في 21 كانون الأول/ ديسمبر، يعلن مجلس الوزراء الإسرائيلي أنه أعطى الجيش الضوء الأخضر للهجوم على أهداف غير محددة تعود لـ "
خلفية
شكّلت الحرب على غزة (2008-2009) ذروة سلسلة العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد القطاع التي بدأت خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي لم تفصل فيما بينها سوى اتفاقات هشّة لوقف النار. فخلال الفترة بين تشرين الأول/ أكتوبر 2003 وكانون الثاني/ يناير 2005، شن الجيش الإسرائيلي قبل انسحابه من قطاع غزة اثنتي عشرة عملية عسكرية .... فقام باغتيال قادة كبار من حركة "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي، كما وجّه ضربات جوية ومدفعية، وشن عمليات غزو برّية متكررة كانت تستمر عدة أيام في كل مرة، وقام بهدم تجمّعات سكنية فلسطينية لإقامة مناطق عازلة على امتداد حدود غزة الشمالية والجنوبية. ووصلت الخسائر البشرية الفلسطينية خلال هذه الفترة إلى ما لا يقل عن 191 قتيلاً و1130 جريحاً، فيما قُتل 18 مدنياً إسرائيلياً وجُرح 38.
ومباشرة بعد إتمام الانسحاب من غزة في آب/ أغسطس 2005، صعّدت إسرائيل الاغتيالات التي استهدفت حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية، وهو ما دفع الفصيلين، المتمركزين في غزة، إلى الردّ بإطلاق صواريخ وقذائف هاون باتجاه إسرائيل. وقد عرضت الحركتان تكراراً وقفاً لإطلاق النار على جبهتي غزة والضفة الغربية في آن واحد، على أن تتوقف إسرائيل عن ملاحقة عناصرهما في الضفة. غير أن إسرائيل رفضت بشدة مثل هذا الربط، على اعتبار أنه قد يقيّد حرية عملها في الضفة الغربية. لذلك لم يكن هناك أي حافز لدى "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي للموافقة على وقف دائم للنار ينحصر في غزة ويُطلِق أيدي إسرائيل لملاحقة واغتيال كوادرهما ونشطائهما في الضفة الغربية. وبين أيلول/ سبتمبر 2005 وتشرين الثاني/ نوفمبر 2006، شنّت إسرائيل ثماني عمليات أُخرى استهدفت كبح جماح المقاومة الفلسطينية وتوسيع المناطق العازلة لمصلحة إسرائيل داخل قطاع غزة.
وفي كانون الثاني/ يناير 2006، فازت "حماس" في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني. وتعرّضت الحكومة التي شكّلتها برئاسة إسماعيل هنية في آذار/ مارس للمقاطعة من ’اللجنة الرباعية’ الخاصة بالشرق الأوسط (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الأمم المتحدة)، وأعلنت إسرائيل في نيسان/ أبريل 2006 السلطة الفلسطينية التي تقودها "حماس" "كياناً معادياً". وفشلت عدة محاولات لتشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها "حماس" وحركة "فتح"، وفي نهاية المطاف سيطرت "حماس" على غزة في حزيران/ يونيو 2007. لكن الرئيس محمود عباس كان قد تمكّن، في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2006، من تأمين اتفاق غير مكتوب لوقف إطلاق النار مدة ستة أشهر بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية (باستثناء حركة الجهاد الإسلامي) في غزة.
وبين نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 وأواخر شباط/ فبراير 2008 – 15 شهراً بالتمام –، صمد وقف النار بشكل عام، على الرغم من مواصلة إسرائيل البحث عن الجندي غلعاد شاليط (الذي كان قد أُسر في حزيران/ يونيو 2006)، وعلى الرغم من حصار إسرائيل المتواصل وعملياتها العسكرية الروتينية. وفي 27 شباط 2008، شنّت إسرائيل "عملية الشتاء الساخن" رداً على إطلاق صورايخ من غزة، فنجم عنها مقتل 111 فلسطينياً (نصفهم على الأقل من المدنيين) وأُصيب أكثر من 400 فلسطيني بجراح، أغلبهم من المدنيين كذلك. ومن الجانب الإسرائيلي، قُتل جنديان ومدني واحد. وبين آذار/ مارس وحزيران/ يونيو 2008، استمر تبادل الهجمات وإطلاق الصواريخ بين إسرائيل وغزة، الأمر الذي دفع مصر إلى القيام بمحاولات مكثفة للتوصّل إلى وقف للنار. غير إنه، في 19 حزيران 2008، اتفقت "حماس" وإسرائيل "من حيث المبدأ" على وقف للنار على مراحل لمدة ستة أشهر. والتزمت "حماس" إلى حدٍ بعيد بوقف النار حتى 4 تشرين الثاني/ نوفمبر.
كان قطاع غزة، قبيل قيام إسرائيل بشنّ "عملية الرصاص المسبوك" في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008، قد خضع لأشكال متعددة من الإغلاق. فكانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في القطاع في أواخر 2008 قاسية إلى حد بعيد، وواجهت "حماس" ضغطاً داخلياً متنامياً للتحرك العملي من أجل إنهاء الحصار، أو تجديد وقف النار بشروط أفضل. وبينما كانت "حماس" تدرس خياراتها، أقدمت إسرائيل على اغتيال قائد كبير في حركة الجهاد الإٍسلامي في جنين في 15 كانون الأول/ ديسمبر، وهو ما أدى إلى هجمات متبادلة بين إسرائيل و"حماس". وفي 18 كانون الأول، أعلنت "حماس" أنها لن تجدّد وقف النار. وبعد خمسة أيام، قام الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار وقتل ثلاثة عناصر من الحركة قرب السياج الحدودي، في خرق صارخ لوقف إطلاق النار. وفي 26 كانون الأول، صادق وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك على خطة هجوم مفصّلة عُرفت باسم "عملية الرصاص المسبوك". وستُطلِق عليها "حماس" اسم "معركة الفرقان" (المعركة بين الحق والباطل).
مراحل ثلاث للهجوم
جرى التخطيط للعملية الإسرائيلية لتكون على ثلاث مراحل: (1) هجوم جوي لتدمير قائمة من الأهداف التي جُمّعت خلال الأشهر الستة السابقة، (2) اجتياح برّي لمناطق مفتوحة أو ضواحي المدن لتأمين السيطرة على المناطق التي تم إطلاق الصواريخ الفلسطينية منها على إسرائيل، ولملاحقة أهداف أُخرى لها علاقة بـحماس، و(3) توغلات عميقة في المدن والمخيمات الفلسطينية بهدف "توجيه ضربة قاضية" لـحماس.
بدأت المرحلة الأولى بهجوم جوي في منتصف نهار 27 كانون الأول، استهدف أكثر من خمسين هدفاً في أنحاء قطاع غزة، بما في ذلك احتفال لتخريج عناصر من الشرطة، وهو ما أدى إلى مقتل 60 متخرجاً جديداً. وتجاوز عدد القتلى، مع نهاية اليوم، 228 فلسطينياً، وعدد الجرحى الـ 700. وكان ذلك أكبر عدد من الخسائر البشرية الفلسطينية في الأراضي المحتلة في يومٍ واحد منذ سنة 1967. وشهد الأسبوع التالي بصورة أساسية مناوشات عسكرية بين القوة الجوية الإسرائيلية (التي عزّزها قصف بحري وضربات مدفعية) وبين الفصائل الفلسطينية التي قامت بإطلاق الصواريخ وقذائف الهاون الموجهة بصورة خاصة نحو "غلاف غزة" (التجمعات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع). وأصاب صاروخ فلسطيني، يوم 30 كانون الأول، مدينة بئر السبع، الواقعة على بعد 40 كيلومتراً من حدود غزة، مسجّلاً الضربة الأبعد مدى حتى ذلك التاريخ.
ومع اتضاح معالم المرحلة الأولى، ركزت إسرائيل على: (أ) القدرات العسكرية لـحماس والمقاومة، بما في ذلك مواقع إطلاق الصواريخ وتصنيعها؛ (ب) قادة المقاومة والقادة العسكريين، بما في ذلك مقرات رئيس الحكومة إسماعيل هنية؛ (ج) أنفاق التهريب على امتداد حدود رفح؛ (د) المرافق الأساسية، مثل شبكة الكهرباء في غزة. كما ضُرب العديد من مخازن الأسلحة. وصادق المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر على بدء المرحلة الثانية، بعد أن رفض مقترحاً فرنسياً للهدنة يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار.
بدأت المرحلة الثانية عصر يوم 3 كانون الثاني/ يناير 2009، بإطلاق وابل كثيف من القذائف المدفعية. وأُرسلت قوات برّية إلى داخل غزة للمرة الأولى: مظليو ’غفعاتي’، وألوية ’غولاني’، واللواء المدرع 410، إلى جانب دعم مدفعي ووحدات هندسة واستخبارات خاصة – بحيث تخطى العدد الإجمالي، بقليل، 10 آلاف عسكري. وانتشرت القوات الإسرائيلية بسرعة لتقسيم القطاع إلى ثلاث مناطق عملياتية رئيسية: منطقة شمالية تشمل المساحة الواقعة بين حدود غزة الشمالية ومفترق نتساريم، ومنطقة وسطى تغطي المساحة الواقعة بين مفترق نتساريم وخان يونس، ومنطقة جنوبية تغطي المساحة الواقعة بين خان يونس وحدود رفح.
وخلال الأسبوعين التاليين، ركّزت العمليات الإسرائيلية على تأمين السيطرة على مناطق مفتوحة وعلى تطويق المدن ومخيمات اللاجئين، لكنها تجنبت التوغل عميقاً في المناطق كثيفة السكان. وبعد قتال عنيف في أطراف القسم الشمالي من مدينة غزة، وسّع الجيش الإسرائيلي هجماته على خان يونس في جنوبي غزة، وأعلنت الحكومة الإسرائيلية في 11 كانون الثاني توجّهها لاستدعاء قوات الاحتياط. وبينما امتدت الحرب إلى أسبوع ثالث على النسق السابق نفسه إلى حد كبير، بدأ الضغط الدولي على إسرائيل يتنامى، مع تعبير اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن قلقها إزاء الخسائر البشرية الفلسطينية في صفوف المدنيين. وفي 11 كانون الثاني، قامت إسرائيل بالتوغلات البرية الأعمق داخل مدينة غزة، فشنّت هجوماً على جبهتين أدى إلى مواجهات قتالية وصفت بالأشد عنفاً منذ بدء الحرب، وهو ما دفع العديد من السكان إلى الهرب، ورفع عدد الغزيين الذين تركوا منازلهم إلى نحو 90.000.
وخلال الأسبوع التالي من القتال، صعّدت إسرائيل بشكل لافت حدة هجماتها الجوية والبحرية (على الرغم من المساعي المصرية لترتيب وقف لإطلاق النار) في محاولة واضحة لتحسين موقعها التفاوضي ولإرجاء الحاجة إلى الانتقال إلى المرحلة الثالثة، التي يمكن أن تقود إلى خسائر بشرية إسرائيلية كبيرة وإلى تكلفة سياسية داخلية ودولية عالية. وفي 15 كانون الثاني، قصفت إسرائيل مجمّع أبنية تابع لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى ’أونروا’ في مدينة غزة، مستخدمة قذائف شديدة الانفجار وقنابل الفوسفور الأبيض. وأدّى الهجوم على المجمع الذي يؤوي 700 مدني إلى احتجاجات دولية شديدة اللهجة. وخلال اليومين التاليين، وفيما كانت التحركات الدبلوماسية من أجل وقف النار تتكثف، صعّدت إٍسرائيل ضرباتها، التي اشتملت على قصف كثيف طال أكثر من 100 نفق على امتداد حدود رفح. وفي 18 كانون الثاني، تم التوصل إلى اتفاق لوقف النار، بعد ثلاثة وعشرين يوماً من بدء الهجوم الإسرائيلي. واستُكمل الانسحاب الإسرائيلي يوم 21 من الشهر نفسه.
الخسائر البشرية والمادية
تتفق معظم المصادر على أرقام الخسائر البشرية الفلسطينية. فبحسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، المُعتبر عادة المصدر الأكثر موثوقية، سقط 1417 قتيلاً فلسطينياً، بينهم 926 من المدنيين (65 بالمئة) و255 شرطياً مدنياً غير مشاركين في العمليات العسكرية (18 بالمئة) و236 مقاتلاً (17 بالمئة). وبين الضحايا المدنيين قُتل 313 طفلاً (22 بالمئة من إجمالي القتلى الفلسطينيين)، بالإضافة إلى 116 إمرأة (8 بالمئة من المجموع)، وما لا يقل عن 7 من العاملين في القطاع الطبي (1 بالمئة من المجموع). وقُدّر عدد الفلسطينيين الجرحى بـ"أكثر من 5000". من جانبها، أعلنت إسرائيل مقتل 1166 فلسطينياً، مصنّفة 709 منهم "عناصر إرهابية" و295 "غير مقاتلين" (بمن فيهم 89 طفلاً – أقل من 16 عاماً-، و49 إمرأة)، مع اعتبار الـ162 الباقين "غير معروفين".
وفي الجانب الإسرائيلي، أعلنت إسرائيل سقوط 14 قتيلاً لديها: 3 مدنيين إسرائيليين وجندي واحد قُتلوا داخل إسرائيل بالنيران الفلسطينية، و4 جنود قُتلوا بـ"نيران صديقة" داخل غزة، و6 جنود قُتلوا داخل قطاع غزة برصاص الفلسطينيين. كما أعلنت إصابة 336 جندياً و182 مدنياً آخرين بجراح.
وبالنسبة إلى الخسائر المادية، فقد دُمّر نحو 6400 منزل فلسطيني، وأُصيب 46.000 منزل بأضرار جسيمة، وهو ما ترك 100.000 فلسطيني بلا مأوى. ولحق خراب واسع بمنشآت حكومية ومؤسسات تعليمية ودينية ومرافق صناعية، وقُدّر حجم الخسائر الإجمالية في الأملاك بما قيمته 1.6 – 1.9 مليار دولار. وأحدثت الصورايخ الفلسطينية إرباكاً واسعاً في إسرائيل: إذ كان نحو 800.000 شخص تقريباً في الحيز الواسع الواقع ضمن مرمى الصواريخ، وقد أُغلقت المدارس العامة والجامعات في أنحاء القسم الجنوبي من البلد، وأُصيب ما لا يقل عن 584 شخصاً بالصدمة و"متلازمة القلق".
تحليل وتقويم
فشلت إسرائيل في تحقيق نصر حاسم أو استراتيجي في عملية "الرصاص المسبوك" (أو في حملاتها المتلاحقة على غزة)، على الرغم من أنها ألحقت قدراً كبيراً من الموت والدمار بالقطاع. وخرج معظم قادة "حماس" (ومقاتليها) أحياء بعد تلك العملية ، ولم تتعرّض سيطرة التنظيم على قطاع غزة للخطر. وأكثر من ذلك، حافظت "حماس" على أسلحة وعلى أنفاق تحت المناطق الحدودية بين غزة ومصر، وهو ما مكّنها من مواصلة تهريب مزيد من السلاح عبرها. وفعلاً، تركت عملية "الرصاص المسبوك" إسرائيل في مأزق استراتيجي ما زال يترتب عليها أن تجد حلاً له؛ كانت تحتاج إلى استخدام ما يكفي من القوة لردع "حماس" من الهجوم أو الرد على الخطوات الإسرائيلية، لكن لم يتوفر لديها الإمكان و/ أو الإرادة لإعادة احتلال غزة، وهو ما كان عليها أن تفعله لتلحق هزيمة حاسمة بحماس. وفي ظل غياب الإجابة عن سؤال "اليوم التالي" لأي احتلال مفترض، فإن أي توجه لإعادة الاحتلال سيؤدي إلى توريط إسرائيل في وجود جديد طويل الأمد ومُكلف من دون أفق زمني محدد، وفي ظل تهديد مستمر باحتمال سيطرة تنظيم أكثر تشدداً على غزة بعد انسحاب إسرائيلي و/ أو في حال عدم تحقق إعادة سيطرة سلطة رام الله الفلسطينية على القطاع.
وعكست عملية "الرصاص المسبوك" كذلك تغيّراً ذا مغزى في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي. فقد أدت قدرة المقاومة الفلسطينية على إطلاق صواريخ داخل إسرائيل إلى تسريع الاتجاه نحو اعتماد فكرة "الأمن الوطني" (homeland defense) كإضافة جديدة وغير مسبوقة حتى ذلك الحين على عقيدة إسرائيل القائمة عادة على الهجوم. (ومع أن هذه العقيدة قد وردت في ’تقرير ميريدور’ في نيسان/ أبريل 2006، إلاّ إنها لن تصبح جزءاً رسمياً من العقيدة الإسرائيلية إلاّ في سنة 2015). وعلى مستوى عملياتي، انتقلت إسرائيل بعد سنة 2008 إلى وسائل دفاعية تقنية/تكنولوجية، وصلت ذروتها في نشر نظام ’القبّة الحديدية’ في سنة 2011.
وأبدت إسرائيل، خلال عملية "الرصاص المسبوك"، مؤشرات على الاستثمار في وسائل أكثر فعالية في الدفاع عن قواتها في الميدان، فزودت دبابتها ’ميركافا’ الأحدث، للمرة الأولى، بنظام "تروفي" (Trophy) لحمايتها من القذائف المضادة للدروع، واستخدمت جرافات ’د9’ (D9) المصفحة ضد استحكامات المقاومة المحصّنة ومواقعها الدفاعية. وعلى نطاق واسع، استخدمت الطائرات من دون طيار في عمليات الاستهداف وجمع المعلومات الاستخبارية. كما اختبرت وسائل جديدة لرسم الخرائط الرقمية وأنظمة (C4I)، وحرب الروبوتات، والحرب الإلكترونية والسيبرانية، وفرق كلاب التعقّب البوليسية. ولاحقاً، تم دمج كل هذه الأساليب بشكل أكبر في ممارسات إسرائيل العملياتية.
أمّا بالنسبة إلى "حماس"، فقد اعتمد مقاتلوها تكتيكات حرب العصابات. فسعوا لتفادي المواجهات الكبيرة المفتوحة مع القوات الإسرائيلية الأفضل تسليحاً، والاستفادة بالحد الأقصى من الاستخدام الدفاعي للبيئة المدينية التي تُبطِل مزايا إسرائيل التقنية والتكتية. واستُخدمت الأنفاق للاحتماء الدفاعي من الضربات الجوية والبحرية، وكمراكز قيادة ولتصنيع الذخائر والصواريخ وتخزينها. كما استخدمت الأنفاق كوسيلة احتماء لشن الهجمات المفاجئة ولنصب الأفخاخ والعبوات الناسفة ووسائل دفاعية أُخرى لمناكفة القوات الإسرائيلية ومشاغلتها. وبصورة خاصة، تواصلت هجمات الصواريخ الفلسطينية على جنوب إسرائيل بلا هوادة طوال عملية "الرصاص المسبوك"، وإن بوتائر متغيّرة: ففي اليوم الأول من المواجهات جرى إطلاق 59 صاروخاً، في حين وصل عدد الصواريخ يوم 10 كانون الثاني/يناير إلى حد أدنى من 9 صواريخ، ثم عاد إلى الارتفاع ليصل إلى 19 صاروخاً في اليوم الأخير، يوم 18 كانون الثاني/يناير. وعزّز استمرار إطلاق الصواريخ من الشعور بأن إسرائيل فشلت في تحقيق هدفها المعلن.
كان الاستنتاج الأهم بالنسبة إلى "حماس" وحركة المقاومة من هجوم 2008 الإسرائيلي ضرورة السعي للحصول على وسائل جديدة لمواجهة إسرائيل وتقويض ردعها واستراتيجيتها المرتكزة على الدفاع، من خلال مقاربة ثلاثية الأضلاع، تشمل: (أ) الحصول على صواريخ ذات أمد أبعد ودقة أكبر يمكن أن تضرب أهدافاً أبعد ويكون لها وقع أكبر داخل إسرائيل، أو تطوير إنتاج مثل هذه الصواريخ محلياً؛ (ب) تعزيز المجمّع الدفاعي تحت الأرض في غزة من أجل حماية المقاتلين والقادة ومرافق تصنيع الصواريخ؛ (ج) تطوير عقيدة أكثر "هجومية" ترتكز على الأنفاق والتسلّل البري والبحري (من نمط وحدات الرجال الضفادع) إلى الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل. وبقيت تجربة الجندي الأسير شاليط ماثلة أمام أعين "حماس" والمقاومة، اللتين شدّدتا إلى حدٍ كبير كذلك على أهمية أسر أسرى إسرائيليين كوسيلة لممارسة ضغط معنوي على إسرائيل ومتابعة المطمح الوطني الفلسطيني، القائم منذ زمن بعيد، لتحرير مقاتلين وأسرى سياسيين معتقلين في السجون الإسرائيلية (أُفرج عن شاليط في نهاية المطاف سنة 2011 في مقابل 1027 فلسطينياً معتقلاً في السجون الإسرائيلية). وسعت حماس أيضاً، بعد 2008، إلى تطوير قدرتها المحلية على إنتاج الصواريخ على نطاق أكبر، حتى تقلل من الاعتماد على تهريب السلاح من الخارج. ومع ذلك، فإن محاولتها استخدام القوة وسيلة لكسر الحصار، سواء بصورة مباشرة أو من خلال تحشيد الضغط الدولي على إسرائيل، لم تكن ناجحة في 2008، كما لاقت استراتيجيتها طويلة الأمد لاستخدام غزة كمنصة لتوسيع دورها السياسي وحضورها نجاحاً محدوداً منذ ذلك الحين.
من جانبها، سعت إسرائيل، بعد تجربتيها في لبنان سنة 2006 وفي غزة في 2008-2009، للتكيّف مع صعوبة ضمان الحسم العسكري الواضح من خلال استخدام قوة مركّزة كوسيلة لتأجيل الجولة التالية من الصراع، أو ما عُرف لاحقاً باسم "جزّ العُشب". وقد تجسّدت المشكلة في كون ذلك يفترض أن الطرف المقابل لن يستطيع مراكمة ما يكفي من القوة في المهلة بين مواجهتين بحيث يتمكّن من رفع كلفة الأعمال الإسرائيلية المستقبلية أكثر مما هو مقبول أو قابل للاحتمال من وجهة النظر الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، وبصورة أوسع، ما أثبتته "حماس" (وما كان حزب الله قد ثبّته قبل ذلك خلال حرب الجنوب اللبناني سنة 2006) هو أن مقياس الهزيمة والنصر في الحروب الحديثة غير المتكافئة بين قوات نظامية (تابعة لدولة) وأطراف مسلّحة غير دولانية قد تغيّر. فالطرف الأضعف لديه الأفضلية لادّعاء النصر على أرضية مجرد محافظته على وجوده، والطرف الأقوى يبدو عاجزاً (إن لم يكن مهزوماً) طالما حافظ الطرف الآخر على قدرته على مواصلة المعركة. وهكذا (كما مع حزب الله في سنة 2006)، قوّضت قدرة "حماس" وحلفائها على الحفاظ على وتيرة متواصلة، وإن متضائلة، من إطلاق الصواريخ خلال مواجهة 2008-2009 ادّعاءات إسرائيل بالنصر.
وكان لعملية "الرصاص المسبوك" عواقب أُخرى. فمع القدرة المتزايدة لشبكات التلفزيون الفضائية على نقل صور حيّة من مناطق القتال (وهو ما وسّعت نطاقه وسائل التواصل الاجتماعي لاحقاً)، كان على إسرائيل أن تواجه قضية علاقات عامة على الصعيد الدولي مع زيادة عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين، ولا سيما من النساء والأطفال. وقاد عدم التناسب في عدد الضحايا بين الجانبين كذلك إلى تساؤلات بشأن مسوّغات لجوء إسرائيل إلى القوة ومشروعيته. وكنتيجة مباشرة، شكّل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بعثة لتقصّي الحقائق للتمحيص في الادعاءات المتبادلة بشأن جرائم الحرب خلال المواجهة. وقدمت البعثة تقريرها (تقرير غولدستون)، ومع أنه كان في المحصّلة مخيّباً للآمال، لكنه مع ذلك ثبّت سابقة دولية في تعريض إسرائيل للمحاسبة. وطرحت حرب 2008، والحملات الإسرائيلية اللاحقة، على بساط البحث المسوغات القانونية للجوء إسرائيل إلى القوة، ومسألة عدم تناسب استخدام القوة من جانبها، وهو ما ترك أثراً سلبياً على صورتها أمام الرأي العام العالمي؛ ومع إدراك إسرائيل أن بروز صورة سلبية لها قد يقيّد حرية عملها العسكري، إلا أنها لم تنجح في إيجاد وسائل واضحة لتخفيف الأثر السلبي لصورة قوة إقليمية كبرى تطلق العنان لكامل قدراتها العسكرية في مواجهة قوة غير نظامية صغيرة نسبياً، ومحصورة في مساحة جغرافية ضيّقة، مكتظة بالمدنيين.