تأثر تطور البيئة المعمارية والتحضّر في فلسطين بسياسات تبنّتها الإمبراطورية العثمانية خلال عقودها الأخيرة وفرضتها على الحيّز الفلسطيني. وضع العثمانيون سياسات ونظماً مختلفة، من بينها: "التنظيمات" (إصلاحات 1839 و1856)، والمركزية، والتحديث، وتسوية الأراضي وفرزها، بالإضافة إلى نظم التخطيط والضرائب. وقد تم تصميم هذه النظم بهدف الوصول إلى مستوى من السيطرة على السكان وعلى إدارة الأراضي يتماشى مع حاجات إمبراطورية كانت تصارع لتجد مكاناً لها على المستوى العالمي. ومن بعض تجليّات السياسات العثمانية في فلسطين تطوير مدن منظمة مثل بئر السبع ، وإيلاء الاهتمام للتصنيع وأعمال البنية التحتية، وبناء خط سكة حديد الحجاز وأبراج الساعات.
أما التحوّلات الجذرية في البيئة المعمارية فقد حدثت في نهاية القرن التاسع عشر نتيجة لتغيرات اقتصادية- اجتماعية وجيو- سياسية. وأدى التحوّل في ملكية الأراضي من المشاع إلى الملكية الخاصة، والتحوّل من الاقتصاد العائلي المرتكز على الزراعة إلى الاقتصاد المرتكز على الأجور، إلى تغيير الأشكال المعمارية وصناعة البناء وشكل القرى والمدن، فاختفت الأحواش التقليدية التي كانت مبنية على علاقات القربى وتتجمّع حول أزقة ملتوية تشكّل حارات، ليحلّ محلها التخطيط المعاصر باستخدام خرائط التنظيم وبناء قصور فردية أو أبنية بعدة طبقات متعددة الاستخدامات حول شوارع واسعة.
وفي بداية القرن العشرين بدأت تبرز أشكال معمارية جديدة تعكس عملية التوسّع الحضري السريع الذي شهدته القرى والبلدات الفلسطينية. فقامت السلطات البريطانية بعد احتلالها فلسطين بإصدار قانون تنظيم المدن (1921) الذي استحدث مؤسسات التخطيط وسلطاتها. وبعد عدة تعديلات على النص أصدرت سلطات الانتداب في سنة 1936 قانوناً جديداً استحدث نظاماً أقل مركزية أعطى لكل لجنة محلية للأبنية وتنظيم المدن، وتحت إشراف اللجنة الخاصة باللواء، صلاحية إعداد مخطط تنظيم للبلدة وتحديد الأراضي المخصصة للاستخدام العام (طرق، وحدائق عامة، ومدارس، ومقابر، ...إلخ) أو "المحافظة على المواقع ذات الأهمية الأثرية أو الجميلة"، بالإضافة إلى تحديد حجم وارتفاع وتصميم والمظهر الخارجي للمباني الجديدة. وهذا يفسر مثلاً الاستخدام الإلزامي للحجر في مناطق مختلفة من فلسطين الانتدابية .
سرّع الانتداب البريطاني من التحوّلات في المجتمعات الفلسطينية وترك تأثيراً غربياً واضحاً على الحياة بشكل عام والبيئة المعمارية بشكل خاص؛ فبدأت أساليب جديدة (مثل النيوكلاسيكية) وتكنولوجيا جديدة (مثل الباطون المقوّى) تهيمن على البناء، وزادت كثافة السكان في القدس ويافا وحيفا وغيرها من المدن، وانحسرت الفروقات في الأسلوب المعماري بين المدن والقرى. أما في المدن والبلدات الرئيسية مثل رام الله والبيرة وبيت لحم وبيت جالا فقد استخدمت المباني الجديدة أشكالاً معمارية حضرية معاصرة أكثر من استخدام الأشكال المعمارية الريفية التقليدية.
هذا التحوّل في البيئة المعمارية في فلسطين والذي حدث بسلاسة نسبية انتهى بشكل مفاجيء مع النكبة سنة 1948 التي تم خلالها تهجير السكان من أكثر من 400 بلدة وقرية فلسطينية. وفي العقود التي تلت النكبة وضعت الحكومات الإسرائيلية خططاً مركزية لمصادرة الأراضي الفلسطينية التي أصبحت جزءاً من إسرائيل والسيطرة عليها، في الوقت نفسه الذي أهملت فيه بشكل كامل احتياجات الفلسطينيين الذين بقوا على أرضهم، من حيث مساحات السكن والاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية. وفُرضت قيود قاسية على المناطق التابعة للمدن والقرى الفلسطينية، وحُرم المواطنون الفلسطينيون من رخص البناء، واعتُبرت القرى العربية في صحراء النقب وفي الشمال، قرى "غير معترف بها"، وبالتالي حُرمت من الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والعناية الصحية والتعليم، وتم تدمير البيوت فيها بشكل روتيني وطرد سكانها منها.
أما في ما أصبح يسمى قطاع غزة
، فقد ارتفع عدد السكان، من 70,000 نسمة قبل النكبة، بنسبة 300% جراء تهجير 250,000 فلسطيني تقريباً إليه خلال سنة 1948. وقد أثّر هذا بشكل كبير في المشهد الحضري والريفي للقطاع خاصة بعد إنشاء مخيمات اللاجئين التي تم استبدالها لاحقاً بمآوٍ متهالكة ثابتة ومتنقلة. وتولّى الحاكم المصري سلطة تخطيط المدن وأصدر أنظمة وفقاً للقانون الانتدابي البريطاني لسنة 1936 (مثل خطط التنظيم أو تحديد ارتداد المباني الجديدة في مناطق معيّنة)، وتولّت
بعد
وضع احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1967 حداً للجهود الفلسطينية الناشئة التي سعت إلى استيراد أسلوب معماري عالمي وتطبيقه على المستوى المحلي. وخلال فترة الاحتلال الإسرائيلي الكامل للضفة الغربية وقطاع غزة (1967- 1993) سيطرت السلطات العسكرية الإسرائيلية على عمليات التخطيط. وكما هو حال كل الأنظمة الاستعمارية استخدمت إسرائيل إدارة وتخطيط الأراضي كأداة للسيطرة على الفلسطينيين والإبقاء عليهم في مناطق يسهل حكمها. خلال تلك الفترة، ارتكزت سياسة التخطيط الإقليمي الإسرائيلية في الضفة الغربية (والتي حملت بصمات موشيه دايان ، وزير الدفاع في الفترة ما بين 1967– 1974) على مفهومين أساسيين: الاندماج الاقتصادي للضفة الغربية مع إسرائيل (مما نتج عنه تخفيف القيود على حركة الفلسطينيين، وبشكل خاص العمالة الفلسطينية، وإعطاء البلديات الفلسطينية درجة معينة من الحكم الذاتي)، وإحاطة البلدات والقرى الفلسطينية بمناطق مخصصة لحدائق ذات طابع خاص، ومناطق عسكرية، وأنشطة استيطانية يهودية، وإدماج المستوطنات مع إسرائيل وبناء شبكة كبيرة من الطرق لربط المستوطنات بها. وعلى الرغم من النمو السكاني الفلسطيني في تلك الفترة، إلا أن دائرة تخطيط المدن التابعة للاحتلال لم تسمح بتوسيع المناطق الآهلة من المدن الفلسطينية في الضفة إلا مرة واحدة خلال السبعينات.
أما في قطاع غزة فقد اتخذ البعد المكاني لسياسة السيطرة الإسرائيلية على الاراضي والسكان أشكالاً أخرى. فحاولت إسرائيل تفريغ مخيمات اللاجئين من خلال تشجيع سكانها على الاستقرار في الضفة الغربية بالإضافة إلى طرد الآلاف من أقارب المقاتلين إلى
في "مرحلة أوسلو" التي بدأت سنة 1993، شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة طفرة في البناء غيّرت بشكل كبير من المشهد المعماري الفلسطيني. وفي نهاية القرن العشرين شهدت العمارة الحضرية مفارقة حادة بين السياقين المعاصر والتقليدي، إذ نجد في وسط القرى والبلدات الفلسطينية بيوتاً تقليدية بألوان هادئة تعلوها قبب لطيفة تندمج مع التلال المجاورة، أما حول المراكز التاريخية فنجد مبانٍ إضافية، كبيرة، متعددة الطوابق، إما فردية أو مبانٍ وبيوت مجمّعة حول بعضها البعض، مبنية من الحجر الكلسي، والجدران الإسمنتية، وسقوف مسطّحة عليها هوائيات، وصحون لاقطة، وخزانات مياه بلاستيكية، وألواح الطاقة الشمسية. هذه المباني الجديدة التي تعتدي على الأراضي الزراعية والأراضي العامة لا يوجد بينها وبين الإرث المعماري الماضي أي رابط عضوي، بالتالي شارفت أساليب البناء التقليدية ومهن وحرف البناء على الانقراض بعد أن تقاعد أو توفى البنّاؤون المعلمون والحرفيون.
لقد حملت اتفاقيّة أوسلو معها- من دون شك- تحوّلاً في التخطيط والعمارة في الأراضي المحتلة، إذ قسّمت الاتفاقية الضفة الغربية إلى مناطق: "أ" و"ب" و"ج"، تربط كل منها علاقة مختلفة مع إسرائيل. شجّعت السلطة الفلسطينية أعمال البناء وتوسع المدن في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها وهي مناطق "أ"، وإلى حد أقل مناطق "ب". وتم الاستثمار بشكل كبير في قطاع العقار وبناء الضواحي والتجمعات السكنية المغلقة ومراكز التسوق، كما شهدت تلك الفترة بناء أول مدينة مخططة بشكل كلي (مدينة روابي التي تقع بين رام الله وبيرزيت ). وقد برّرت الزيادة المطّردة في السكان مبادرات وعمليات وإجراءات تخطيط مستعجَلة ومرتجَلة منذ سنة 1993 حتى اليوم.
بعد سنة 1993 تميّزت عمليات التوسّع الحضري في قطاع غزة بتطوير الشوارع الرئيسية، وبناء مطار، وميناء، وفنادق، وأبراج سكنية وتجارية، وشاليهات على البحر. إلا أنه وبوجود محدودية المساحة والتخطيط الارتجالي، أصبحت مدينة غزة ومخيمات اللاجئين مناطق ذات كثافة سكانية عالية. في مخيم الشاطئ للاجئين على سبيل المثال يقطن 100,000 نسمة على مساحة كيلومتر مربع واحد. وتسبّب الانسحاب أحادي الجانب لإسرائيل من قطاع غزة بكارثة متواصلة: فبعد إخلاء المستوطنين اليهود، استخدمت إسرائيل بشكل مفرط القوة المميتة ضد سكان قطاع غزة (في 2008 و2012 و2014)، ونشرت جيشها حول القطاع لتفرض سيطرتها على كافة المعابر الحدودية وبالتالي السيطرة على الحركة من القطاع وإليه. هذا بالإضافة إلى تخصيص مناطق واسعة كمناطق محظورة مضيّقة المساحة المتبقية والتي تتميز بالكثافة السكانية. المحصلة النهائية هي ترسّخ وضع أصبح فيه التخطيط الحضري في آخر قائمة الأولويات، وراء استراتيجيات البقاء والصمود.