شهدت الفترة منذ حرب العام 1948 حتى يومنا هذا، نموّاً سكانيّاً هائلاً لدى الفلسطينيّين الذين بقوا في دولة إسرائيل. في 1 كانون الثاني/ يناير 2015، كان هناك ما يقرب من 1.4 مليون فلسطينيّ في إسرائيل (باستثناء القدس الشرقيّة، التي ضمّتها إسرائيل إثر حرب 1967)، أي بزيادة تسعة أضعاف منذ النكبة. غير إنه يجب وضع هذا النمو ضمن سياق أعم: ففي الفترة ذاتها ازداد عدد السكان اليهود الإسرائيليّين بالمقدار ذاته، ليصل إلى حوالى 6 ملايين نسمة بحلول العام 2015، أيّ بزيادة تسعة أضعاف أيضاً. فقد وصل إلى إسرائيل أكثر من 3 ملايين يهودي من جميع أقطار المعمورة، مع أن هذا يشير إلى العدد الإجماليّ - وليس الصافي - للمهاجرين، إذ إنّ جزءاً منهم لم يستقر في إسرائيل بشكل دائم. ويقدّر مجموع الشتات الإسرائيليّ بما يفوق الـ 700 ألف، إن لم يكن قريباً من المليون.
لقد حاول الفلسطينيّون في إسرائيل مواجهة أو مقاومة هذا الفيضان غير العاديّ للهجرة، عن طريق المحافظة على التوازن الديموغرافيّ، بما يبلغ أعلى معدلات الولادة والنمو السكانيّ الطبيعيّ في العالم. إنهم يشكلون حاليّاً 18 في المئة من سكان إسرائيل (وليس 20 في المئة كما يتمّ الزعم في كثير من الأحيان باستخدام الإحصاءات الإسرائيليّة الرسمية التي تشمل فلسطينيّي القدس الشرقيّة).
ولا ينبغي النظر إلى النمو السكانيّ السريع للفلسطينيّين كسياسةِ زيادة سكانية مخطط لها ومنظّمة تنظيماً جيّداً، حيث لم تكن ثمة هيكليّة حكوميّة لتشجيع هذا الاتجاه، بل يعزى ارتفاع معدلات ولادات الفلسطينيّين في عهد الانتداب البريطانيّ وبعد سنة 1948، إلى اللاوعي الجماعيّ بأنّهم في حاجة إلى أن يكونوا أكثر عدداً من أجل بقائهم فوق أرضهم. أما بالنسبة إلى إسرائيل فالعكس كان صحيحاً، حيث كانت تدابير الزيادات السكانية مخططاً لها ومسيطراً عليها من الدولة، بهدف تأمين كثافة سكانية (يهوديّة) كبيرة، عبر تنفيذ سلسلة متكاملة من الإجراءات (الصريحة منها والضمنيّة) التي كانت ضروريّة للحفاظ على معدّل الخصوبة اليهوديّة عالياً، بل وحتى زيادته.
حقّق الفلسطينيّون في إسرائيل أعلى معدل للخصوبة عندهم بين 1960 و1965، وذلك بمتوسط قدره 7.1 طفل لكلّ امرأة (9.2 للمسلمين و4.7 للمسيحيّين و7.5 للدروز). ومنذ ذلك الحين يتراجع هذا المعدّل بشكل منتظم، باستثناء فترة الانتفاضة الأولى، عندما أصبح النمو السكانيّ مرة أخرى، وفي تناغم تامٍّ مع الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة، وسيلة الأقليّة للحفاظ على نفسها وتأكيد ذاتها1.
أما اليوم، فقد أصبحت فكرة الإكثار من الإنجاب لدعم النضال الوطني لدى فلسطينيّي إسرائيل من مخلّفات الماضي، ومنذ عدة سنوات لم يعد يُنظر إلى الزيادة السكانية كأداة "تفاوضيّة"، فتدهور معدل الخصوبة لدى النساء الفلسطينيّات في إسرائيل بشكل سريع وغير قابل للعلاج، من 4.67 طفل في أواخر القرن المنصرم إلى 3.35 سنة 2013، بينما استمر معدّل الخصوبة لدى اليهود الإسرائيليّين في الارتفاع بقوة، على الرغم من أنّه كان في الأصل عالياً بالنسبة إلى دولة متقدّمة، ليزداد من 2.62 طفل في 1995- 1999 إلى 3.05 في يومنا هذا، ما يمثّل ضعف المعدل في أوروبا أو في لبنان، وأعلى بـ50 في المئة من المعدّل في المغرب أو تونس. وفي الوقت الحاضر، لا يشكّل الفارق بين معدلات الخصوبة الفلسطينيّة واليهوديّة سوى نقاط عشريّة بسيطة.
أما في الأراضي المحتلّة بعد سنة 1967، فقد استمر معدل الخصوبة العالي فترة طويلة، واستمر عالياً خلال الانتفاضة الأولى، وبين النساء الفلسطينيّات الأكثر تعلُّماً والأكثر تسيُّساً بشكل خاص، وحتى بشكل أعلى من الأميّات والأقلّ وعيّاً سياسيّاً. ومع ذلك، انقلب هذا المنحى خلال الانتفاضة الثانية، وهو ما أحدث انخفاضاً حادّاً في معدّل الخصوبة، إذ في حين ظل هذا المعدل مرتفعاً حتى سنة 2000، بمعدل 6 أطفال لكلّ امرأة، انخفض في ما بعد إلى 4 أطفال، وفقاً لأحدث مسح أجرته "الدراسات الاستقصائيّة العنقوديّة المتعدّدة المؤشرات" (Multiple Indicator Cluster Surveys)، والذي هو برنامج موحد عملت اليونيسف على تطويره سنة 2010. ومنذ ذلك الحين فصاعداً، لم تعد الشعارات المؤيّدة للإنجاب تلقى لدى الفلسطينيين آذاناً صاغية، أمام الصعوبات الاقتصاديّة وإغلاق المناطق المحتلّة وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض مستوى المعيشة.
وديموغرافيّاً أيضاً، ظهر تباين بين القيم الفرديّة والقيم الاجتماعيّة عند الأزواج الذين يريدون أسراً أصغر على أمل تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، وآخرين يسعون إلى تكوين أسر أكبر من أجل دعم القضيّة الوطنيّة.
وفي مناطق تشهد احتكاكاً مستمراً بين الفلسطينيّين واليهود الإسرائيليّين، فإن التفوّق الديموغرافيّ لليهود لم يعد قابلاً للجدل. ففي حين كان معدّل الخصوبة بالنسبة إلى الفلسطينيّين في القدس لا يزال مرتفعاً في سنة 2013، بما يعادل 3.35 طفل لكلّ امرأة، فإنّه كان أعلى بكثير بالنسبة لليهود في جميع أنحاء المدينة المقدّسة، إذ بلغ 4.20. أمّا بالنسبة إلى المستوطنين اليهود وحدهم في القدس الشرقيّة، فقد بلغ هذا المعدّل 5.5 طفل تقريباً، وينطبق الشيء ذاته على الضفّة الغربيّة، حيث بلغ معدّل الخصوبة في العام 2010، 5.02 طفل في المستعمرات اليهوديّة، في مقابل 4.0 للفلسطينيّين (مسح MICS3 أجراه الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ).
يعود ارتفاع معدّل الخصوبة بشكل استثنائيّ لدى المستوطنين اليهود، وبخاصة لدى المتدينين منهم، إلى الأيديولوجيّة القوميّة والدينيّة التوسعيّة، مدعومة بالإعانات الهائلة التي تقدّمها دولة إسرائيل أو المنظّمات شبه الحكوميّة على شكل مساعدات مباشرة أو مقنّعة، وبالتالي وجد الفلسطينيّون أنفسهم في مواجهة ديموغرافيا يهوديّة توسعيّة ومتشدّدة في وقت لم يعودوا يميلون إلى التصدّي لها عبر سياسة إنجاب عدد كبير من الأطفال. فقط في غزة لا يزال معدل الخصوبة الفلسطينيّ عالياً جداً، ولكن ليس أعلى منه لدى المستوطنين الإسرائيليّين.
يقدّم الجداول ادناه إسقاطات لعدد سكان فلسطين التاريخيّة (إسرائيل والأراضي المحتلّة في الضفة الغربيّة وقطاع غزة) بما يغطّي الفترة بين 2015 و2048. ويُتوقع في العام 2048 أن يصل إجمالي السّكان من اليهود والفلسطينيّين الذين يعيشون في فلسطين، إلى ما يقرب من 20 مليون نسمة، وهو رقم لافت ومذهل إذا ما نظرنا إلى صغر إجمالي مساحة الأرض. ويُتوقّع أن يصبح اليهود الذين يتمتّعون بأغلبيّة نسبيّة في الوقت الحاضر، أقليّة في العام 2048 (ويرجع ذلك في معظمه إلى النمو السكانيّ القويّ للفلسطينيّين في قطاع غزة) بمجموع سكان يُقدّر بـ 9.2 مليون مقابل 10.7 مليون فلسطينيّ.
ومع ذلك، فإنّ أهمّ الدروس التي يمكن استخلاصها من الإسقاطات الإحصائية وتتعلق بالتحوّلات الديموغرافيّة داخل كلّ مجموعة سكانيّة هي:
أولاً، تنبغي الإشارة إلى استيلاء المستوطنين الإسرائيليّين الممنهج على أراضي الضفة الغربيّة والقدس الشرقيّة، ومع أن تعداد المستوطنين اليوم هو أكثر من 650 ألفاً، مع ارتفاع في معدل الخصوبة وتدفق في الهجرة لديهم، فإنه يمكن أن ينمو إلى 1.7 مليون نسمة بحلول العام 2048، وهو ما قد يشكّل حينه أكثر من ربع سكان الضفة الغربيّة. وبالإضافة إلى التهديد الواضح الذي يشكّله هذا الاستعمار بالنسبة إلى الفلسطينيّين، فإنّه من المرجّح أن يترتّب على الزيادة الحادّة في نسبة المستوطنين بين السّكان اليهود في إسرائيل -من 9 في المئة إلى 19 في المئة بحلول 2048– عواقبُ وخيمة على إسرائيل، بسبب التكلفة الاقتصاديّة والسياسيّة التي يستلزمها هذا التحوّل الديموغرافيّ: ومثال ذلك تعزيز القاعدة الديموغرافيّة لليمين السياسيّ، وخصوصاً اليمين المتطرّف، في الرأي العام وفي الكنيست.
في الجهة المقابلة، فإنّه من المتوقّع (وفق الإحصاءات العلمية) أيضاً أن يخوض الفلسطينيّون في مستقبل غير بعيد تجربة تغيير ديموغرافيّ حمّال دلالاتٍ سياسيّةً قويّة، وهي تجربةُ تحوّلِ مركز ثقل السكان الفلسطينيّين من الضفّة الغربيّة إلى غزة: من 39 في المئة في الوقت الراهن إلى التعادل بحلول العام 2048 (48 في المئة في غزة بالمقارنة مع 52 في المئة في الضفة الغربيّة بما فيها القدس الشرقيّة، أو 51 في المئة في غزة مقابل 49 في المئة بدون القدس الشرقيّة). وهكذا، قد تتعزز مكانة قطاع غزة، لا سيّما في مجال الانتخابات. كما أنّه من الضروريّ أن نلاحظ أيضاً أنّ مركز الثقل الديموغرافيّ للفلسطينيّين يمكن أن يتحوّل إلى فلسطين التاريخيّة في مقابل الشتات الفلسطينيّ.
- 1. Rhoda Kanaaneh, Birthing the Nation: Strategies of Palestinian Women in Israel. Berkeley: University of California Press, 2002, p. 65.