جدول الأحداث الكلي

جدول الأحداث الكلي

Highlight
منظمة التحرير الفلسطينية (II)
من تحت الأضواء إلى الصفوف الخلفية

في 2 حزيران/ يونيو 1964، وبدعوة من ممثل فلسطين لدى مجلس جامعة الدول العربية أحمد الشقيري ، أعلن المؤتمر الوطني الفلسطيني  قيام منظمة التحرير الفلسطينية ، وأقر "الميثاق القومي الفلسطيني ".

نُظر إلى المنظمة في حينه كأداة للأنظمة العربية، وما من شخص كان يمكنه التنبؤ بأنها ستصبح في العقود التالية المؤسسة السياسية الفلسطينية الأكثر حيوية والأقوى تمثيلاً، لتوحيدها حلقة واسعة ومذهلة من الفلسطينيين: قادة وكوادر المنظمات الفدائية، المثقفين، العمال، رجال الأعمال في الشتات... إلى الفلسطينيين في المناطق المحتلة. ونجحت المنظمة لفترة طويلة في أن تشكل المظلة التي تستطيع الادعاء بكل مشروعية أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ونظراً إلى الضغوط الخارجية الشديدة التي كانت تمارس عليها على الدوام والتوترات التي كانت تعصف في داخلها، فإن مجرد بقائها كان يبدو أحياناً كثيرة موضع تساؤل وتعجّب. ومن المفارقة أن إنشاء السلطة الفلسطينية سنة 1994 هو الذي ساهم إلى حد كبير في تهميش منظمة التحرير.

عندما تم تأسيس منظمة التحرير، أتُّهمت بأنها مؤسسة "فوقية" وتفتقد الصفة التمثيلية للشعب الفلسطيني، ومع هزيمة حرب عام 1967 وسقوط الرهان على الأنظمة والجيوش العربية، وتأكُّد فشل منظمة التحرير نفسها، برزت تنظيمات فلسطينية مقاتلة جديدة، وتوسعت العمليات الفدائية ضد إسرائيل، ما اضطر أحمد الشقيري إلى الاستقالة، مفسحاً المجال أمام نقل القيادة إلى المنظمات الفدائية ("فتح "، الصاعقة ، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني )، وتحديداً إلى أقواها، حركة "فتح"، وتحقق ذلك رسمياً في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة في تموز/ يوليو 1968، الذي تبنى "الميثاق الوطني " بديلاً عن "الميثاق القومي" لسنة 1964، وفيه أن منظمة التحرير هي "الإطار الممثل" لقوى الثورة الفلسطينية المسلحة، وهي "مسؤولة عن حركة الشعب العربي الفلسطيني في نضاله من أجل استرداد وطنه وتحريره والعودة إليه وممارسة حق تقرير المصير فيه".

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1968، طرحت حركة "فتح" شعار "الدولة الفلسطينية الديموقراطية" الضامنة حق جميع مواطنيها "بغضّ النظر عن الدين واللغة" بالتمتع بحقوق متساوية. وتبنى المجلس الوطني الفلسطيني هذا الشعار في دورته الخامسة بالقاهرة بداية شباط/ فبراير 1969، إلى جانب انتخاب ياسر عرفات رئيساً لـ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وهو منصب سيشغله حتى وفاته سنة 2004.

في الفترة بين صيف 1970 وصيف 1971، واجهت منظمة التحرير أزمتها الرئيسية الأولى بسبب التحدي الذي مثّله وجودها دولةً داخل الدولة في الأردن ، فإثر مجابهات عسكرية وسياسية، وعلى الأخص في أيلول/ سبتمبر 1970، نجحت السلطات الأردنية، في تموز/يوليو 1971، في إنهاء حالة "ازدواجية السلطة" وفي القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح، الأمر الذي فرض على منظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة نقل قيادتها إلى لبنان وتوسيع وجودها فيه، وهو الوجود الذي كان اتّخذ صفة الشرعية في اتفاق القاهرة الذي تم التوصل إليه بين الجيش اللبناني وعرفات في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1969.

بعد اندلاع حرب عام 1973 ، التي أوجدت نتائجها وهماً بإمكان التوصل إلى تسوية سياسية تزيل كامل آثار عدوان حزيران 1967، أجمعت فصائل منظمة التحرير على رفض عودة الضفة الغربية إلى السيادة الأردنية، مستندة في ذلك إلى موقف قطاعات واسعة من جماهير المناطق المحتلة، التي عبّرت من خلال "الجبهة الوطنية الفلسطينية "، التي تشكّلت في آب/ أغسطس 1973، عن رغبتها في أن تتحمّل منظمة التحرير مسؤوليتها عن مصير الأراضي التي قد تنسحب منها إسرائيل. وفي أعقاب نقاشات حامية، تبنّى المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة في القاهرة مطلع حزيران/ يونيو 1974، "برنامج النقاط العشر " لمنظمة التحرير، الذي نص على إقامة "سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة فوق الأراضي الفلسطينية التي سيندحر عنها الاحتلال". ولكن بدا واضحاً، منذ ذلك الحين، أن منظمة التحرير تتجه نحو تبنّي شعار إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية ) وقطاع غزة ، إلى جانب دولة إسرائيل. وهو الشعار الذي أقرّته بالفعل بعد ثلاث سنوات تقريباً، في الدورة الثالثة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في القاهرة في آذار/ مارس 1977.

وبالاستناد إلى هذا التحوّل الذي طرأ على مواقفها، استطاعت منظمة التحرير أن تحقق عدداً من المكاسب السياسية المهمة على الصعيدين الدولي والعربي، ففي الأسبوع الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 1974، دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد الكلمة التي ألقاها ياسر عرفات أمامها، إلى ممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه الثابتة في فلسطين، بما فيها "حقه في تقرير المصير من دون تدخل خارجي، وحقه في الاستقلال والسيادة الوطنيين" (القرار رقم 3236)، ومنحت منظمة التحرير صفة المراقب في الأمم المتحدة (القرار رقم 3237). أما مؤتمر القمة العربية، الرباط ، الذي انعقد في تشرين الأول/ أكتوبر 1974، فأكد حق الشعب الفلسطيني "في العودة إلى وطنه وتقرير مصيره"، وحقه "في إقامة السلطة الوطنية المستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني".

في النصف الثاني من السبعينيات، طرأ تحوّل على بنية منظمة التحرير نجم عن عدد من العوامل، فقد دخلت منظمة التحرير في موقع الدفاع عن النفس على الصعيد السياسي، إثر تبدد سراب التسوية السياسية وإقدام مصر على انتهاج طريق الحل المنفرد مع إسرائيل، الذي تكلل في أيلول/ سبتمبر 1978 بتوقيعها اتفاقيات كامب ديفيد ، كما دخلت في موقع الدفاع عن النفس على الصعيد العسكري، بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في نيسان/ أبريل 1975 وانخراط فصائلها فيها، وقيام إسرائيل إثر عدوانها على جنوب لبنان في منتصف آذار/ مارس 1978، بإقامة "الشريط العازل". بيد أن التحوّل الذي طرأ على بنية منظمة التحرير لم يكن ممكناً في تلك الفترة لولا الموارد المالية الكبيرة التي صارت تمتلكها، وبخاصة بعد أن قررت القمة العربية، بغداد ، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، تقديم مساعدة سنوية للمنظمة قُدّرت بمبلغ 300 مليون دولار، لتمكينها من التصدي لتداعيات كامب ديفيد السلبية على وجودها في لبنان وعلى صمود سكان المناطق الفلسطينية المحتلة. ونتيجة هذه العوامل مجتمعةً، راحت منظمة التحرير تتحوّل، على الصعيد العسكري، من منظمة فدائيين إلى منظمة تمتلك جيشاً نظامياً يخوض حرب مواقع بالاعتماد على أسلحته الثقيلة، وبخاصة سلاح المدفعية والصواريخ. أما على الصعيد الاجتماعي، راحت المنظمة تتحوّل جهازاً "حكومياً" بيروقراطياً، يتمتع القائمون عليه بامتيازات مادية ومعنوية عديدة، وهيئة للتشغيل والرعاية الاجتماعية، تشغّل عشرات الآلاف من المتفرغين الذين يتقاضون رواتب شهرية وترعى آلاف الأسر في المجالات الاجتماعية المختلفة.

طاول تحول رئيسي منظمة التحرير في حزيران/ يونيو 1982، عندما بدأت القوات الإسرائيلية هجومها الواسع على لبنان، الذي أسفر في أعقاب صمود فلسطيني- لبناني استمر ما يقرب من ثلاثة أشهر، عن اقتلاع الوجود العسكري لمنظمة التحرير من لبنان. وبرحيل قواتها وأجهزتها عن لبنان، فقدت المنظمة "القاعدة الآمنة" التي كانت توفّر لها حرية التحرك السياسي، كما خسرت ورقة "الكفاح المسلح" التي استخدمتها لتثبيت دورها طرفاً أساسياً في الصراع، وشريكاً محتملاً في التسوية السياسية، كما كان لتشتت قياداتها أثر في انشقاق صفوفها، الذي أعقب تفجر الخلاف السياسي والصدام العسكري داخل حركة "فتح". ومن ناحية أخرى، بات اللاجئون الفلسطينيون مهمّشين في الساحة السياسية والاجتماعية اللبنانية، ومن دون حماية، وهدفاً في نزاع من أطراف عديدة، كما تبيّن خلال مجزرة صبرا وشاتيلا في أيلول/ سبتمبر 1982، وخلال "حرب المخيمات " بين المنظمات الفلسطينية وحركة أمل الشيعية، التي اندلعت سنة 1985 وانتهت بقيام البرلمان اللبناني في أيار/ مايو 1987 بإلغاء اتفاق القاهرة لسنة 1969.

ولم يفلح انفتاح قيادة منظمة التحرير السياسي في تلك الفترة على كلٍّ من الأردن ومصر في إخراجها من حالة الضعف الذي صارت تعاني منه، وبخاصة بعد أن راحت الدول العربية، المنشغلة بـ الحرب الإيرانية-العراقية وتداعياتها، تتجاهل وجودها تجاهلاً تاماً تقريباً، كما تجلّى ذلك في مؤتمر القمة العربية، عمّان، 1987 . ولم ينقذ المنظمة من هذه الحالة سوى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في كانون الأول/ ديسمبر 1987، التي كرّست انتقال مركز ثقل النضال الوطني الفلسطيني من الخارج إلى الداخل، وأحيت الدور السياسي لمنظمة التحرير، وبخاصة بعد قرار الحكومة الأردنية في 31 تموز/ يوليو 1988 فك العلاقة القانونية والإدارية بين الضفتين الشرقية والغربية لـ نهر الأردن ، وقيام الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في مدينة الجزائر ، في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، بإصدار "إعلان الاستقلال"، الذي تضمن موافقة منظمة التحرير على قرار تقسيم فلسطين الدولي، وموافقتها على قرارَي مجلس الأمن رقم 242 و338 أساساً لانعقاد المؤتمر الدولي للسلام. بيد أن الانتفاضة، التي أخرجت منظمة التحرير من وضعية التهميش السياسي، ما لبثت أن خلقت لقيادتها تحدياً داخلياً كبيراً، تمثّل في بروز "الإسلاميين" منافسين لها يرفضون الاعتراف ببرنامجها السياسي وبوحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني.

عندما غزا العراق  الكويت في آب/أغسطس 1990، كانت قيادة منظمة التحرير تواجه مأزقاً سياسياً خانقاً، ففي الوقت الذي وصلت "مبادرة السلام" الفلسطينية إلى طريق مسدود، ولا سيما بعد إقدام الإدارة الأميركية على قطع الحوار الذي كانت بدأته مع قيادة المنظمة، بدأت الانتفاضة تفشل في التحوّل حالة من العصيان المدني الشامل وفي تحقيق مكاسب سياسية جديدة للقضية الفلسطينية، بالتزامن مع موجات هجرة يهودية واسعة كانت تتدفق إلى إسرائيل من جمهوريات الاتحاد السوفييتي .

وإزاء هذه الظروف الصعبة، تبنّت قيادة منظمة التحرير "المبادرة" السياسية التي طرحها الرئيس العراقي صدّام حسين ، وتمثلت بـ"الربط" بين كل النزاعات في الشرق الأوسط ، وهي المبادرة التي تبددت إثر هزيمة الجيش العراقي على يد "التحالف الدولي" وانسحاب العراق من الكويت، إضافة إلى فرض حصار سياسي ومالي، عربي ودولي شديد على قيادة منظمة التحرير، ما دفعها إلى الموافقة على الشروط الأميركية للمشاركة في مؤتمر دولي للسلام انعقد في مدريد عام 1991، ثم دخول مفاوضات سرية مع الحكومة الإسرائيلية في أوسلو أسفرت في أيلول/سبتمبر 1993، عن "اتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني- الإسرائيلي" المعروف باسم اتفاقيّة أوسلو ، وتبادل "رسائل الاعتراف المتبادل" بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.

بيد أن تأسيس السلطة الفلسطينية، زاد من إضعاف منظمة التحرير وتهميش دورها "مظلةً سياسية جامعة" للفلسطينيين، وكرّس الفصل بين إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وحق عودة اللاجئين، كما أدى إلى تعميق الانقسام بين تجمعات الشعب الفلسطيني الرئيسية الثلاثة: في الشتات، وفي المناطق التي احتلت عام 1967، وفي المناطق التي احتلت عام 1948. كما تسبب تهميش منظمة التحرير في تراجع الدور السياسي للفلسطينيين في الشتات، حيث لم يعد قسم كبير من اللاجئين يرى في المنظمة ممثلاً.

خلال نصف قرن منذ تأسيسها، مرّت منظمة التحرير بعدد من التحولات: من مجموعة تابعة للدول العربية إلى الممثل الأكثر ديناميكية للتطلعات الفلسطينية، ومن قوة ثورية سياسياً وعسكرياً إلى جهاز بيروقراطي، ومن فاعل رئيسي على الساحة الدولية إلى بنية مهمشة تفتقر إلى مضمون. وعلى الرغم من الدعوات الدورية إلى إعادة تنشيط منظمة التحرير وإصلاحها، لم يباشَر حتى اليوم بهذه المهمة الهائلة، ومع ذلك فمن غير الممكن تجاهل إنجازات منظمة التحرير الضخمة، وإرثها وأثرها الكبيرين في تاريخ الشعب الفلسطيني المعاصر.  

جدول الأحداث الكلي
E.g., 2024/11/24
E.g., 2024/11/24