يقرّر مجلس الوزراء الأمنى الاسرائيلى شنّ هجوم على قطاع غزة
يطلق عليه اسم عملية الجرف الصامد
. وسوف تسميه "
شهدت الأشهر الثلاثة والثلاثون التي أعقبت انتهاء عملية "الرصاص المسبوك" أو "معركة الفرقان"، بحسب تسمية حركة "حماس"، في كانون الثاني/ يناير 2009 صدامات متقطعة بين إسرائيل و"حماس". وقامت إسرائيل بشنّ عملية "عامود السحاب" أو "حجارة السجيل" (بحسب "حماس")، في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، بهجوم "صدمة ورهبة" (Shock and Awe) جوي استهدف القائد العسكري لـ"حماس" أحمد الجعبري، أدى إلى اغتياله مع قيادات رئيسية أُخرى. وخلال الأيام الثمانية للمواجهة أطلقت "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي، أكثر من 1456 قذيفة صاروخية باتجاه إسرائيل، وأُصيبت تل أبيب لأول مرة، بينما استهدف سلاح الجو الإسرائيلي أكثر من 1500 هدف في غزة. وفي 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، دخل وقف إطلاق النار حيّزَ التنفيذ – بعد توسّط الحكومة المصرية التي كان يرأسها آنذاك محمد مرسي، عن حركة الإخوان المسلمين.
وبدا أن عملية عامود السحاب قد أكدت قناعة إسرائيل بقدرة سلاح الجو على تحقيق التأثير الردعي المرغوب، من دون الحاجة إلى هجوم بري. وأتاحت مواجهة سنة 2012 الاستخدام المُثبَّت الأول لنظام "القبة الحديدية" المضاد للصواريخ، الذي كان قد أصبح جاهزاً للتشغيل آنذاك، والذي عزت المصادر الإسرائيلية الفضل له في اعتراض نحو 20 في المئة من القذائف التي أُطلقت باتجاه إسرائيل. وقادت عملية عامود السحاب إلى فترة ممتدة من الهدوء الحذر، انتهت في صيف سنة 2014. ففي 12 حزيران/ يونيو من ذلك العام، جرى اختطاف ثلاثة مستوطنين إسرائيليين، في العُشرية الثانية من أعمارهم، من سكان كتلة غوش عِتسيون الاستيطانية القريبة من القدس، واتهمت إسرائيل "حماس" بالمسؤولية، وفي إثرها نفذت عمليات اقتحام واعتقال واسعة في الضفة الغربية، قُوبلت بإطلاق الصواريخ من قبل "حماس"، وتبعتها ضربات جوية ومدفعية إسرائيلية استمرت بين منتصف حزيران/ يونيو وأواخره.
وفي 7 تموز/ يوليو، قررت إسرائيل شنّ هجوم شامل أطلقت عليه اسم عملية "الجُرف الصامد"، وأسمته حماس "العصف المأكول". وكان الهدف الإسرائيلي المعلن وقف نيران الصواريخ الفلسطينية باتجاه إسرائيل وردع هجمات إضافية. وتطوّرت الحرب في ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: الهجوم الجوي (8 إلى 16 تموز/ يوليو)
بدأت عملية الجرف الصامد في 8 تموز/ يوليو، عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف زهاء 223 هدفاً في اليوم الأول، و326 هدفاً في اليوم الثاني. وخلال هذه المرحلة الأولى من الهجوم، الجوي حصراً، نفذ سلاح الجو الإسرائيلي أكثر من 1700 غارة، مستهدفاً مرافق تخزين السلاح وتصنيعه، ومواقع إطلاق الصواريخ، ومراكز القيادة والسيطرة، والمجمّعات العسكرية، كما استُهدف بعض قادة "حماس" الكبار بصورة منفردة.
لكن، خلافاً لحرب غزة في 2008-2009 وبدء الحملة الجوية في سنة 2012، يبدو أن إسرائيل فشلت في تحقيق المفاجأة العملياتية. وعلاوة على ذلك، كانت الضربة الجوية الأولى أقل نجاحاً من المواجهات السابقة. وأنجز سلاح الجو الإسرائيلي (إلى جانب البحرية الإسرائيلية المرابطة على مقربة من الشواطئ) هجماته على معظم الأهداف المخطّط لها خلال الأيام القليلة الأولى. وفي 12 تموز، أدت ضربة إسرائيلية استهدفت منزلاً لقائد شرطة رفيع في مدينة غزة، إلى سقوط 21 فلسطينياً، وبحلول 15 تموز، كانت الخسائر البشرية الفلسطينية قد تجاوزت الـ200، أكثر من 80 في المئة منها من المدنيين.
وعلى الرغم من الهجوم الجوي، فقد استمر إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون باتجاه إسرائيل بالوتيرة ذاتها، وتراوح عددها بين 115 و177 قذيفة يومياً. وتجاوزت النيران الفلسطينية غلاف غزة (المنطقة الإسرائيلية الواقعة في نطاق 7 كيلومترات من حدود قطاع غزة) لتصل إلى مطار نيفاتيم العسكري (جنوب شرق بئر السبع)، وإلى ديمونا، وتل أبيب، وحيفا، والقدس. ولأول مرة، حاولت "حماس" التسلّل إلى إسرائيل عن طريق البحر، عندما قام كوماندوس بحري بمحاولتي إغارة متتاليتين قرب كيبوتس زيكيم.
وعلى الجبهة الدبلوماسية، اقترحت مصر وقفاً لإطلاق النار في 14 تموز، فوافقت إسرائيل على المقترح، لكن "حماس" رفضته، مقترحة هدنة لمدة عشر سنوات في مقابل رفع الحصار عن غزة، وتوسيع منطقة الصيد في مياه غزة لتصل إلى عشرة أميال بحرية، وتمركز قوات دولية على الحدود، وإطلاق أسرى الضفة الغربية الذين أُطلقوا سابقاً في صفقة مبادلة شاليط في سنة 2011 قبل أن تعيد إسرائيل اعتقالهم في حملة حزيران/ يونيو 2014 الواسعة في الضفة الغربية. وفي إثر فشل الاتفاق على وقف النار، وجّه الجيش الإسرائيلي ضربات استهدفت مواقع في أنحاء قطاع غزة، بما في ذلك مبنى وزارة الداخلية، ومستشفىً، الأمر الذي أدى إلى مقتل أربعة وأربعين فلسطينياً، كما قُتل أربعة أطفال كانوا يلعبون قرب شاطئ مدينة غزة جرّاء القصف الإسرائيلي.
المرحلة الثانية: الاجتياح البري (17 إلى 31 تموز/ يوليو)
في 17 تموز، استخدمت وحدة من "حماس" "نفقاً هجومياً" للتسلّل إلى إسرائيل، وقتلت خمسة جنود إسرائيليين قرب كيبوتس صوفا، شرقي رفح. ونتيجة مخاوف إسرائيل من التهديد الذي تشكّله الأنفاق، وافق المجلس الوزاري على تنفيذ هجوم بري. وبدأ الهجوم ليلة 17 تموز بقصف مدفعي كثيف على بيت حانون وبيت لاهيا في شمال القطاع، وتوغلات في مناطق قريبة من السياج الحدودي. وكان تقدير إسرائيل أنها تواجه 26 كتيبة بأحجام ومستويات نوعية متفاوتة، وبأن لدى "حماس" نحو 25،000 – 30،000 مقاتل ينضوي معظمهم في ستة ألوية، يتشكّل كلٌ منها من 2500 إلى 3500 رجل، وهي مجهّزة بمزيج من مجموعات الصواريخ وقذائف الهاون، ووحدات تصدٍ للدبابات مسلّحة بقذائف "آر بي جي" وبعض الصواريخ المضادة للدروع، وقناصة، ووحدات مشاة.
وفي ليلة 17 تموز، شنّت الوحدات التالية اجتياحاً برياً:
- الفرقة المدرّعة الـ36، التي تضم اللواء الأول "غولاني"، واللواء المدرّع الـ188، واللواء المدرّع السابع، ولواء المظليين الـ35، ولواء المدفعية الـ282.
- الفرقة الـ162، التي تضم لواء "ناحَل" الـ933، واللواء المدرّع الـ401، ولواء المدفعية الـ215.
- فرقة غزة الإقليمية 643، التي تضمّ لواء "غفعاتي" الـ84، واللواء الإقليمي للشمال واللواء الإقليمي للجنوب.
وأشرفت هذه الفرق، بدورها، على مجموعات المهمات للقوات الخاصة، وعلى الوحدات البحرية، وعلى الوحدات الخاصة المستخدمة للكلاب، والوحدات المتخصّصة بإدارة الطائرات المسيّرة من دون طيار.
وركّزت الحملة الإسرائيلية البرّية إلى حدٍّ كبير، لكن ليس حصراً، على الأنفاق. وتدّعي المصادر الإسرائيلية أن الجيش الإسرائيلي اكتشف 100 كيلومتر من الأنفاق داخل غزة، بما يشمل، بحسب هذا الادعاء، اثنين وثلاثين نفقاً تعبر الحدود، العديد منها كان لا يزال في مرحلة الإنشاء. وبحسب محلّلين غربيين، فإن اثنين وعشرين نفقاً فقط عبرت الحدود الإسرائيلية، ولم تكن كلها قد وصلت إلى مآلها النهائي. ومع ذلك، تمكنت "حماس" من استخدام خمسة أنفاق بنجاح قبل أن تقوم إسرائيل بتدميرها.
معركة الشجاعية
حيّ الشجاعية، الواقع في قلب مدينة غزة، هو حي مديني كثيف السكان، يعيش فيه نحو 100،000 مدني. وبحسب المصادر الإسرائيلية، شكّل هذا الحيّ مَعقلاً لـ"حماس" يضم زهاء 800-900 مقاتل، وانطلقت منه ستة أنفاق عابرة للحدود، على الأقل. قام اللواء الأول "غولاني" بشنّ الهجوم على الحيّ، وهو ما أدى إلى واحدة من أكثر معارك حرب سنة 2014 ضراوة.
وخطّط الجيش الإسرائيلي لإرسال جنود راجلين للبحث عن الأنفاق، وبعض القوات كان عليها الاعتماد على مركبات م 113 أميركية الصنع القديمة وضعيفة التحصين للتحرّك في شوارع الحي المكتظة. وفي ليلة 19 تموز، بدأ اللواء تقدمه، في حين كانت وحدات أُخرى من الفرقة الـ36 تناور في مكان آخر على امتداد السياج القريب من مدينة غزة كجزء من محاولة خداع فاشلة. وبمجرد عبور وحدات "غولاني" خط السياج، وُوجهت بإطلاق النار الكثيف، وأُصيب اثنان من القادة الثلاثة للفصيلة في الكتيبة المتقدمة بجراح. وأطلق مقاتلو "حماس" قذيفة ’آر بي جي’ مضادة للدروع على مركبة م113، الأمر الذي أدى إلى مقتل سبعة جنود إسرائيليين، فيما أُصيب قائد اللواء واثنان من قادة الكتائب بجراح.
وطلب اللواء دعماً من سلاح الجو ومن نيران المدفعية، كما نُقل أن ضباطاً أميركيين كباراً، اطّلعوا على ملخّص وزارة الدفاع الأميركية للعمليات الإسرائيلية في 21 تموز، ذُهلوا عندما علموا أن إحدى عشرة كتيبة مدفعية إسرائيلية – بحدّ أدنى من 258 قطعة مدفعية – أمطرت الحيّ الغزّي بما لا يقل عن 7000 قذيفة شديدة الانفجار. وألقى سلاح الجو الإسرائيلي نحو مئة قنبلة 2000 رطل (أي نحو 200،000 رطل من المتفجرات). وعندما انتهت معركة الشجاعية في 20 تموز، كان 13 جندياً إسرائيلياً قد لقوا حتفهم. ووصل حجم الخسائر البشرية الفلسطينية إلى ما لا يقل عن 65 ضحية، بينهم 35 من النساء والأطفال وكبار السن، و288 جريحاً. لكن المقاومة الغزّية قامت في 22 تموز، على الرغم من الهجوم الضاري في الشجاعية، بإطلاق صاروخ أدى إلى تشويش حركة الطيران الدولي في مطار بن- غوريون، وهو ما أثبت عدم تمكّن إسرائيل من كبح نيران المقاومة.
العمليات في الشمال، والوسط، والجنوب
إلى الشمال من "غولاني"، لم تُواجِه الفرقة الـ162 مقاومة بالحدة نفسها. لكن في 21 تموز، خرج مقاتلو "حماس" من نفق أوصلهم إلى داخل إسرائيل على بُعد نحو 1،1 كيلومتر من سْديروت، وأطلقوا قذيفة مضادة للدروع، أدّت إلى مقتل أربعة جنود، بمن فيهم قائد كتيبة "ناحَل"، وهو من كبار الضباط الإسرائيليين الذين قُتلوا في هذه المواجهة. وبعد بضعة أيام، في 25 تموز، اشتبكت قوات إسرائيلية مع قوة من مقاتلي "حماس"، فقُتل اثنان، كما أُصيب قائد السرية بجراح. وشهد يوم 24 تموز واحداً من أسوأ الهجمات الإسرائيلية على أهداف مدنية في منطقة عمليات الفرقة الـ162، عندما قُتل 15 مدنياً فلسطينياً وأُصيب 200 بجراح في قصف استهدف مدرسة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى ’أونروا’، استُخدمت كملجأ قرب بيت حانون.
ونشرت إسرائيل، وسط القطاع، اللواءين المدرّعين الـ188 والـ7، بِنيّة التقدم مباشرة نحو البحر. لكن، في 19 تموز، أُمروا بالتركيز على شبكة الأنفاق، بعد أن خرج مقاتلو "حماس" من نفق يقع على مسافة نحو 4،7 كيلومتر من كيبوتس بئيري، الواقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة غزة، واشتبكوا مع القوات الإسرائيلية. ووجدت إحدى كتائب اللواء المدرّع السابع فَتحتَيْ نفقين داخل حدود غزة. كما واجه اللواء المدرّع الـ188 صعوبات نتيجة أعطال في عشرات من دبابات "ميركافا" الأقدم تصنيعاً.
وفي جنوب قطاع غزة، خاضت الوحدات الإسرائيلية الثلاث المتمركزة في المواقع الأقصى جنوباً – لواء "غفعاتي" الـ84، ولواء المظليين الـ35، واللواء المدرّع الـ460 - مواجهات عنيفة. وفي 23 تموز، قُتل ثلاثة مظليين وأُصيب ثلاثة آخرون بجراح عندما دخلوا منزلاً مفخّخاً. لكن لواء "غفعاتي" الـ84 كان مشاركاً، قبل يومين من ذلك، في حادث خطر في خُزاعة، وهي قرية زراعية صغيرة لا تبعد كثيراً عن خانيونس. وكانت إسرائيل قد دعت السكان المدنيين إلى إخلاء البلدة صباح 20 تموز، لكن سلاح الجو الإسرائيلي قام، في اليوم التالي، بقصف الطرقات التي تقود إلى القرية، بينما دخلت عناصر من اللواء إليها. وبحسب التقارير الدولية، فُرضت حالة حصار على خُزاعة عندما منعت القوات الإسرائيلية السكان من المغادرة، على الرغم من شحّ الغذاء والماء لديهم. ونُقل عن مراسلين أجانب أن جنوداً إسرائيليين قاموا أيضاً بقتل مدنيين، بمن فيهم بعض الذين كانوا يلوّحون بأعلام بيضاء.
المرحلة الثالثة: اشتباكات متقطّعة ووقف نهائي لإطلاق النار (من 1 إلى 26 آب/ أغسطس)
في عصر يوم 31 تموز، أعلن وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري والأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة بان كي مون وقفاً لإطلاق النار لمدة 72 ساعة وافقت عليه الأطراف كافة، يبدأ في 1 آب/ أغسطس، على أن تعقبه مفاوضات في القاهرة من أجل التوصل إلى اتفاق أطول مدى. لكن وقف إطلاق النار هذا لم يصمد، وتبعته سلسلة من إعلانات أُخرى لوقف النار ومن انهيارات أُخرى لها.
'إجراء هنيبعل'
ادعى الجانب الإسرائيلي أن وقف إطلاق النار المعلن في 31 تموز لا يسري على البحث عن الأنفاق وتدميرها. وبالنتيجة، انهار وقف إطلاق النار مباشرة تقريباً عندما واجه جنود إسرائيليون مقاتلين فلسطينيين يخرجون من أحد الأنفاق، فقُتل اثنان من جنود لواء "غفعاتي"، واعتُبر ثالث مختطفاً. وقام الجيش الإسرائيلي بتفعيل سريع لـ ’إجراء هنيبَعل’، الذي يُبيح استخدام القوّة لمنع خطف جنود إسرائيليين، حتى وإن كان ذلك يهدّد حياتهم بالخطر. وبعث الجيش بقواته داخل النفق وجرى إطلاق ما لا يقل عن 2000 صاروخ وقذيفة على الأحياء المجاورة، وهو ما أدى إلى مصرع مدنيين كانوا يحاولون الهرب، وتحطيم مركبات وسيارات إسعاف كانت تحاول إخلاء الجرحى. وقُتل ما لا يقل عن 160 فلسطينياً، واستأنفت فصائل المقاومة إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل. وفي اليوم التالي، أعلن الجيش الإسرائيلي أن الجندي المفقود هو في عداد الموتى.
وبقي الوضع الميداني، بعد ذلك، إلى حدٍّ بعيد، من دون تغيير، إذ واصل الجيش الإسرائيلي هجماته الجوية والبحرية والبرية للأسبوع الرابع على التوالي، وهو ما أدى إلى مقتل 268 فلسطينياً، بما في ذلك بفعل ضربتين وجّههما يوم 3 آب/ أغسطس، أدّت إحداهما إلى مقتل 10 أفراد من عائلة واحدة في منطقة رفح، والأُخرى، التي استهدفت مدرسة تابعة للأمم المتحدة، أدّت إلى مقتل 10 وإصابة 30 بجراح.
وبعد وقف لإطلاق النار لمدة 72 ساعة في 5 آب، سحب الجيش الإسرائيلي قواته البرية من الميدان. واستُؤنفت المواجهات في الأيام العشرة التالية، وتخللتها عمليات وقف نار متعاقبة. وفي 19 آب، فشلت محاولة إسرائيلية في اغتيال قائد "حماس" العسكري محمد ضيف، لكنها قتلت زوجته وابنه الطفل ذا السبعة أشهر. وفي ردّها، أطلقت المقاومة أكثر من خمسين قذيفة على إسرائيل.
وخلال الأسبوع الأخير من آب، واصل الجيش الإسرائيلي دكّ القطاع، وقام بضرب 330 هدفاً، وبتسوية عدة أبراج بالأرض، بغرض فرض وقف غير مشروط للنار على "حماس"، وهو ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 100 فلسطيني وإصابة العشرات بجراح. وخلال ذلك الأسبوع، أطلق المقاتلون الفلسطينيون أكثر من 900 صاروخ وقذيفة هاون باتجاه إسرائيل، في المقام الأول باتجاه القدس، وتل أبيب، ومناطق في الجنوب.
وفي 26 آب، وافق الطرفان على وقف مفتوح لإطلاق النار. ونصّ الاتفاق على تخفيف للحصار، وفتح لمعابر غزة الحدودية لاستيراد البضائع ومواد إعادة البناء، وتوسيع لمنطقة الصيد البحري في غزة من 3 إلى 6 أميال بحرية، وتخفيض لمساحة المنطقة العازلة، التي فرضتها إسرائيل داخل غزة على امتداد السياج الحدودي، من 300 إلى 100 متر. أمّا القضايا والمطالب التي تمّت إحالتها إلى محادثات لاحقة فشملت الإفراج عن الفلسطينيين الذين أُطلقوا في صفقة تبادل شاليط سنة 2011 وأُعيد اعتقالهم في حزيران/ يونيو 2014، وتسليم جثث الجنود الإسرائيليين الذين قُتلوا في غزة في أثناء المعارك، وكذلك إقامة ميناء تجاري فعّال، ومطار في القطاع. ولم يجرِ حلّ أي من هذه القضايا فيما بعد.
الخسائر البشرية والمادية
وفق تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) (نُشر في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2014)، بلغ عدد الضحايا الفلسطينيين 2189 (بمن فيهم أولئك الذين أصيبوا بجراح في أثناء المواجهات وتوفوا بعد وقف إطلاق النار)، 1486 منهم من المدنيين. وقُتل ما لا يقل عن 513 طفلاً، 70 في المئة منهم تحت سن الثانية عشرة. وفقدت 142 عائلة فلسطينية على الأقلّ 3 أو أكثر من أفرادها في حادث واحد، وأُصيب 11،100 فلسطيني، بمن فيهم 3374 طفلاً، بجراح. وأكدت الهيئة التابعة للأمم المتحدة مقتل 557 من المقاتلين، في حين لم يتمّ التحقق من 146 حالة وفاة. وكان حجم الخراب غير مسبوق: فبحسب إحصاءات الأمم المتحدة، دُمّر أو تضرّر بشكل كبير 17،800 منزل بحيث باتت غير صالحة للسكن، فيما أُصيب 153،000 منزل بأضرار، لكنها بقيت قابلة للسكن، كما تضرّرت 252 مدرسة و78 مستشفى. وفي تقدير لمؤسسة
في الجانب الإسرائيلي، قُتل 71 إسرائيلياً، بينهم 66 عسكرياً و5 من المدنيين. وأعلنت هيئة الإسعاف ’نجمة داود الحمراء’ أنها قامت، خلال الخمسين يوماً من القتال، بمعالجة 842 مدنياً، بمن فيهم 6 قُتلوا و36 آخرون أصيبوا بجراح نتيجة إصابتهم بشظايا. وتسبّبت الحرب بما يقارب الـ 55 مليون دولار من الأضرار المباشرة للبُنى التحتية الخاصة والعامة، إلى جانب 443 مليون دولار أُخرى من الأضرار غير المباشرة.
تحليل
'حماس' والمقاومة
بين "عامود السحاب" سنة 2012 و"الجُرف الصامد" سنة 2014، بذلت "حماس" جهداً منهجياً لتطوير قدراتها العسكرية. وشمل ذلك، على المستوى الاستراتيجي العام، (أ) تطوير بُنيتها التحتية العسكرية في قطاع غزة وتوسيع حضورها في الضفة الغربية حيث أمكن، و(ب) تطوير عقيدة هجومية ترتكز على "نقل الحرب إلى أرض العدو" من خلال الأنفاق الهجومية وإغارات الكوماندوس براً وبحراً، بين أمور أُخرى. وركّزت أهداف "حماس" الاستراتيجية الرئيسية على رفع كلفة أي هجوم إسرائيلي مستقبلي وتعزيز قدراتها الردعية، وبالتالي قوتها التفاوضية فيما يتعلق بالحصار.
ومع إدخال إسرائيل "القبة الحديدية" في سنة 2011، سعت "حماس" لـ"إجهاد" النظام المضاد للصواريخ من خلال توسيع دائرة الهجمات، وتركيز أكبر على الصواريخ دقيقة الإصابة وعلى مَدَيات أطول وأوسع لها، ومن خلال تطوير وحدات الهاون لديها نظراً إلى أن القبة الحديدية لا تستطيع اعتراض قذائف الهاون، كما في حال الصواريخ والقذائف الصاروخية. وعلى الرغم من مداها المحدود، فإن قذائف الهاون تستطيع أن تشكّل تهديداً جدياً لإسرائيل في نطاق ’غلاف غزة’.
وكان استثمار "حماس" في بناء نظام دفاعي واسع النطاق تحت الأرض مجزياً إلى حدّ كبير كونه أتاح المجال أمام مرونة تكتية كبيرة في مواجهة هجوم برّي. لكن قدرتها على إلحاق أضرار بإسرائيل لم تتحقق تماماً خلال "عملية الجرف الصامد". وتمَثّل الإنجاز الأهم لنظام الأنفاق في ضمان أمن المستوى القيادي للمقاومة. ويمكن التسجيل لمصلحة "حماس" والمقاومة تمكّنهما من إيجاد الوسائل للحفاظ على وجودهما في مواجهة أساليب إسرائيل الهجومية المتعددة، بما في ذلك المراقبة الاستخباراتية والاستهداف الدقيق.
وأظهرت المقاومة كذلك قدرتها على التغلّب على الحصار من خلال التركيز على الإنتاج المحلي للسلاح بدلاً من الاعتماد على الإمدادات الخارجية، وهو إجراء تطلّبه كذلك ظهور نظام عسكري جديد غير ودّي في مصر بعد سنة 2013. وانكبّت "حماس" على تطوير قدراتها في مجال الطائرات المسيّرة عن بُعد، كما على تعزيز قدراتها الوليدة في مجال الحروب الإلكترونية والسيبرانية.
إسرائيل
على الرغم من أن إسرائيل بدت في مرحلة أولى كأنها تعتقد أن القوة النارية الجوية بمفردها أثبتت تأثيرها "الردعي" على "حماس" في سنة 2012، فإن مجرى المواجهة خلال "عملية الجرف الصامد" وبروز تهديد الأنفاق الهجومية قادا إسرائيل إلى إحياء فكرة الهجوم البرّي. لكن، في غياب هدف أكثر جذرية مثل إعادة احتلال القطاع فترة طويلة و/أو استئصال المقاومة، فإن الاجتياحات المحدودة في سنة 2014 لم تحقق سوى نتائج محدودة نسبياً.
وفي سنة 2014، بقيت مسألة الفعالية الدقيقة لـ"القبة الحديدية" موضع جدل، لكن المحلّلين الإسرائيليين اعتبروا أن "القبة" أزاحت عن القادة الإسرائيليين الضغط السياسي لتحقيق إنهاء سريع للمواجهة. وفي المقابل، مع استطالة أمد الحرب، ومع إطلاق إسرائيل 32،000 قذيفة مدفعية (مقارنةً بـ 8،000 قذيفة مدفعية أُطلقت في 2008-2009)، أخذ نزوعها إلى قتل الفلسطينيين يثير مزيداً من ردود الفعل الدولية. وأكّدت "عملية الجرف الصامد"، والعمليتان السابقتان في 2008 و2012، بروز "الحرب القانونية" lawfare"" (أي استخدام القانون أداة ضد خصم عسكري) كعنصر جوهري في الحروب المعاصرة، وخصوصاً بفعل الحضور الدولي المستمر للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
ووفق المصادر الإسرائيلية والأميركية، فإن الجيش الإسرائيلي أعاد إحياء استثماره في المركبات المعزّزة بحماية نظام ’تروفي’ المضاد لقذائف الـ’آر بي جي’ (القذائف المدفوعة صاروخياً) والأسلحة الموجّهة المضادة للدبابات، من نمط ’نَمير’ وحاملة الجنود المدرّعة المُدَولَبة الأحدث ’إيتان’
وتمثّل أحد الدروس المستخلصة إسرائيلياً في الاستثمار في تكنولوجيا مواجهة الأنفاق وبناء جدار دفاعي جديد تحت الأرض، بُدئ به في سنة 2017. وفي السنوات التي تلت "عملية الجرف الصامد"، قامت إسرائيل باستثمار واسع في مجال المراقبة الإلكترونية وجمع المعلومات الاستخباراتية وفي دمج كل جوانب المعلومات ومعطيات المعارك في نظام يعمل ما بين الأطراف المعنية كافة في ساحة القتال. وهذا ما عزّزته استثمارات مماثلة في الذكاء الاصطناعي، وفي تكنولوجيا أشعة الليزر (كوسيلة لإعطاب قذائف الهاون والصواريخ)، واستخدام الروبوتات في المهمات القتالية الأشقّ والأخطر على حياة الجنود، مثل حرب الأنفاق.
ومهما يكن، فإن "حماس" والمقاومة ثبّتتا معادلة جديدة خلال "عملية الجرف الصامد" ترتكز على "التعطيل النوعي" للحياة الإسرائيلية في مقابل قدرة إسرائيل على تكبيد "الدمار الكمّي"، إذ كانت المحصلة الصافية، كما وصفها أحد المحللين الإسرائيليين، "تعادلاً غير متكافئ". أمّا كيف يمكن أن تُترجم هذه المعادلة عملياً في المستقبل، فذلك يبقى سؤالاً في قيد الإجابة.