؤسسة عشتار" إلى مختبر مسرحي اعتمد بالأساس على تقنية المسرح التفاعلي، وافتتحت مؤخراً أكاديمية لتدريس المسرح. كما يمكننا الإشارة إلى "مسرح الحارة" في بلدة بيت جالا الذي أسسته مارينا برهام. من الجدير أيضاً أن نذكر "مسرح الحريّة" الذي أُنشئ في مخيم جنين للاجئين سنة 2006 وهدف إلى تطوير "مجتمع فني مبدع وحيوي" باعتبار الفن حافزاً مهماً للتغير الاجتماعي و"مقاومة كافة أشكال الاضطهاد".
أما في قطاع غزة، فيعتبر وضع المسرح أكثر صعوبة. ولم تفلح التجارب المسرحية الكثيرة التي شهدها القطاع في أن تشكل حركة مسرحية واعية تسير باتجاه النضج الفني والتطور، بل ظلّت تدور في فلك الهواية والنشاط غير الاحترافي، وذلك على الرغم من تجمع مجموعة كبيرة من الشباب على شكل فرق مسرحية، قدّمت مختلف ألوان الفن المسرحي خلال السنوات الماضية، وبجهود ذاتية على المستويين المادي والفني.
وتعتبر مرحلة التسعينيات الفترة الأهم بالنسبة للمسرح في قطاع غزة. ويمكننا أن نذكر من الفرق التي ظهرت "فرقة الشموع المسرحية"، و"فرقة الأمل للفن والمسرح"، التي أسسها الفنانان صائب السقا ونبيل ساق الله، وفرقة "حناضل" التي تأسست سنة 1989، ثم "فرقة مجمع الكرامة" التي تأسست سنة 1992، و"مؤسسة يوم المسرح" و"فرقة مؤسسة الجنوب" و"فرقة مؤسسة بسمة" و "فرقة مسرح للجميع"، إضافة إلى "فرقة هيئة مجمع الكرامة" في رفح وغيرها العديد من الفرق المسرحية التي منها ما غاب ومنها ما زال يعمل إلى يومنا هذا.
لدى فلسطينيي 48، لا يمكن أن نتكلم عن حركة مسرحية حقيقية، على الرغم من محاولات عديدة، إلاّ منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي مع تنشيط المسرح في الضفة الغربية. فقد قام فنانون، درسوا في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، بمحاولات لإنشاء مسرح عربي في إسرائيل، منهم الممثل محمد البكري، والممثلة حنان الحلو، والممثلة سلوى نقارة، وراضي شحادة الذي أصدر كتابا بالغ الأهمية هو "المسرح الفلسطيني في فلسطين 48 بين صراع البقاء وانفصام الهوية". هناك اليوم فرق مسرحية عربية في العديد من المدن الفلسطينية، في الناصرة وحيفا وعكا بخاصة، أغلبها فرق مستقلّة، لكنها تتبع لوزارة المعارف الإسرائيلية.
ويعاني هذا المسرح الفلسطيني في إسرائيل من مشاكل الرعاية والهوية والتواصل، ويغلب عليه الطابع السياسي أو السياسي الساخر.