بعد
سيتم هنا عرض تاريخ العلاقة المتبادَلة بين إسرائيل والفلسطينيين الخاضعين لحكمها من خلال منظور المواطنة، من ناحيتي الانتماء السياسي في الدولة، والتمتّع بعدد من الحقوق، أو "حق التمتّع بالحقوق".
عرض الإعلان عن إقامة دولة إسرائيل، الصادر في 14 أيار/ مايو 1948، على السكان العرب في دولة إسرائيل "المواطنة التامة القائمة على المساواة والتمثيل المناسب في جميع مؤسسات الدولة الموقتة والدائمة." لم تكن هذه الفقرة الجامعة ظاهرياً، في تلك اللحظة الحرجة، أكثر من مجرّد كلام منمّق كان من الضروري إسماعَه إلى المجتمع الدولي من قبل الموقّعين على الإعلان، "ممثلي الجالية اليهودية في أرض إسرائيل والحركة الصهيونية." فمنذ البداية، اتخذ القادة الإسرائيليون الإجراءات وتبنّوا السياسات التي من شأنها جعل فكرة المواطنة فارغة وعديمة المعنى إذا كان الأمر يتعلق بالفلسطينيين، السكان الأصليين للبلاد. وعلى الرغم من تهجير الغالبية العظمى من الفلسطينيين سنة 1948 (بقي 160,000 فقط سنة 1949، أي 18 في المئة تقريباً من إجمالي عدد السكان الفلسطينيين الذين كانوا يقطنون قبل 1948 في الأراضي التي أصبحت دولة إسرائيل)، رأى قادة الدولة أن مجرّد وجود المتبقّين من الفلسطينيين يشكّل تهديداً لــــ"يهودية" الدولة، وتهديداً أمنياً، وعائقاً أمام الاستيلاء على الأرض.
وتعبيراً عن "يهودية" الدولة، وكأداة لضمان أغلبية يهودية، سنّت إسرائيل سنة 1950 قانون العودة الذي يعطي الحق المطلق لليهود، أينما كانوا في العالم، في الهجرة واكتساب المواطنة تلقائياً. وفي الوقت نفسه، كانت متشدّدة قدر المستطاع في الحدّ من حصول الفلسطينيين على المواطنة. كما سنّت سنة 1952 قانون الجنسية الذي يقيّد أهليّة الحصول على المواطنة، بفرض شروط مرهقة على الفلسطينيين (على سبيل المثال، يجب أن يحقق الفلسطيني جميع الشروط التالية: أن يكون فلسطينياً قبل تأسيس الدولة؛ أن يكون مقيماً في إسرائيل أو دخل إليها على نحو شرعي؛ أن يكون مقيماً في إسرائيل لغاية 1 تموز/ يوليو 1952؛ أن يكون من سكان الدولة في تاريخ دخول القانون حيز التنفيذ). وكان على العديدين الذين "تسلّلوا" إلى قراهم بين سنتي 1948 و1950، وتجنّبوا الطرد القسري خارج الحدود، أن يتقدموا بطلب التجنّس من أجل البقاء في وطنهم.
استُكملت تلك القيود على المواطنة بـ قانون الدخول إلى إسرائيل سنة 1952، وقانون منع التسلل (جرائم واختصاص قضائي) سنة 1954. وقد رسّخ مكانةَ الفلسطينيين المتدنيّة اعتمادُ مجموعة من القوانين والسياسات التي جعلت الحصول على بعض الحقوق والخدمات مشروطاً بالخدمة العسكرية. وبالنتيجة، كان معظم الفلسطينيين محرومين من العديد من الحقوق نظراً لإعفائهم من التجنيد (باستثناء أفراد من الطائفة الدرزية، الذين ظلّوا على الرغم من ذلك غير مساويين لليهود في الحقوق أو المعاملة). وفي جميع المجالات الممكن تصوّرها، تقريباً، بما فيها التعليم، والرعاية الصحية، والإسكان، والتوظيف، وتخصيص الميزانية، والرعاية الاجتماعية، والتنمية، كان المواطنون الفلسطينيون أسوأ حالاً من المواطنين اليهود، واستمرت حالتهم بالتردي.
وضعت الدولة نظاماً صارماً وظالماً للسيطرة على الفلسطينيين، وذلك تحت ذريعة الأمن. وباستخدام خليط من تشريعات حقبة الانتداب مع تشريعات جديدة، مثل أنظمة الطوارئ (المناطق الأمنيّة) لسنة 1949 ، فرضت إسرائيل حكماً عسكرياً على جميع الفلسطينيين، وسيطرت على كل جانب من جوانب حياتهم، بما فيها التنقّل، والتوظيف، والتعليم، وتوفير الخدمات. وبالاشتراك مع الشرطة، والجهاز السري (الشاباك )، أدار الحكم العسكري أدقّ تفاصيل حياة الفلسطينيين، وزرع الخوف في نفوسهم، وكافأ المتعاونين منهم، وتأكّد من تصويتهم، يوم الانتخابات، لصالح حزب ماباي الحاكم والقوائم المرتبطة به، ومن عدم إنشائهم لمؤسسات وأحزاب سياسية خاصة. ومن خلال تقييد الحركة، تمكّن الحكم العسكري أيضاً من استغلال واحدة من الآليات القانونية لمصادرة أراضي الفلسطينيين: فإذا تعذّر على المزارعين الوصول إلى أراضيهم بسبب تقييد تحركهم، تكون تلك الأراضي غير مزروعة، والأراضي غير المزروعة يمكن للدولة مصادرتها.
في مثل هذه البيئة الاستعمارية، ومع تعدّد فئات المواطنة استناداً إلى الانتماء الإثني/ الديني، كان حصول الفلسطينيين على حزمة الحقوق التي تقدّمها المواطنة (الجزئية والمنقوصة، كما كان حالها) أمراً في غاية الأهمية من أجل بقائهم في وطنهم. وقد انطوى هذا الوضع على مفارقة: هذه المجموعة، التي كانت تحت التهديد المستمر بالطرد، لم تكن تمتلك أيّة ضمانة أخرى، سوى المواطنة، في الدولة نفسها التي تسعى لطردها. فكانت الحياة اليومية لأفراد هذه المجموعة شكلاً من أشكال التفاوض المتواصل من أجل تحقيق وجود سياسي في ظل هذا التناقض.
وعلى الرغم من بيئة الخوف والقمع الحكومي الشديد، لم تكن مقاومة السياسات التمييزية أمراً استثنائياً. فمنذ سنة 1948، عاش الفلسطينيون، في ما أصبح دولة إسرائيل، وهم يقاومون المكانة المتدنيّة التي فرضتها الدولة عليهم، ويناضلون باستمرار من أجل الحفاظ على وجودهم، كأفراد وجماعات، في وطنهم. وقد اتخذت المقاومة أشكالاً متعددة: عصيان أوامر الحكومة العسكرية (الأمر الذي أدّى إلى آلاف العقوبات القضائية والإدارية سنوياً)؛ الالتفاف على منعهم من القيام بنشاط سياسي عربي مستقل، عبر الانتساب إلى
بعد إنهاء الحكم العسكري سنة 1966، وحرب عام 1967 ، دخل نضال الفلسطينيين في إسرائيل مرحلة جديدة. فقد أصبح جميع الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في فلسطين الانتدابية ، تحت حكم إسرائيل، وقد أثّر هذا الأمر في تعميق الشعور بالهوية ووحدة الصف. وبدت طبيعة الصراع واضحة، إنه صراع دولة مستوطنين مع السكان الأصليين، ولهذا تمحورت المقاومة حول موضوع الأرض، وأهمية البقاء على الأرض كمجتمع فلسطيني متماسك. وكانت الإضرابات، والمظاهرات، والعرائض، الأشكال الأكثر شيوعاً للمقاومة.
في السبعينات من القرن العشرين، توحّدت أشكال المقاومة هذه، فتشكّلت اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي ، التي قادت إضراباً شاملاً في يوم الأرض (30 آذار/ مارس 1976) قمعته الشرطة الإسرائيلية بعنف، فقتلت 6 فلسطينيين، وجرحت أكثر من 100، واعتقلت المئات. وفي خطوة أخرى لتنظيم هيئة تمثيلية فعليّة للفلسطينيين في إسرائيل، تم تشكيل اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية ، ولجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل سنة 1982، مع الإشارة إلى أن هاتين اللجنتين شهدتا مراحل من الهبوط منذ تأسيسهما. إن النزعة نحو تعميق الهوية الفلسطينية في وسط غالبية الفلسطينيين في إسرائيل أصبحت واضحة للعيان، لا سيما عند الجيل الجديد الذي وُلد بعد النكبة ، والذي أنشأ مؤسسات وطنية، مثل اتحاد الطلاب الجامعيين العرب ، وعدداً من الأحزاب السياسية. وتظهر هذه النزعة جلياً في تغيّرات أنماط التصويت في الانتخابات لـ الكنيست منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين، والتي تشير إلى عزوف جماعي عن الأحزاب الصهيونية لصالح الأحزاب العربية.
لمواجهة هذا النجاح النسبي، بذلت إسرائيل جهوداً كبيرة لقمع الهوية الفلسطينية والانتظام السياسي حولها. ويتجلّى ذلك في محاولات فرض "عرب إسرائيل" كهوية، بهدف القضاء على أي صلة ما بين الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في أي مكان آخر، وفي محاولات تعزيز الهويات الطائفية الضيّقة لإعادة تعريف الفلسطينيين كـ"أقليات": خليط من الطوائف الإسلامية، والمسيحية، والدرزية، والبدوية، من دون أي هوية جامعة. وفي الوقت ذاته، شدّدت إسرائيل التركيز على الهوية اليهودية، وأكّدت هذه الهوية بإعطاء تعريف دستوري للدولة بوصفها "يهودية وديمقراطية" في عدد من القوانين الأساسية.
على الرغم من تلك المحاولات، برز خطاب جديد حول المواطنة، عند منقَلَب القرن، وضع الهوية الفلسطينية في المركز، وسلّط الضوء على حقيقة أن الفلسطينيين في إسرائيل (الذين يبلغ تعدادهم اليوم أكثر من 1,5 مليون فلسطيني، باستثناء سكان القدس الشرقية ) يشكّلون جزءاً من الشعب الفلسطيني ككل. ويذهب هذا الخطاب إلى أبعد من المطالبة بحقوق المواطنة الكاملة والمتساوية في الدولة، إذ يسعى إلى إعادة تعريف الانتماء السياسي على نحو يعتبر الفلسطينيين أمة أصليّة. كما يسعى إلى إعادة تعريف الدولة، وإلغاء الامتيازات الاستعمارية التي يتمتّع بها المواطنون اليهود. ويصرّ على أن المواطنة المتساوية للفلسطينيين، باعتبارهم السكان الأصليين، تشمل حقهم بتعريف أنفسهم كجماعة سياسية متساوية، لها ثقافتها، وتاريخها، وسرديّتها، ومظلوميّتها التاريخية، ويجب على الدولة أن تعترف لها بكل هذا. ويبدو هذا الخطاب واضحاً في وثائق "التصوّرات" الأربعة التي أصدرها المجتمع المدني الفلسطيني في 2006- 2007، والتي ترفض التعريف الدستوري لإسرائيل كدولة يهودية، وتدعو إلى تحوّل الدولة إلى دولة ديمقراطية متعددة الثقافات تقوم على أساس المساواة.
ردّت الدولة على هذا الخطاب الجديد بالمزيد من القمع، والمزيد من التأكيد على الهوية اليهودية، وتكثيف السياسات الاستيطانية- الاستعمارية، وتقليص ما تبقى من حقوق لدى الفلسطينيين في إسرائيل. ومنذ بداية الألفية الثالثة، تبنّى الكنيست مجموعة من القوانين الجديدة التي تستهدف المواطنين الفلسطينيين في مجالات المشاركة السياسية والحريات الأساسية (أحصت