في خضمّ إعادة تنظيم سوريا الكبرى ، يقرّر الباب العالي ضمّ ولاية دمشق إلى ولاية صيدا لتشكيل ولاية سوريا، ومركزها دمشق ، وبالتالي تكون مناطق فلسطين كلها (عكا ونابلس والقدس ) تابعة لولاية سوريا.
بعد انسحاب جيش محمد علي من بلاد الشام عائداً إلى مصر في نهاية عام 1840، باشر العثمانيّون سلسلة إجراءات لإعادة التنظيم الإداريّ كان لها أثر مهم على وضع ما أصبح يُسمّى فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى ، وعلى ترسيم حدودها. وساعد توسيع منطقة القدس ، على وجه الخصوص، وترقيتها إلى قضاء منفصل، على إرساء الأسس لظهور الأراضي التي عُرفت في عشرينات القرن الماضي بوصفها فلسطين الانتدابية . وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الحدود التي خُصّصت لقضاء القدس في الجنوب الغربيّ، وقضاء عكا في الشمال، وقضاء نابلس في المركز، تركت أثرها على حدود فلسطين الانتدابية.
التقسيم الإداريّ
من حيث التقسيمات الإداريّة، تشكّلت الإمبراطورية العثمانية في الأساس من مقاطعات (أطلق عليها اسم "إيالات" حتى عام 1864، وبعد ذلك أصبحت تُسمى "ولايات" يحكم كل منها والٍ). كما تمّ تقسيم كلّ مقاطعة إلى سناجق (يحكم كل منها متصرّف)، وتمّ تقسيم كلّ سنجق إلى أقضية (يحكم كلّ منها قائمقام). قبل احتلال محمد علي بلاد الشام ، كانت المناطق التي صارت تُعرف بفلسطين بعد الحرب العالمية الأولى مقسِّمة إداريّاً إلى أربعة سناجق، ثلاثة منها كانت جزءاً من إيالة الشام ومقرّها دمشق : "القدس"، "يافا – غزة " و"نابلس "؛ أما السنجق الرابع فكان سنجق عكا ، الذي كان مقرّاً لإيالة صيدا .
إعادة التنظيم الإداريّ في أعقاب الانسحاب المصريّ
بعد انسحاب جيش محمد علي عائداً إلى مصر في نهاية عام 1840، قرّر الباب العالي توحيد سنجق "القدس" مع سنجق "يافا- غزة" في سنجق واحد حمل اسم القدس، بهذا الإجراء، تمّ خفض مكانة كلٍّ من يافا وغزة إلى مستوى قضاء تابع للقدس، وظلّ الوضع كذلك حتى الحرب العالميّة الأولى. أما سنجق القدس الموسع، فبقي تابعاً لإيالة الشام.
بالإضافة إلى ذلك، وفي وقت مبكّر من عام 1842، تمّ ضمّ سنجق نابلس إلى القدس. وهذا يعني أنه جرى تشكيل وحدة إداريّة كبيرة تمتدّ من مرج ابن عامر (ويُسمّى أيضاً وادي يزراعيل) في الشمال، إلى صحراء النقب في الجنوب. بيد أنّ هذا الإجراء لم يدم طويلاً، ففي عام 1858، تمّ اقتطاع سنجق نابلس من القدس وإلحاقه مباشرة بدمشق، كما كانت عليه الحال قبل الاحتلال المصريّ.
كما تمّ أيضاً، وبعد انسحاب قوات محمد علي، نقل مقرّ إيالة صيدا من عكا إلى بيروت ، وذلك على الرغم من أنّ الإيالة ظلّت تحمل اسم صيدا. وبهذا، تمّ تخفيض مكانة مدينة عكا لتصبح مركزاً لسنجق عكا الذي شمل منطقة الجليل .
وبعد سنة 1841، أخذت القدس، المركز الإداريّ الرئيسيّ في جنوب سوريا ، مكان عكا قبل ذلك ونابلس (التي كانت قد حصلت على أولويّة موقّتة في القرن الثامن عشر). وقد ساهم هذا الإجراء الإداري في تطوّرها المستقبلي إلى حد كبير، حتى إنه يمكن القول إنّ تاريخ فلسطين الحديث بدأ مع هذا الارتقاء في وضع القدس.
إعادة التنظيم الإداريّ بعد صدور قانون الولايات العثمانيّ في سنة 1864
في سنة 1864، أصدر العثمانيّون قانون الولايات، في خطوة باتجاه تطبيق الإصلاحات الموعودة في "التنظيمات " في مجال التقسيم الإداري للإمبراطورية. بعد عام من إصدار القانون، قرّر الباب العالي أن يضمّ ولاية دمشق إلى ولاية صيدا لتشكيل مقاطعة كبيرة سمّيت ولاية سوريا. وأصبحت دمشق عاصمة الولاية الجديدة.
لكن تشكيل هذه الولاية لم يحظَ بالموافقة عليه بالإجماع لدى الباب العالي. لذلك، وبعد وفاة الصدر الأعظم علي باشا في أيلول/ سبتمبر 1871، فإنّ محمود نديم باشا ، الذي حلّ محلّه، قرّر في أيار/ مايو 1872 فصل السناجق الثلاثة (عكا ونابلس والقدس) عن ولاية سوريا، وتشكيل ولاية جديدة أطلق عليها اسم "ولاية القدس الشّريف"، على أن تكون القدس عاصمة لها. واستمرت "ولاية القدس الشريف" هذه، التي رسمت مسبقاً وإلى حد كبير معالم فلسطين المستقبل، شهرين فقط (حتى تموز/ يوليو 1872)، عندما تمت إقالة نديم من منصب الصدر الأعظم، وقام الصدر الأعظم الجديد مدحت باشا بإلغاء جزءٍ من القرار الإداريّ الذي اتّخذه نديم، فأعاد ضمّ سنجقيْ عكا ونابلس إلى ولاية سوريا. بيد أنّه أسبغ على سنجق القدس وضعاً خاصّاً "مستقلاًّ"، بإخضاعه مباشرة إلى وزارة الداخلية في الباب العالي. وبهذا الإجراء، أصبحت القدس سنجقاً "مستقلاً"، وهي الوضعية التي أُبقي عليها من سنة 1874 حتى اندلاع الحرب العالميّة الأولى.
كما تمّ إجراء تغيير آخر في آذار/ مارس 1888، عندما قرّر الباب العالي تقسيم ولاية سوريا إلى ولايتين: ولاية مصغّرة لسوريا، وولاية جديدة في بيروت. وأصبح كلٌّ من سنجق عكا وسنجق نابلس (الذي تم اقتطاع جزء منه كما سنرى أدناه) جزءاً من ولاية بيروت.
تشكيل الحدود
نلاحظ أنّ الحدود بين السناجق التي شكلّت فلسطين في ما بعد، وهي عكا في الشمال ونابلس في الوسط والقدس في الوسط والجنوب، كانت حدوداً إداريّة وليست طبيعيّة أو جغرافيّة. وفي ما يلي، سنحاول توضيح هذه الحدود.
سنجق عكا: إلى الشمال من سنجق عكا كان يقع قضاء صور ، الذي كان جزءاً من سنجق صيدا، ويشمل أراضي جنوب لبنان . وفي الشمال الشرقيّ من سنجق عكا، وكجزء منه، كان يقع قضاء صفد . وقد تمثّل الحدّ الفاصل بين سنجق عكا وقضاء صور أواخر العهد العثماني، في خط بين رأس الناقورة على البحر الأبيض المتوسط ونقطة واقعة على الساحل الغربي من بحيرة الحولة .
سنجق نابلس: كان سنجق نابلس والبلقاء يقع إلى الجنوب من عكا، ويمتد من جنوب مرج ابن عامر إلى حدود شمال يافا. ومن شمال يافا، كانت الحدود تمتدّ باتجاه الشرق إلى شمال مدينة أريحا . عندما تقرر تقسيم ولاية سوريا إلى ولايتي سوريا وبيروت في سنة 1888، تم اقتطاع البلقاء، الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن والتي كانت أحد الأقضية داخل سنجق نابلس، وفصلها عن هذا السنجق وإلحاقها بولاية سوريا، ومنذ ذلك الحين وحتى سقوط الإمبراطوريّة، كان نهر الأردن يحدّ سنجق نابلس شرقاً. أما في ما يتعلق بحدوده الغربيّة، فقد وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط، وامتدت من شمال ما يعرف اليوم بـ نتانيا إلى شمال يافا.
سنجق القدس: كان يحدّه سنجق نابلس من الشمال، والبحر الأبيض المتوسّط من الغرب. أما حدوده الشرقيّة، فكانت تمتد من شمال مدينة أريحا، مروراً بـ البحر الميت ، ووصولاً إلى خليج العقبة . غير أن حدوده الجنوبيّة والجنوب غربيّة كانت أكثر تعقيداً، فبسبب الصراع المستمر بين القبائل البدويّة في صحراء النّقب، أسّس العثمانيّون سنة 1900 بلدة بئر السبع في صحراء النقب الشماليّ، وألحقوها بالقدس، ثمّ منحوها صفة قضاء، موسّعين بذلك حدود سنجق القدس نحو الجنوب. وفي أعقاب اتفاق أُبرم سنة 1906 بين العثمانيّين والبريطانيّين (الذين كانوا يسيطرون على مصر آنذاك)، تمّ تحديد الحدود الجنوبيّة الغربيّة بين سنجق القدس ومصر كخط يصل بين رفح في الشمال ونقطة بين العقبة وطابا على خليج العقبة. وتبعاً لذلك، امتدّت سلطة حاكم القدس حتى العقبة. بعبارة أخرى، أصبح كامل النّقب وصولاً إلى العقبة تابعاً للقدس.
الخاتمة
جاء التقسيم الإداريّ الذي أجراه الباب العالي (تمّ تحليله أعلاه) بغرض إحكام السيطرة على منطقة ذات حساسيّة، فالقدس كانت المقاطعة الأكثر حساسيّة في هذه المنطقة، كونها تقع على حدود مصر، كما بسبب تزايد مصالح القوى الأوروبيّة في الأماكن المسيحيّة المقدّسة. ويبدو أنّ الباب العالي، بسبب هذه العوامل، قرر منح القدس وضعاً خاصاً سنة 1872. وبالإضافة إلى ذلك، وبهدف أن تكون جميع الأماكن المسيحيّة المقدّسة تحت سيطرة حاكم واحد، قام العثمانيّون سنة 1906، بفصل قضاء الناصرة عن سنجق عكا وإلحاقه بسنجق القدس، واستمر هذا الترتيب عامين فقط، وفي سنة 1908 أعيد ضمّ الناصرة إلى عكا.
أخيراً، وكما هو معروف، فقد تمّ توحيد السناجق الثلاثة (القدس ونابلس وعكا) في نهاية الحرب العالميّة الأولى لتشكّل فلسطين تحت الانتداب البريطانيّ.