كان العقد الممتد بين سنتي 1936 و1948 في ظل الانتداب البريطاني، فترة محوريّة في تاريخ فلسطين الحديث مهّدت الطريق لضياعها. استُهلّ هذا العقد بثورة فلسطينية شاملة ضد الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني، وفي أعقاب القمع الوحشي لهذه الثورة عاشت فلسطين اضطرابات الحرب العالمية الثانية، كما عرفت في الوقت ذاته فترة ازدهار اقتصادي، نظراً لكونها موقعاً للتعبئة العسكرية للبريطانيين. في هذه الأثناء، دفع تطوّر خلاف بين البريطانيين والصهاينة بخصوص الهجرة غير الشرعية لليهود الأوروبيين الفارين من جحيم الأعمال النازية إلى فلسطين، الحركةَ الصهيونية عند نهاية الحرب إلى الاتجاه نحو الولايات المتحدة لتكون الراعي البديل من بريطانيا، الأمر الذي سمح للتجمع الاستيطاني اليهودي (الييشوف) بشنّ حملات سياسية وعسكرية لإجبار بريطانيا على الخروج من فلسطين، ولإقامة دولة إسرائيل رغماً من إرادة الفلسطينيين.
تحولت حالة الاستياء الفلسطيني العارم من الحكم البريطاني تمرّداً مفتوحاً سنة 1936، واستمرت الثورة العربية الكبرى (كما باتت تُعرف) ثلاث سنوات، ويمكن تقسيمها بشكل عام إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى- من ربيع 1936 إلى تموز/ يوليو 1937، ومن أهم مميزاتها: تشكيل اللجان الوطنية في المدن الفلسطينية الرئيسية، وإنشاء اللجنة العربية العليا كهيئة تنظيم سياسي، والإضراب العام في جميع المناطق الفلسطينية، والعصيان المسلح في المناطق الريفية، وقدوم متطوعين عرب من خارج فلسطين للمشاركة في الثورة. وقد واجه البريطانيون تلك الأحداث باتباع أساليب مكافحة التمرد التي تتضمن تدابير قمعية عنيفة، مثل الاعتقال، والتعذيب، وفرض الغرامات الجماعية، وتدمير أجزاء من المدينة القديمة في يافا... وغيرها من أشكال العنف، بالتزامن مع تكثيف وعودهم الدبلوماسية الكاذبة التي كان هدفها الحقيقي إخماد الثورة، وأحدها تمثّل في تشكيل لجنة تحقيق برئاسة اللورد بيل.
دفع الإرهاق الذي أصاب الشعب الفلسطيني بعد ستة أشهر من الإضراب العام، والقمعُ البريطاني، إضافة إلى وعود لجنة بيل بإحراز تقدّم على الصعيد السياسي، والضغط الذي مارسه الملوك والأمراء العرب، اللجنةَ العربية العليا إلى وقف الإضراب في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1936. وقامت لجنة بيل بعد ذلك بجولات عدة في الأراضي الفلسطينية من أجل الوقوف على أسباب الثورة، من تشرين الثاني/ نوفمبر 1936 حتى كانون الثاني/ يناير 1937، فتراجعت خلال تلك الفترة أعمال العنف في جميع أنحاء البلاد، لكن التوترات لم تلبث أن عاودت الظهور في ربيع 1937 وصَيفه، في تموز/ يوليو، مع إصدار لجنة بيل تقريرها الذي يوصي بتقسيم فلسطين دولتين، يهودية وعربية، فانفجرت فلسطين مجدداً.
كانت تلك بداية المرحلة الثانية من الثورة، واستمرت حتى خريف 1938، فكان ردّ الحكومة البريطانية على تجدّد المقاومة الفلسطينية حظرَ اللجنة العربية العليا والأحزاب السياسية والمنظمات الفلسطينية كافة، كما ألقت القبض على معظم القادة السياسيين والناشطين الفلسطينيين ونفت أبرزهم، وفرضت عقوبات شاملة على شكل حملات اعتقال جماعي، وتدمير أحياء سكنية، وفرض غرامات ضخمة، وكانت المحاكم العسكرية تصدر أحكاماً فورية بالإعدام لمجرد حيازة الأسلحة... وغيرها من الوسائل القمعية، على رغم أن الأحكام العرفية لم تُعلن رسمياً. واستعانت بريطانيا لمواجهة الثوار بتعزيزات عسكرية ثقيلة، مثل سلاح الجو والدبابات والمدفعية، وهمِّش دور اللجنة العربية العليا بعد إعادة تشكيلها في دمشق، حيث انتقلت المبادرة أكثر فأكثر إلى القادة الميدانيين، وبدأت الثورة تتخذ على نحو متزايد طابعاً فلاحياً، على رغم أن المكوّن الريفي كان مؤثراً فيها على الدوام، وحقّق الثوار الفلسطينيون مكاسب كبيرة على الأرض، إلى درجة فرضهم السيطرة على القدس القديمة لفترة معينة، في الوقت الذي كان التعاون البريطاني- الصهيوني في وجه الثوار يرسِّخ الهياكل العسكرية الصهيونية على الأرض.
في المرحلة الثالثة، التي امتدت من خريف 1938 إلى صيف 1939، وفي الوقت الذي شنّ البريطانيون هجوماً عسكرياً واسع النطاق ضد الثورة، أعلنوا تراجعهم عن قرار التقسيم واستعدادهم لقبول بعض مطالب الثورة، مع استغلالهم الضغط الذي مارسوه على الثوار من أجل تأليب بعض الفلسطينيين عليهم، إثر تصدعات أحدثها القمع البريطاني في المجتمع الفلسطيني، فقد استنزفت سنوات الثورة الثلاث هذا المجتمع وأرهقته، حيث استشهد حوالى 5,000 فلسطيني وجرح حوالى 15,000 من السكان الذين لم يكن عددهم يزيد على مليون نسمة، ونُفي القادة السياسيون أو قُتلوا أو وُضعوا بعضهم في مواجهة بعض.
وفي هذا السياق، طرحت بريطانيا كتاباً أبيض في أيار/ مايو 1939، اقترحت فيه فرض قيود على الهجرة اليهودية وعلى عمليات شراء الأراضي، ووعدت بدولة موحّدة مستقلة خلال عشر سنوات، شرط أن تكون العلاقات الفلسطينية- اليهودية مواتية. وقدم هذا الاقتراح، على رغم ما شابَه من قصور، مخرجاً للثوار من الضربات العسكرية البريطانية الساحقة، وهكذا اقتربت الثورة من نهايتها في صيف 1939.
وفرَضَ استحقاق جيوسياسي كبير خاضته بريطانيا تجاوُزَ التوجه السياسي الذي تضمّنه الكتاب الأبيض: إنها الحرب العالمية الثانية.
ظلّت اللجنة العربية العليا محظورة خلال الحرب، وبقي القادة السياسيون الفلسطينيون في المنفى، وفي سنة 1941 لجأ مفتي القدس ورئيس اللجنة العربية العليا الحاج أمين الحسيني إلى دول المحور ومكث فيها طوال سنوات الحرب، فاستغلّ الصهاينة ذلك للزعم أن الفلسطينيين يتعاونون مع النازية، في حين شهدت أرض الواقع بتطوّع حوالى 23,000 فلسطيني للخدمة مع القوات البريطانية في شمال أفريقية والجيش العربي، كما شارك آخرون في مختلف الوظائف التي تخدم القوات العسكرية البريطانية المتمركزة في فلسطين خلال فترة الحرب، ما جعل الاقتصاد الفلسطيني يزدهر حينها، وأنه على الرغم من خيبة الأمل المستمرة من السياسات البريطانية لدى الفلسطينيين، بقي تعاطفهم مع قوات المحور هامشياً.
في الحقيقة، كان الخلاف المتصاعد بين البريطانيين والحركة الصهيونية أهم بكثير من أي تقارب فلسطيني مع دول المحور خلال سنوات الحرب، فالعلاقات المتوترة أصلاً بسبب الاستياء الصهيوني من الكتاب الأبيض الصادر سنة 1939، عرفت مزيداً من التدهور جرّاء ضغط المنظمات الصهيونية على بريطانيا لرفع القيود عن هجرة اليهود إلى فلسطين خلال انشغال العالم بـ"المجزرة" الجارية في أوروبا، إضافة إلى استمرارها بتنظيم الهجرات غير الشرعية، التي تسببت محاولات بريطانيا إيقافها بغرق سفن تحمل لاجئين يهود سنتي 1940 و1942. وعلى رغم وجود حوالى 27,000 مجند يهودي في صفوف القوات المسلحة البريطانية في فلسطين، شنّ اليمين الصهيوني (عصابات الأرغون وشتيرن) هجمات عنيفة ضد المسؤولين البريطانيين، وبدأت الحركة الصهيونية بشكل أوسع عملية البحث عن راع بديل.
في أيار 1942، انعقد مؤتمر في فندق بلتيمور في نيويورك حضره كبار المسؤولين الصهاينة الأميركيين، ومثّل الوكالة اليهودية فيه دافيد بن غوريون. اختُتم المؤتمر بالدعوة إلى إنشاء"كومنولث يهودي" على كامل التراب الفلسطيني، وإلى إنشاء جيش يهودي. وفي آب/ أغسطس 1945، طلب الرئيس الأميركي هاري ترومان من بريطانيا تسهيل دخول 100,000 يهودي ناجٍ من الاضطهادات النازية إلى فلسطين، وطلب الكونغرس الأميركي في كانون الأول/ ديسمبر قبول عدد غير محدود من المهاجرين اليهود إلى فلسطين. واستمرت الضغوط الأميركية على بريطانيا خلال سنة 1946، وبدأ الصهاينة، مستندين إلى دعم القوة العظمى الجديدة ورعايتها، اللذين قوّيا موقفهم تجاه الفلسطينيين، حملةً منظمة –سياسياً وعسكرياً- لطرد بريطانيا من فلسطين وفرض قيام الدولة اليهودية على الشعب الفلسطيني.