شهدت الفترة بين سنتي 1982 و1987 خسارة منظمة التحرير الفلسطينية قاعدة عملها في لبنان نتيجةَ الاجتياح الإسرائيلي لهذا البلد في سنة 1982، ما تسبّب بانشقاق داخل حركة "فتح" وانقسامات بين الفصائل داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وتحول استراتيجي من رئيس المنظمة ياسر عرفات في اتجاه تسوية تفاوضية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والعودة إلى التنسيق مع مصر والأردن. لكنّ توجّه عرفات لم يؤدِّ إلى الدفع نحو تقدم ملموس في مسار التسوية، فإسرائيل كانت في موقع القوة على المستوى الاستراتيجي الإقليمي وفي ما يتعلق بالاستيطان في الأراضي المحتلة.
وانتهت تلك الفترة بمصالحة بين التنظيمات الفلسطينية الرئيسية، عدا تلك المرتبطة بسوريا، فيما كانت المناطق المحتلة تعيش ناراً تحت الرماد عشية اندلاع الانتفاضة الأولى نهاية سنة 1987.
كانت معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية الموقعة في آذار/ مارس 1979 قد ألغت التهديد الاستراتيجي للجيش المصري على الجبهة الجنوبية لإسرائيل، وبالتالي أفسحت في المجال أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن ووزير الدفاع أريئل شارون لاستخدام الجيش الإسرائيلي في هزيمة ما يقدر بما بين 15,000 و18,000 مقاتل تابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. وكان مآل إبعاد إسرائيل شبه الدولة الفلسطينية على أرض لبنان (المتمثلة بقيادتها السياسية والعسكرية وأجهزتها البيروقراطية وتشكيلاتها العسكرية) ليس إزالة تهديد قوة معادية من حدودها الشمالية فحسب، بل أيضاً إضعاف نفوذ المنظمة على المستويين الاقليمي والدولي وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث كانت حكومة بيغن تمعن في إقامة المستعمرات اليهودية للحفاظ على سيطرة إسرائيل على المنطقتين.
كان العام الذي سبق حرب 1982 شهد هدوءاً هشاً على الحدود الإسرائيلية- اللبنانية، نتيجة اتفاق لوقف إطلاق النار جرى التوصل إليه في تموز/ يوليو 1981 بوساطة أميركية غير مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. لكن إسرائيل اتخذت في 6 حزيران/ يونيو 1982 محاولة مجموعة فلسطينية مناهضة لمنظمة التحرير اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، ذريعة لاجتياح لبنان والوصول إلى عاصمته، على رغم ادعاء شارون بدايةً أن إسرائيل لا تريد التقدّم سوى مسافة 40 كيلومتراً داخل لبنان لإيجاد "منطقة أمنية" وتطهيرها من الفدائيين، إلا أنه سرعان ما أمر 76,000 من الجنود الإسرائيليين وأكثر من 1،000 دبابة بالمضي قدماً نحو بيروت.
وخلال الحرب دخلت إسرائيل، بالإضافة إلى المعارك الضارية التي خاضتها مع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية والميليشيات اللبنانية المتحالفة معها، في مواجهات مدرعة وجوية مع القوات السورية المتواجدة على أرض لبنان، ما أدى إلى خسارة الأخيرة أكثر من 80 طائرة سورية.
تمكّن الإسرائيليون بسرعة من تطويق بيروت الغربية، حيث مقر منظمة التحرير الفلسطينية، فحاصروها صيفاً لمدة شهرين ونصف، معرِّضينها لقصف عنيف ومستمر من البر والجو والبحر، مع محاولات دؤوبة ومتكررة من الجيش الإسرائيلي لاقتحام المدينة من دون أن يُفلح سوى في احتلال مساحات مفتوحة جنوب بيروت.
وفي نهاية المطاف، وافق ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية المحاصرة على إخلاء بيروت بموجب اتفاق آخر بوساطة أميركية دخل حيز التنفيذ في 19 آب/ أغسطس، ونص على مغادرة حوالى 14,000 مقاتل من منظمة التحرير الفلسطينية المدينة في ظل حماية قوة متعددة الجنسيات تألفت من جنود فرنسيين وإيطاليين وأميركيين، على أن تضمن هذه القوة أيضاً سلامة اللاجئين الفلسطينيين في بيروت، وعدم السماح للقوات الإسرائيلية بدخول بيروت الغربية. وكان من ضمن المغادرين عرفات نفسه، في سفينة اتجهت إلى تونس، حيث أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية مقرها الجديد.
إلا أنه عقب اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل في 14 أيلول/ سبتمبر 1982، اندفعت القوات الإسرائيلية المرابطة على حدود بيروت الغربية إلى داخلها، فلم تجد مقاومة تُذكر بعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين، وطوقت مخيم شاتيلا اللاجئين وحي صبرا، وسمحت لعناصر الكتائب (الميليشيا التي كان الجميل القتيل يرأسها) وغيرهم من المقاتلين اللبنانيين المناهضين لمنظمة التحرير الفلسطينية، بدخول المخيمات، ليقوم هؤلاء بقتل أكثر من 3000 مدني فلسطيني أعزل، في ما عُرف بعد ذلك بـ"مجزرة صبرا وشاتيلا".
أدانت الأمم المتحدة المجزرة، وقضت لجنة تحقيق إسرائيلية بتحميل شارون "مسؤولية شخصية" عن الجريمة. إضافة إلى ذلك، سلطت المذبحة الضوء على حقيقة ضعف المدنيين الفلسطينيين في غياب قوات منظمة التحرير الفلسطينية.
وظهرت نتيجةً للحرب خطتا سلام أميركية وعربية لحل دبلوماسي للصراع العربي الإسرائيلي:
اقترحت خطة الرئيس الأميركي رونالد ريغان، المعلن عنها في 1 أيلول/ سبتمبر 1982، حكماً ذاتياً فلسطينياً في الضفة الغربية وقطاع غزة قد يُربط لاحقاً بالأردن.
أما مبادرة فاس التي تبنتها القمة العربية، فجاءت بعد أسبوع واحد من خطة ريغان، وكانت شبيهة بخطة ولي العهد السعودي (آنذاك) الأمير فهد بن عبد العزيز الصادرة في آب/ أغسطس 1981، وتضمنت الدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية مقابل اعتراف عربي ضمني بإسرائيل.
واستفحلت الخلافات الخطيرة داخل الحركة الوطنية الفلسطينية نتيجة حرب لبنان، فقد اندلعت حركة تمرد كبيرة داخل "فتح" أدت إلى إضعاف نفوذ عرفات داخلها، حين قام ضابط عسكري رفيع المستوى في الحركة وكان مسؤولاً عن تنظيم عملية الدفاع عن بيروت خلال الحرب، وهو سعيد مراغة (أبو موسى)، في شهر أيار/ مايو 1983 بانتقاد عرفات علناً لمواقفه السياسية المتمثلة بالتقارب مع الأردن والاستعداد للتفاوض على أساس خطة ريغان وسوء إدارته الأمور داخل فتح، مثل ترقيته عدداً من الضباط الذين لا يستحقون الترقية. وبعد ذلك بفترة قصيرة، وبدعم من سوريا، استحوذ مقاتلون موالون لأبو موسى على مستودعات الأسلحة التابعة لحركة فتح، وانتشر التمرد داخل حركة فتح ليشمل جماعات فلسطينية أخرى معادية لعرفات، بما في ذلك "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة" بقيادة أحمد جبريل.
واندلع القتال بين الموالين لعرفات ومقاتلي أبو موسى، الذين صاروا يُعرفون باسم "فتح الانتفاضة"، فتمكن مقاتلو أبو موسى من إخراج الموالين لعرفات من غالبية الأراضي اللبنانية، على الرغم من سفر عرفات نفسه إلى طرابلس شمال لبنان لشحذ همة مقاتليه، ولكن قَبِلَ حوالى 4,000 من الموالين لعرفات في نهاية المطاف بوساطة سعودية يتم بموجبها إجلاؤهم على سفن يونانية ترفع علم الأمم المتحدة، فتم ذلك في شهر كانون الأول/ ديسمبر 1983.
عقب انشقاق أبو موسى حدث استقطاب شديد داخل منظمة التحرير الفلسطينية، فمن جهة كانت التنظيمات الفلسطينية الموالية لسوريا (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، الصاعقة، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، فتح الانتفاضة) تدعو إلى تنحية عرفات وإلى تشكيل منظمة تحرير بديلة، ومن جهة أخرى برزت مجموعة أخرى (تضم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، جبهة التحرير الفلسطينية والحزب الشيوعي الفلسطيني) توافقت مع الأولى في معارضة قيادة عرفات والتنسيق الفلسطيني- الأردني، لكنها لم تكن مستعدة للتخلي عن منظمة التحرير الفلسطينية أو العمل تحت المظلة السورية بشكل مباشر، فشكلت في آذار/ مارس 1984 تجمعاً سمّته "التحالف الديموقراطي" وباشرت حواراً سياسياً مع قيادة فتح. أما التنظيمات الموالية لسوريا، فألّفت بدورها في تموز/ يوليو 1984 تجمّعاً أطلقت عليه اسم "التحالف الوطني"، منتقدة الحوار الذي يجريه "التحالف الديموقراطي" مع فتح.
في هذه الأثناء، ومع استمرار الخسائر السياسية والعسكرية لمنظمة التحرير على الساحة اللبنانية وتوتر العلاقات مع سوريا والانقسامات الداخلية (التي ستتفاقم في "حرب المخيمات" في لبنان بين عامي 1985 و1987)، حاول الرئيس الفلسطيني الإبقاء على مكانة المنظمة دبلوماسياً وعلى دورها في المساعي المتعلقة بتسوية القضية الفلسطينية، فعرّج فور انسحابه من طرابلس في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 1983، على القاهرة والتقى الرئيس حسني مبارك، منهياً مقاطعة فلسطينية رسمية لمصر منذ رحلة السادات إلى إسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، كما أعاد المساعي للتنسيق مع الأردن بخصوص شروط التفاوض مع إسرائيل، وأثمر التقارب بين الملك حسين وعرفات عقْدَ الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في عمّان في تشرين الثاني/ نوفمبر 1984، مع أن كلاًّ من التحالفين "الديموقراطي" و"الوطني" كان مقاطعاً. وفي شباط/ فبراير 1985، توصل الرئيس عرفات إلى اتفاق مع الملك حسين ينص على خطة عمل مشترك تتضمن إنشاء وفد تفاوض فلسطيني- أردني مشترك، وعلى مبدأ إنشاء اتحاد كونفدرالي بين الأردن والدولة الفلسطينية المستقبلية.
لكن الاتفاق الأردني- الفلسطيني أبقى عدداً من النقاط مبهماً، وأهمها عدم إشارته صراحة، كما كان يرغب الأردن، إلى قرار مجلس الأمن رقم 242، وهو القرار الذي بقي الموقف منه منذ سنة 1974 حجرَ العثرة الفعلي في أي تقدم للعملية التفاوضية، ليس فقط على الصعيد الفلسطيني- الأردني، بل أساساً على صعيد أي حوار فلسطيني- أميركي محتمل، ففي حين كانت القيادة الفلسطينية تشترط إضافة بند "حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير" إلى القرار، اعتبرت الولايات المتحدة الاعتراف الفلسطيني غير المشروط بالقرار خطوة ضرورية (وغير كافية) لفتح أي حوار مع الفلسطينيين، إضافة إلى عدم التزامها بمشاركة منظمة التحرير في العملية التفاوضية.
وأدى هذا المأزق إلى إفشال المحادثات الأردنية الفلسطينية في بداية سنة 1986، ثم إلى وضع حد لها من الأردن في آذار/ مارس من السنة ذاتها، ما فتح الباب أمام مصالحة بين فتح والتنظيمات غير التابعة لسوريا في أيلول/ سبتمبر 1986، ثم انعقاد دورة المجلس الوطني في الجزائر بمشاركة هذه التنظيمات، في نيسان/ أبريل 1987.
أما إسرائيل، فقد تمسكت على الدوام برفض مطلق لأي دور لمنظمة التحرير مهما يكن في العملية السلمية، وهو موقف نفذته عملياً عندما قصفت جواً مقر عرفات في تونس في تشرين الأول/ أكتوبر 1985، إضافة إلى تسريع نشاطاتها الاستيطانية في المناطق المحتلة، في رسالة إضافية موجهة إلى فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، بأن الاحتلال سوف يستمر. غير ان اندلاع الانتفاضة في كانون الأول/ ديسمبر 1987 برهن لإسرائيل ولغيرها أن الأمور ليست بهذه البساطة.
درويش، محمود. "ذاكرة ... للنسيان ؛ الزمان : بيروت، المكان : يوم من أيام آب 1982". بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987.
سليمان، جابر. "15عاماً على حزيران/يونيو 1982: شهادات عن معركة "برج الشمالي" ومجازر القصف الإسرائيلي". "مجلة الدراسات الفلسطينية" العدد 32 (خريف 1997).
شبيب، سميح. "ردود الفعل العربية على الاتفاق الأردني الفلسطيني". "شؤون فلسطينية"، العدد 144-145 (آذار - نيسان 1985).
صايغ، يزيد. "الأردن والفلسطينيون: دراسة في وحدة المصير أو الصراع الحتمي". لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 1987.
صايغ، يزيد. "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
مؤسسة الدراسات الفلسطينية، "الاجتياح الإسرائيلي للبنان، 1982: دراسات سياسية وعسكرية". نيقوسيا: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984.
نويهض الحوت، بيان. "صبرا وشاتيلا، أيلول 1982". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003.
محتوى ذو صلة
عنف
قصف جوي إسرائيلي وقصف مدفعي فلسطيني عبر الحدود اللبنانية - الإسرائيلية
1982
4 حزيران 1982 - 5 حزيران 1982
دبلوماسي عنف
قرار م.أ. 508: دعوة جميع الأطراف إلى وقف الأعمال العسكرية داخل لبنان وعبر الحدود اللبنانيّة - الإسرائيليّة
1982
5 حزيران 1982